بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(121)
من كواشف الأهمية، الشهرة الفتوائية
وبعبارة أخرى: ان معقد بحثنا هو مرجّحات باب التزاحم وان من المرجّحات – لدى البعض – كون أحد المتزاحمين حق الناس فيقدم على حق الله تعالى، استناداً إلى فتوى المشهور بذلك كما قيل، فقد اعتبرت الشهرة الفتوائية دليلاً على ترجيح حق الناس، ولكن ذلك يصلح مدخلاً لبحث آخر شديد الأهمية لم يطرحه الأعلام فيما نعلم([1]) وهو: ان الشهرة هي من المرجّحات الثبوتية وكواشف الأهمية.
وتوضيحه: ان المرجّحات اما ثبوتية وهي ما عادت إلى قوة الملاك وشدة المصلحة أو المفسدة، واما إثباتية وهي الكواشف عن اقوائية ملاك هذا على ذاك، وقد طرح بعض الأصوليين عدداً من الكواشف([2]) وذكر منها مثلاً تكرّر تأكيد الشارع على محرّم دون آخر فيستظهر منه ان ما تكرر ذكره أهم وأقوى ملاكاً، وسيأتي بحثه، إلا ان الشاهد انهم لم يذكروا الشهرة كمرجع من المرجّحات الاثباتية وكاشف من كواشف الأهمية مع ان بعض الأدلة على مرجّحية الشهرة – على تقدير القول بها – عامة أي تدل على مرجّحيتها إثباتاً في باب التزاحم كما تدلّ على مرجّحيتها في باب التعارض وقد يعتمد عليها الفقيه في البابين.. ولذلك عقدنا هذا البحث الذي قدّمناه لشدة تداخله مع مبحثنا.
القول بان احتمال الخطأ في الإجماع أقوى منه في المتواتر
فنقول: ذهب السيد الشهيد الصدر في (مباحث الأصول) إلى ان احتمال الخطأ في باب الإجماع (الحدسي) أقوى منه في باب التواتر (الحسي) أو بتعبيره (تضاؤل احتمال الخطأ في باب الإجماع ابطأ منه في باب الاخبار) لوجوه خمسة آتية، ومورد كلامه هو المقارنة بين التواتر والإجماع ومحل كلامنا المقارنة بين الشهرة وخبر الواحد، ولكن حيث ان ما ذكره هناك من الإشكالات الخمسة يجري في المقام بشكل أولى فلا بد من الجواب عنها ليتم ما ادعيناه من اقوائية الظن النوعي الحاصل من الشهرة من الحاصل من خبر الثقة بل وأقربيتها للإيصال للواقع منه، وسنجيب أولاً على مدعاه في بابه ثم ننتقل إلى مدعانا في هذا الباب.
قال: (أهمّ الفروق بين الإجماع والتواتر:
والسرّ في كون تضاؤل احتمال الخطأ في باب الإجماع أبطأ منه في باب الإخبار اُمور عمدتها خمسة:
الأوّل: أنّ أصل الاحتمال الذي يتدرّج في الضعف بحسب ترتيب الضرب بين القيم الاحتماليّة – وهو احتمال الاشتباه – يكون في باب الاجتهاد والحدس أقوى بكثير منه في باب الحسّ؛ وذلك لحساب احتمالات سابق في كلا البابين، وهو: أنّ أسباب الخطأ في باب الحسّ نادرة، وأسباب الخطأ في باب الحدس والاجتهاد كثيرة)([3]).
المناقشات
أقول: قد يناقش بوجوه:
لا يحتمل الخلاف في إجماع أصحاب المعصومين عليهم السلام
أولاً: ان إجماع أصحاب المعصومين عليهم السلام على حكمٍ يورث عادةً القطعَ بتلّقيه من المعصوم عليه السلام إذ يستحيل عادة ان يجمع الفقهاء المعاصرون للمعصوم سواء القريب منهم إليه أو البعيد منهم عنه، على خلاف رأيه مع شدة حرصهم على الفتوى على طبق رأيه عليه السلام ومع كونهم من مشارب شتى كلامية وأصولية وفقهية فلا يعقل عادة ان يجمعوا على خلاف رأيه كما لا يمكن عادة في الخبر المتواتر الإجماع على الخطأ؛ إذ قد عرّفوه بانه (إخبار جماعة يستحيل عادةً اتفاقهم على الكذب) وإن أمكن ذلك عقلاً، فكذا الإجماع.
