بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(123)
وجه سابع لحجية الإجماع
وقد ظهر بما مضى وسيأتي، وجه آخر لحجية الإجماع أو فقل نوع آخر يضاف لأنواعه الست المعروفة كالإجماع الحدسي، واللطفي، والتقريري، والدخولي، والتشرفي([1])، إن لم نقل بانه تفصيل في الحدسي منه، وذلك يستنبط من ملاحظة تعريفهم للتواتر وحجيته.
المقياس الكمّي أو الكيفي أو المآلي في التواتر
وتوضيحه: ان المقياس والملاك في الحكم على موضوع بأمر تارة يكون كمّياً وأخرى كيفياً وثالثة مآلياً وبحسب ما يستفاد من برهان الإنّ، فمثلاً المناط والملاك في الشجاع وفي الشجاعة قد يكون الكمّ: بان يقال الشجاع هو من لا يهرب لدى مواجهة شخصين بل خمسة بل عشرة مثلاً([2]) وقد ذكرت الآية الشريفة مقياساً كمّياً للصابرين (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرينَ)([3]) بعد ان كان المقياس الكمّي مائة مقابل ألف إذ قال تعالى (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)([4]).
وقد يكون الكيف: بان يقال الشجاع من لا يهرب من مواجهة الأسد أو حتى الفيل أو حتى الديناصور.
وقد يكون المقياس المآل: بان يقال: الشجاع من يغلب خصمه مهما كان أو من ينتصر دوماً.
وفي المتواتر اعتمد المناطقة على المقياس المآلي دون الكمي أو الكيفي إذ لم يقولوا المتواتر هو ما نقله مائة شخص أو ألف أو عشرة آلاف، ولا قالوا المتواتر هو ما رواه خمسون من الثقات أو العلماء أو العظماء، بل اعتمدوا على المقياس المآلي إذ قالوا (اخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب والخطأ) فلم يحدَّد كمٌ ولا كيفٌ بل تُرك التعريف لمدارية المآل والبرهان الإنيّ أي ان ما امتنع تواطؤهم على الكذب والخطأ فهو متواتر فلا يعرف إلا بهذا الأثر فان وجدنا انه امتنع عليهما كان متواتراً وإلا فلا، فهو انتقال من الأثر للمؤثر حتى لكأنه قال (التواتر إخبار جماعة صادقين حتماً) أي ان (ان يمتنع تواطؤهم على الكذب والخطأ) هو عبارة أخرى عن ذلك حتى لكأنه الدور ولكنه ليس به، لتغاير الثبوت والإثبات.
وكذلك الحال في الإجماع
إذا تمّ ذلك: فلنا ان نقول بمثله في الإجماع فلا نعرّفه كمياً بانه اتفاق كل علماء الأمة مثلاً ولا كيفياً بانه اتفاق الأعاظم أو كبار العلماء أو المدققين من العلماء أو أهل الحل والعقد أو أهل مكة والمدينة أو اتفاق الأعرف بالمدارك منهم أو الأقرب للعرف، بل نعرفه مآلياً نظير تعريف المتواتر فنقول: (الإجماع هو اتفاق جماعة من العلماء على رأي يمتنع تواطؤهم على الكذب أو اجتماعهم على الخطأ فيه) وحينئذٍ فلا ريب انه مع هذا التعريف يكون قطعياً إذ متى ما رأينا امتناع التواطؤ والاجتماع كان إجماعاً (مصطلحاً) وإلا فلا، كما انه متى رأينا امتناع اتفاق المخبرين على الكذب والخطأ كان تواتراً (مصطلحاً) وإلا فلا.
