بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(107)
2- مرجعية القرعة
واما مرجعية القرعة فتحقيق الحال فيها موقوف على بيان مطالب:
هل القرعة كاشفة أو مرجحة؟
الأول: هل القرعة كاشفة أو مرجِّحة؟
بتعبير آخر هل القرعة خاصة بما لو كان هناك واقع ثبوتي محفوظ لكنه كان مجهولاً لنا في عالم الإثبات فنقترع لكشف ذلك الواقع والوصول إليه؟
أو هي خاصة بما لو لم يكن هناك واقع محفوظ أو تساوى الواقعان أو الطرفان وتردد في الترجيح بينها فتكون هي المرجحة وذلك يعني انه ليس هناك واقع مجهول يراد كشفه، بل إما لا واقع أصلاً أو الواقع معلوم وهو تساويهما لكنه حيث عجز عن الجمع بينهما وتردد في تقديم أحدهما فانه يلجأ إلى القرعة. فتأمل
والظاهر عموم القرعة للجهتين؛ اما أولاً فللروايات العامة، واما ثانياً فلورود الروايات الخاصة في الموردين:
روايات في القرعة الكاشفة عن الواقع
اما الروايات الخاصة الواردة في الكاشفية فهي متعددة؛ نذكر منها
ما رواه الشيخ في (التهذيب) عن حمَّاد عن المختار قال: ((دَخَلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: مَا تَقُولُ فِي بَيْتٍ سَقَطَ عَلَى قَوْمٍ فَبَقِيَ مِنْهُمْ صَبِيَّانِ، أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ، فَلَمْ يُعْرَفِ الْحُرُّ مِنَ الْعَبْدِ؟ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ نِصْفُ هَذَا وَنِصْفُ هَذَا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ فَهُوَ الْحُرُّ، وَيُعْتَقُ هَذَا فَيُجْعَلُ مَوْلًى لِهَذَا))([1]).
وذلك لوضوح ان أحدهما واقعاً هو الحر والآخر واقعاً هو العبد فهناك واقع محفوظ لكننا نجهله، وكذلك حال الروايتين الآتيتين.
وعن عُثْمَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِكَ يَنِمُّ عَلَيْكَ فَاحْذَرْهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَا أَعْرِفُهُ، فَأَخْبِرْنِي بِهِ حَتَّى أَعْرِفَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى عِبْتُ عَلَيْك النَّمِيمَةَ وَتُكَلِّفُنِي أَنْ أَكُونَ نَمَّاماً؟ قَالَ يَا رَبِّ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَرِّقْ أَصْحَابَكَ عَشَرَةً عَشَرَةً، ثُمَّ تُقْرِعُ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ السَّهْمَ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي هُوَ فِيهِمْ، ثُمَّ تُفَرِّقُهُمْ وَتُقْرِعُ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ السَّهْمَ يَقَعُ عَلَيْهِ، قَالَ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ السِّهَامَ تُقْرَعُ قَامَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُكَ، لَا وَاللَّهِ لَا أَعُودُ أَبَداً))([2])
وما رواه الشيخ في (التهذيب) عن محمد بن عيسى، ((عن "الرَّجُلِ" أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى رَاعٍ نَزَا عَلَى شَاةٍ؟ قَالَ: إِنْ عَرَفَهَا ذَبَحَهَا وَأَحْرَقَهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ أَبَداً حَتَّى يَقَعَ السَّهْمُ بِهَا، فَتُذْبَحُ وَتُحْرَقُ، وَقَدْ نَجَتْ سَائِرُهَا))([3])
روايات في القرعة المرجِّحة لأحد الطرفين
واما الروايات الخاصة الواردة في المرجحية فمتعددة أيضاً، نذكر منها:
ما رواه الشيخ في (التهذيب) عن حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ سَيَابَةَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام ((فِي رَجُلٍ قَالَ: أَوَّلُ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَوَرِثَ ثَلَاثَةً، قَالَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أُعْتِقَ، قَالَ: وَالْقُرْعَةُ سُنَّةٌ))([4]) وذلك لأن (أول) لا وجود ثبوتياً محدداً له إذ هناك الثلاثة الأوائل وليس أحدهم أولاً بالنسبة للآخر أي لا يوجد أول بقول مطلق.