الجواب عن شبهة كونهم رواةً لا مفتين
لا يقال: كانوا رواةً للحديث ولم يكونوا مفتين، فإجماعهم من دائرة الحس لا الحدس، والكلام في إجماع مَن جاء بعدهم (وفي الشهرة، حسب مبحثنا) وهو حدس.
إذ يقال: بل كانوا مفتين كما فصلناه في محل آخر؛ لدلالة الروايات الكثيرة على ذلك كقوله عليه السلام: ((اجْلِسْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَ أَفْتِ النَّاسَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ))([4]) و((عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ وَعَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ))([5]) وعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ((عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِي فَجَعَلْتُ عَلَى إِصْبَعِي مَرَارَةً فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ قَالَ يُعْرَفُ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) امْسَحْ عَلَيْهِ))([6]) مع استنباط هذا الحكم من الآية يحتاج إلى تأمل واجتهاد إذ إذا لم يمكن غسل بعض الأصبع فالاحتمالات متعددة: سقوط الوضوء لأنه ارتباطي، أو سقوط غسله رأساً دون الانتقال إلى بديل لدعوى انصراف الارتباطية إلى صورة القدرة، مثلاً أو الانتقال إلى الغسل على المرارة أو إلى المسح عليها، واستفادة الأخير من الآية (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) بحاجة إلى اجتهاد، خاصة وان مسح المرارة لا يعد ميسوراً لغسل الأصبع عرفاً.
بل نقول انه حتى لو نقل الفقيه المعاصر للإمام عليه السلام نص رواية الإمام وكان في مقام إعطاء الحكم بذلك، فلا بد ان يكون مجتهداً فيه لأنه لا يصح له الجواب بنص الرواية إلا بعد ملاحظة معارضاتها ومزاحماتها والعناوين الأولية والثانوية وان القضية حقيقية أو خارجية، كما لا بد له من إحراز إطلاقها للمقام وانه لا يوجد حاكم عليها ولا وارد، كما لا بد من إحراز جهتها وانها ليست صادرة تقية.. الخ وهذا هو الاجتهاد بعينه.
والبحث أعم من إجماع معاصري المعصوم عليه السلام
لا يقال: الكلام عن إجماع القدماء لا المعاصرين للأئمة عليهم السلام.
إذ يقال: الكلام أعم منهما، ويكفي النقض عليه بإجماع المعاصرين لو عمّ كلامه إياهم، إضافة إلى ان إجماع القدماء وإن تجرّد عن إحراز إجماع المعاصرين مما لا يعقل عادةً كونه غير مستند إلى من سبقهم من الأصحاب.
وهذا كله مع قطع النظر عن القول بحجية إجماع أصحاب المعصومين من باب اللطف أو من باب التقرير إذ الأمر فيهما أوضح، بل الكلام كله على مبنى حجيته من باب الحدس وانه لا يقل عن التواتر من حيث عدم احتمال الخطأ والكذب.
لا احتمال للكذب في فتوى المشهور والإجماع، عكس المتواتر
ثانياً: ان الحسّ وإن كانت فيه احتمالات الخطأ قليلة، والحدس احتمالاته فيه أقوى، ولكن يقابل ذلك ان الخبر الحسي يحتمل فيه الكذب وهو كثير اما الفتوى الحدسية فاحتمال الكذب فيها ضعيف.
وفي الإجماع ثم في الشهرة وإن احتمل فيهما الخطأ لكن لا يحتمل فيهما الكذب أو التقية.