فمن هذا يظهر ان هذا النوع من الإجماع لا يشترط فيه كم ولا كيف بل المآل والامتناعان، فقد يكون إجماع أصحاب الكتب الأربعة([5]) كذلك أي بحيث يمتنع اجتماعهم على الخطأ والكذب، أو مع ضميمة السيد المرتضى والشيخ المفيد، وقال بعض علماء الاخبارية: («والثالثة» أن نرى فتوى الصدوقين والمفيد والمرتضى والشيخ في حكم، فهذا أيضا حجة وإن لم نجد به نصا لما بيناه من طريقهم، فاتفاقهم لا يكون إلا عن نص قاطع)([6]) وقد لا يكون إجماع ألف من الفقهاء كذلك أي بحيث يمتنع اجتماعهم على الخطأ أو الكذب.
وعليه: فهذا النوع من الإجماع ليس مداره الكم أصلاً، فيختلف عن الإجماع الحدسي إذا عرّف بانه اتفاقهم كلهم بحيث يحدس منه نظر الإمام عليه السلام ؛ فان هذا فيتأرجح كمّاً وكيفاً وملاكه المآل.
وبذلك ظهر وجه آخر لتصحيح إجماعات الشيخ الطوسي إذ كثر عليه الاعتراض بانه يدّعي الإجماع رغم عدم اتفاق الفقهاء على ذلك بل لعله يكون قد استقرأ مثلاً آراء عشرة منهم فنقول: لعل وجهه انه كان يرى حجيته من هذا الوجه الذي ذكرناه والذي لا يشترط فيه الكم واتفاق الكل، وعلى أي فلو ذهب فقيه إلى هذا كان له وجه([7]).
مقارنة الشهرة بخبر الثقة
فهذا كله عن مقارنة التواتر بالإجماع، واما معقد البحث وهو مقارنة الشهرة بخبر الثقة فالأمر أوضح وكما سبق إذ تتميز الشهرة على خبر الثقة بانه لا يحتمل في فتوى المشهور الكذب ولا التقية ولا التورية، ويحتمل كل ذلك في خبر الثقة فلو كان حجة من باب الظن النوعي أو أقربية الإيصال للواقع كانت الشهرة أولى بالحجية، ولو بنى العقلاء على حجية خبر الثقة رغم ذلك ورغم كثرة ظهور الخلاف في أخبارهم، فبناؤهم على حجية الشهرة أولى لقلة ظهور الخلاف بل لكثرة ذاك ثبوتاً وقلة هذا ثبوتاً كذلك.
إشكال: مصب خطأ المتواتر أمر واحد، عكس الإجماع
وقد استدل في (مباحث الأصول) بوجه ثانٍ لاقوائية التواتر من الإجماع ولضعف احتمال الخلاف في الأول عنه في الثاني فقال: (الثاني: أنّ الاشتباهات حينما تصبّ على مصبّ واحد يكون اجتماعها أضعف منه حينما تصبّ على اُمور متفرّقة، فلو أخبر ثلاثة أشخاص عن كون قبّة معيّنة حمراء ـ مثلاً ـ كان احتمال خطئهم أبعد في الوجدان من احتمال خطأ ثلاثة أشخاص كلّ في إخباره بلون قبّة غير القبّة التي أخبر عنها الآخران)([8]).
الجواب:
أقول: ليس ما استشهد به بصحيح أصلاً في باب المقارنة إذ قاس عدم احتمال الخطأ في اتفاق ثلاثة على ان القبة حمراء، باحتمال خطأ كل واحد من الثلاثة (الذين اختلفوا) فلم يراع وحدة الميزان في الموردين، وكان الصحيح ان يقيس اتفاق الثلاثة على ان القبة حمراء باتفاق الثلاثة (المختلفين إذ ذهب أحدهم إلى انها حمراء والآخر إلى انها صفراء والثالث إلى انها بيضاء) على ما اتفقوا عليه وهو نفي الرابع وهو كونها سوداء فهذا يقارن بذاك، ولا نرى اقوائية لاتفاق الأوائل على ان القبة حمراء على اتفاق التوالي على انها ليست سوداء.
