بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(106)
البحث عن مرجحات باب التزاحم، وذلك في ضمن مطالب:
أنواع التزاحم: حق الفرد والمجتمع والدولة...
المطلب الأول: ان التزاحم على أنواع: فقد يكون بين حق فرد وفرد آخر وقد يكون بين حق الفرد والأسرة، أو بين حق الفرد والعشيرة أو الحزب أو بين حق الفرد والدولة أو الحكومة أو بين حق الفرد والمجتمع أو بين حق الفرد والأمة أو بين حق الفرد والقيادة أو القائد أو مرجع التقليد أو الإمام، كما قد يكون بين حق الفرد وحق الله تعالى.
وقد جرت بعض المذاهب على أن الأصل تقديم حق الفرد على المجتمع وهو المسمى بالمذهب التحرري([1]) بينما ذهب البعض إلى تقديم حق المجتمع على الفرد وهو المسمى بالمذهب الاشتراكي، بينما اعتبرهما البعض أصلين فلا ترجيح لأحدهما على الآخر بما هو هو كما ذهبنا إليه([2]).
كما جرت أعراف العشائر على تقديم حق العشيرة على الفرد، وارتأت الدول الشيوعية تقدم حق الدولة على الفرد، وعكس الرأسماليون، وحاول ان يوازن بينها بنحوٍ بعض مدارس الاشتراكية وما سمي بالمذهب التوزيعي([3]).
وقال البعض، وكما سبق، بتقدم حق الله على حق الفرد مطلقاً، وقال المشهور، حسبما نسب إليهم، بتقدم حق الناس على حق الله مطلقاً، بينما فصّل جمعٌ بين أنواع من حقوق الله وحقوق الناس بل وبين درجاتٍ من كل منهما وهو المنصور.
مناشئ الحقوق الثمانية
المطلب الثاني: ان تحديد مناشئ الحقوق قد يكون ذا تأثير في تشخيص الأهم منها وترجيحه لدى التزاحم، وقد سبق ان مناشئ الحقوق ثمانية:
1- المصلحة والمفسدة (وهل المصلحة تساوي المنفعة، والمفسدة تساوي المضرة؟ أم النسبة من وجه؟ بحث وقد مضى) ومنشأيتها في الجملة لا مطلقاً، إذ ليس كلما كان في أمر مصلحة وُجِد الحق.
2- السلطة والسيطرة، كالحق الحاصل بالحيازة، والنسبة بينه وبين المصلحة من وجه إذ من يحوز وحشاً مثلاً فانه يكون لديه حق الاختصاص، أو يكون به مالكاً إذ المنصور ان الحيازة مملّكة، وإن كان فيه مفسدة له كما لو كان الوحش يفترسه أو يخرب داره مثلاً.
3- العدوان، فانه منشأ لحق المعتدى عليه على المعتدى، قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)([4]).
4- الاقتضاء الذاتي، فان الضعيف له على القوي حق؛ للاقتضاء الذاتي، كحق الطفل الرضيع على والديه، وحق المظلوم على من يمكنه نصرته بدون مانع أو مزاحم أهم كما لو رآه يعذبه أشد العذاب فإن عليه تخليصه منه، وهذا الحق مرتكز في الفطرة ويشهد به الوجدان وعليه بناء العقلاء من كل الملل والنحل وقد صرح به الشرع أيضاً. وهو ثابت وإن كانت مصلحة القوي على خلافه.
5- (التباني) ومنه كافة العقود والعهود، فان منشأ حق المشتري مثلاً على البائع في ان يسلمه الكتاب الذي اشتراه منه بدينار، هو تبانيهما على ذلك مع المبرز، اما مجرد التراضي فلا ينشأ منه الحق الملزم.
6- (العدل) فانه منشأ تحريم مثل الاحتكار رغم كونه مالكاً، وتحريم ومصادرة أموال الناس رغم مصلحة الحاكم في ذلك، ووجوب ردّ الوديعة والعارية وإن كان المودَع لديه أو المستعير منتفعاً بها مسلطاً عليها.
7- (الرحمة) أو (الإحسان) فان للرعية على الوالي حق الرحمة والإحسان بل لمطلق الصغير على الكبير والضعيف على القوي، بل والصديق على الصديق، إما الزاماً أو استحباباً.