وما رواه الشيخ أيضاً عن عبد الله بن سليمان قال: ((سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ أَوَّلُ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَلَكَ سِتَّةً أَيَّهُمْ يُعْتِقُ قَالَ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يُعْتِقُ وَاحِداً...))([5])
وما رواه في (إرشاد المفيد قدس سره) في باب غزوة ذات السلاسل من أنه أقرع بين أصحاب الصّفة، بعدما قام جماعة منهم وقالوا نحن نخرج إليهم، فخرجت القرعة على ثمانين رجلاً ومن غيرهم.
وَ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْجُمْهُورِ ((أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعَرَبِ اجْتَمَعُوا عَلَى وَادِي الرَّمْلَةِ لِيُبَيِّتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه واله وسلم بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه واله وسلم مَنْ لهَؤُلَاءِ؟ فَقَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَقَالُوا نَحْنُ، فَوَلِّ عَلَيْنَا مَنْ شِئْتَ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ...))([6]) وللبحث عن القرعة تتمة تأتي غداً بإذن الله تعالى.
3- مرجعية (ذوي عدل منكم)
وقد يقال بان حكومة عادلين من أهل الخبرة فيما أحتاج إلى الخبرة، هي المرجع لدى الشك في الأهم والمهم من المتزاحمين من حقوق الله أو حقوق الناس؛ وذلك استناداً إلى قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)([7]).
ولا بد من إيضاح المراد من الآية الكريمة ليتضح مدى صحة الاستدلال بها على المقام فنقول:
من فقه آية (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)
(الصَّيْدَ) اختلف في ان المراد به خصوص الوحشي منه، كالظبي، أو الأعم منه ومن الأهلي كالشاة، لكن ظاهر الآية اختصاصه بالأول حسب ظاهر لفظ (الصَّيْدَ) فانه لا يطلق على ما لو أخذ الأهلي.
قال السيد الوالد في جامع مناسك الحج (مسألة 694: يحرم اصطياد الحيوان البري قتلاً، وحيازة، وذبحاً، وأكلاً)([8]) وقال (مسألة 701: الذي يحرم على المحرم صيده هو كل حيوان وحشي بالأصل وإن صار اليفاً بالعرض، بخلاف الأليف بالأصل وإن استوحش بالعرض فانه لا يحرم صيده، ولا فرق فيهما، كان مأكولاً، أو غير مأكول اللحم، إلا ما استثنى من ذلك على ما يأتي.
مسألة 702: يستثنى من الحيوان الذي يحرم قتله على المحرم جملة من الحيوانات: كالسباع، والحيات، والكلب العقور، بل كل دابة أو هامة إذا أرادت الإنسان أو خاف الإنسان منها على نفسه لا مطلقاً فلا يجوز قتلها إذا لم ترد الإنسان أو لم يخف منها، وكذا يستثنى الأُسُود والأفعى والعقرب والزنبور، والفأرة، والحدئة، والغراب الأبقع بل غيره من الغربان، والذئب، والنسر مطلقاً، فانه وإن لم ترده أو يخف منها جاز للمحرم قتلها)([9]).
(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) هل المراد (وأنتم محرمون) أو (أنتم في الحرم) إذ قد يكون في الحرم وهو غير محرم كأهل مكة وكأمثال الحطاب والحشاش، الظاهر الأعم لصلاحية اللفظ لهما، وإليه ذهب الشيخ الطوسي في التبيان.
(مُتَعَمِّداً) الحكم ثابت للمتعمد بالفرض، واما الناسي والجاهل بالحكم وشبههما فله نفس الحكم لكن بالسّنة؛ للروايات، فهي تنزّل الناسي والجاهل منزلة العامد، وذلك صغرى كبرى مبحث فرض الله وسنة النبي نظير الركعتين الأخيرتين من الرباعيات. قال في التبيان (والأول([10]) تشهد به روايات أصحابنا).