وقال: (وهذا يكوّن فارقاً بين باب الحدس وباب الحسّ، ففي باب الإخبار عن الحسّ تكون الاشتباهات غالباً في دائرة واحدة، فلو أخبر جمع كثير عن رؤية زيد في مكان خاصّ فاشتباههم عبارة عن خطأ الكلّ في دائرة واحدة، وهي الصورة التي تنتزع من زيد)([9]).
أقول: احتمال اشتباههم لاحتمال تشبّه شخص بزيد([10]) ليس بالبعيد ولو كان ما ادعي تواتره محتملاً فيه ذلك لما صدق تعريف التواتر عليه (اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب او اتفاقهم على الخطأ).
وقال: (أمّا توافق جمع كثير على لزوم قراءة السورة في الصلاة ـ مثلاً ـ إن كان خطأ، فمن المحتمل أن يرجع إلى أخطاء متفرّقة في دوائر عديدة؛ لكثرة المقدّمات الدخيلة في استنباط الرأي، فقد يخطأ هذا في مقدّمة، ويخطأ ذاك في مقدّمة اُخرى، فهذا يتخيّل ـ مثلاً ـ حديثاً مّا صحيحاً سنداً بينما كان ذاك الحديث ضعيف السند، وذاك يتخيّل الحديث الآخر تامّ الدلالة على المطلوب بينما ليس كذلك، وآخر يتخيّل كون المرجع في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هو لزوم الاحتياط بينما ليس الأمر كذلك، وهكذا)([11]) وسنورد عليه بإشكالات ثلاث فانتظر..
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : ((بَيْنَمَا مُوسَى عليه السلام جَالِساً إِذْ أَقْبَلَ إِبْلِيسُ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ ذُو أَلْوَانٍ فَلَمَّا دَنَا مِنْ مُوسَى عليه السلام خَلَعَ الْبُرْنُسَ وَقَامَ إِلَى مُوسَى فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا إِبْلِيسُ قَالَ أَنْتَ فَلَا قَرَّبَ اللَّهُ دَارَكَ قَالَ إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ لِمَكَانِكَ مِنَ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى عليه السلام فَمَا هَذَا الْبُرْنُسُ قَالَ بِهِ أَخْتَطِفُ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ فَقَالَ مُوسَى فَأَخْبِرْنِي بِالذَّنْبِ الَّذِي إِذَا أَذْنَبَهُ ابْنُ آدَمَ اسْتَحْوَذْتَ عَلَيْهِ قَالَ إِذَا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ وَصَغُرَ فِي عَيْنِهِ ذَنْبُه)) (الكافي: ج2 ص314).
------------------------------------------------------
([1]) والخلفي.
([2]) فان زاد فهو تهور، على حسب نوع الأشخاص ونوع المواقف.
([3]) سورة الأنفال: آية 66.
([4]) سورة الأنفال: آية 65.
([5]) الشيخ الطوسي والصدوق والكليني.
([6]) االشيخ الحسين بن شهاب الدين الكركي، هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار، ص260-261.
([7]) وقال الشيخ حسين الكركي: (وقد تحير المتأخرون في الاجماعات الواقعة في كلام بعض القدماء؛ كالمرتضى والشيخ لأنهم ربما نقلوا الاجماع على الشيء وعلى ضده في مكان آخر.
واعتذر الشهيد الاول عن ذلك بأن مرادهم بالإجماع الشهرة في ذلك الوقت، أو عدم اطلاعهم فيه على مخالف صوتا لكلامهم عن التهافت) (هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار، ص260-261).
([8]) السيد كاظم الحسيني الحائري، مباحث الأصول، انتشارات دار البشير – قم، 1433هـ، ج2 ص301.
([9]) السيد كاظم الحسيني الحائري، مباحث الأصول، انتشارات دار البشير – قم، 1433هـ، ج2 ص301.
([10]) أو شبهه به واقعاً.
([11]) السيد كاظم الحسيني الحائري، مباحث الأصول، انتشارات دار البشير – قم، 1433هـ، ج2 ص301-302.
|