اما المتواتر والمستفيض فانه وإن ضعف (جداً) احتمال الخطأ فيه لكن احتمال التورية والتقية فيها وارد وكذا احتمال الكذب المتعمد لوجهٍ من الوجوه، وذلك كتواتر أخبار عدل عمر لديهم، عكس فتوى مشهور فقهائنا فانه لا يحتمل فيها شيء من ذلك.
لا يقال: تعريف المتواتر هو (إخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب).
إذ يقال: أولاً: لا بد من إضافة قيد أو الخطأ أي (أو اجتماعهم على الخطأ) إذ بدون هذا القيد يكون الإجماع أرجح منه دون ريب إذ لا يحتمل في الفقهاء الإمامية المجمعين التواطؤ على الكذب أبداً فالتواتر بدون هذا القيد أضعف من الإجماع.
عدم احتمال الخلاف في المتواتر من الضرورة بشرط المحمول، فكذا الإجماع
ثانياً: انه حتى مع هذا القيد فانه لا يجدي في اقوائية التواتر من الإجماع، لأنه يكون مع القيدين أشبه بالضرورة بشرط المحمول الذي يكون ثبوته للموضوع حينئذٍ بديهياً، فيكون الإجماع مثله لو أضيف له القيدان بان يقال (الإجماع هو اتفاق آراء جميع العلماء القدامى أو حتى المعاصرين بحيث يمتنع اجتماعهم على الخطأ أو الكذب).
بل نقول: كل حجة مهما كانت ضعيفة فانها إذا صيغت مع القيدين بنحو الضروري بشرط المحمول تكون حجة قطعاً، كأن يقال: (خبر الثقة: إخبار ثقة يمتنع عادةً كذبه أو خطؤه) فهو حجة قطعاً، وبعبارة أخرى: ذلك مجرد اصطلاح فلو اصطلح على ان المتواتر هو (إخبار جماعة يمتنع...) كان حجة قطعاً فكذا لو اصطلح على تعريف الإجماع بانه (اتفاق جماعة يمتنع...) أو خبر الثقة بـ(اخبار ثقة يمتنع...) والحاصل انه مع قيد (يمتنع...) فكلها حجة موروثة للقطع، وبدون هذا القيد كلها محتملة للخلاف، فتأمل
احتمال الخطأ في فهم ناقلي الخبر المتواتر
ثالثاً: ان الخبر المتواتر وإن كان حسياً إلا انه قد لا يورث القطع لاحتمال الخطأ في الفهم فيما لو نقل بالمضمون، نعم لا يجري هذا الإشكال في المتواتر اللفظي المحرز نقله بالنص، بل قد يقال بجريانه في مختلف الروايات الموجودة بأيدينا لتجويز الأئمة عليه السلام النقل بالمضمون في روايات عديدة منها قوله عليه السلام: ((إِنِّي أَسْمَعُ الْكَلَامَ مِنْكَ فَأُرِيدُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ فَلَا يَجِيءُ، قَالَ: فَتَعَمَّدُ ذَلِكَ، قُلْتُ: لَا، فَقَالَ تُرِيدُ الْمَعَانِيَ؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ فَلَا بَأْسَ))([7]) فلعله اخطأ في نقل المعنى بل حتى إن كان فاضلاً فلعله اخطأ في نقل دقائقه إذا كانت هي المستند في الحكم الشرعي، كتقديم ما حقه التأخير أو العكس، أو كونه في مقام البيان من هذه الجهة أو تلك. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا لَا يَسْكُنُهَا مِنْ أُمَّتِي إِلَّا مَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَفْشَى السَّلَامَ وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ...))
(الأمالي للصدوق: ص328).
------------------------------------------------------------
([1]) حسب استقراء ناقص.
([2]) وأهملها الأكثر.
([3]) السيد كاظم الحسيني الحائري، مباحث الأصول، انتشارات دار البشير – قم، 1433هـ، ج2 ص301.
([4]) أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1407هـ، ص10.
([5]) محمد بن ادريس الحلي، مستطرفات السرائر، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1411هـ، ص575.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص33.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص51.
|