(فَجَزاءٌ مِثْلُ) مبتدأ وخبر كما ذهب إليه البعض ولعله الظاهر.
(مِثْلُ) يحتمل فيه إرادة المثلية الشكلية أو الحجمية: فالإبل مثل النعامة، والبقرة مثل حمار الوحش والشاة مثل الظبي، ولكن ما مثل الأرنب؟
كما يحتمل كون المراد المثلية في القيمة، وعليه يجب عليه ان يقيّم النعامة مثلاً بقيمتها السوقية ثم يشتري بذلك الثمن ما يعادله من النعم فقد يكون إبلاً أو بقرة مثلاً ثم يهديه إلى الكعبة أي يذبحه عندها في إحرام العمرة ويوزعها على الفقراء، ويذبحها في منى في إحرام الحج.
والبناء هو على المثلية الحجمية؛ للروايات المصرحة بذلك كما صرح به في التبيان أيضاً.
(يَحْكُمُ بِهِ) أي بكونه مِثلاً.
حدود مرجعية العادلين
(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فالمرجع هو العادلان الخبيران، قال الشيخ الطوسي في التبيان (يعني شاهدين عدلين فقيهين يحكمان بأنه جزاء مثل ما قتل من الصيد)([11]) فاما إذا كان المراد المثلية الشكلية فهو من دائرة الحس واما إن كان المراد المثلية القيمية فهو من الحدس القريب من الحس.
لكن الاستدلال بالآية على المقام (حكومة العدلين في الأهم من المتزاحمين) مبني اما على إلغاء الخصوصية أو على إعادة مرجعيتهما إلى كبرى كلية ارتكازية وهي مرجعية أهل الخبرة، وكلاهما متأمل فيه إذ ملاكات الأحكام مجهولة لدينا فكيف يُحال معرفة الأهم منها إلى العادلين؟ بل هي مجهولة حتى لدى أعاظم الفقهاء إلا القليل جداً منها مما أحرز فيه الملاك قطعاً؛ فان الشارع، كما سبق، ذكر بعض مقتضيات الأحكام دون عللها التامة بموانعها ومزاحماتها.
بعبارة أخرى: المقام من الحدسي المحض بل من الموغَل في الحدسية، فكيف يقاس على الآية وهي من دائرة الحسي أو الحدس القريب من الحس.
فمثلاً لو دار الأمر بين أكل المال المغصوب وبين أكل الميتة، فايهما أشدّ حرمة لدى الشارع؟ ذلك مما لا يعلم إلا من قبله فكيف يوكل لعادلين أو عدول؟ وكذا لو تزاحم النهي عن المنكر مع صلة الرحم بان كان نهيه يؤدي إلى قطعها، ومقدمة الحرام حرام والنهي واجب فايهما المقدم؟ وقد سبق (ومنها: ما لو تزاحم النهي عن المنكر مع قطع الرحم، بان لم يكن بمقدوره النهي عن المنكر أو لا يكون نهيه مؤثراً إلا لو قطع رحمه ولو ظاهراً، كما لو كانت للمنهيّ عن المنكر عداوة مع رحمه بحيث لا يرتدع لو بقي وصولاً بها ويرتدع لو قطعه)([12]) فكيف يعلم العادلان ان ايهما أشد حرمة لدى الشارع إلا لو كان الشارع قد صرح به ومعه لا يبقى مجال للشك، والبحث في صورة عدم وصول دليل بالارجحية، والشك فيها.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ))
نهج البلاغة: ص470.
----------------------------------------------
([1]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص239.
([2]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج13 ص353.
([3]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج9 ص43.
([4]) المصدر نفسه: ج6 ص239.
([5]) المصدر نفسه: ج8 ص225.
([6]) الشيخ المفيد، الإرشاد، المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ج1 ص162.
([7]) سورة المائدة: آية 95.
([8]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، جامع مناسك الحج، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، 1413هـ، ص189.
([9]) المصدر نفسه: ص190.
([10]) أي تعميم وجوب الجزاء والكفارة حتى للناسي والمخطئ.
([11]) الشيخ الطوسي، تفسير التبيان، ج4 ص26.
([12]) راجع الدرس (42).
|