8- (الانعام) فان شكر المنعِم واجب، وإن فرض انه ليست فيه للمنعِم أو المنعَم عليه مصلحة أبداً.
فهذه هي مناشئ الحقوق وقد يقع التزاحم بينها، والأمر في بعضها واضح وفي بعضها خفي:
فمثلاً: لو تزاحم الحق الذي منشؤه الرحمة مع الذي منشؤه العدل قدّم الأخير، ولو تزاحم الحق الذي منشؤه التباني على الحق الذي منشؤه الاقتضاء الذاتي قدّم الأخير، بل قد يقال بان لا ينشأ حق من التباني على خلاف الاقتضاء الذاتي بل هو تبانٍ باطل، كما لو تبانيا على نصرة الظالم وظلم المظلوم.
المرجعيات لدى الشك في الأهم
المطلب الثالث: ان المرجعيات المحتملة لدى الشك في تقدم حق الله على حق الناس أو حق الناس بعضهم على بعض، حسب الصور المتقدمة، هي: أصالة تقدم حق الله أو أصالة تقدم حق الناس أو أصالة تقدم حق المجتمع أو الدولة أو الفرد، أو التفصيل بين الموارد، أو التخيير، أو القرعة، أو حَكَمِيّة ذوي عدل منكم، أو الشورى، أو العقل، أو التساقط، وبعض الكلام عن ذلك:
1- التساقط
أما التساقط فلا وجه له، إذ الكلام عن باب التزاحم لا التعارض فان للتساقط وجهاً لدى التعارض([5]) ولا وجه له في التزاحم وذلك لوضوح ان التزاحم موقوف على ثبوت الملاك في كليهما مع عدم قدرته على الجمع بينهما فلا يعقل تساقطهما لتفويته ملاكها بلا وجه، غاية الأمر التخيير بينهما لو تساويا وترجيح الأقوى ملاكاً لو تفاضلا.
بعبارة أخرى: التساقط فرع عدم شمول أدلة الحجية لكليهما([6]) لتكاذبهما وكون ترجيح أحدهما بلا مرجح مع فقد أحدهما لملاك الحجية، وذلك مما لا يتوهم جريانه في باب التزاحم لقطعية الاقتضاء التامّ فيهما وكون العجز مانعاً عن الإلزام بهما فكيف يعقل القول بتساقطها؟
2- القرعة
واما القرعة فانها وإن عمّت بعض أدلتها للمقام كقوله عليه السلام: ((في كل أمر مشكل القرعة))([7]) إلا ان المشهور انها بحاجة إلى عملٍ من الفقهاء على طبقها، ومع قطع النظر عن مناقشة البعض في سند رواياتها([8]) فانه مع الشهرة القطعية المسلمية التي كانت تكاد إجماعاً يشك في انعقاد إطلاق لمثل تلك الرواية أو فقل لا يحرز تحقق مقدمات الحكمة الثلاث فيها أو هي موهِنةٍ للدلالة كما هي كاسرة للسند. فتأمل وللكلام صلة فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أبو عبد الله عليه السلام: ((اخْتَبِرُوا إِخْوَانَكُمْ بِخَصْلَتَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا فِيهِمْ وَإِلَّا فَاعْزُبْ ثُمَّ اعْزُبْ ثُمَّ اعْزُبْ مُحَافَظَةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا وَالْبِرِّ بِالْإِخْوَانِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ)) الكافي: ج2 ص672.
----------------------------
([1]) أو الليبرالي واللبرالية فلسفية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
([2]) راجع كتاب (معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي).
([3]) راجع الفقه / الاقتصاد/ المجلد 107.
([4]) سورة البقرة: آية 194.
([5]) كما ذهب إليه المشهور، وإن كان المنصور ان الأصل الأولي التخيير لدى التعارض.
([6]) أو شموله لهما بدواً ثم التساقط.
([7]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام – قم، 1405هـ، ج2 ص285.
([8]) على ان المحقق النراقي في عوائده، جمع أكثر من أربعين رواية من روايات القرعة العامة والخاصة، ومع ذلك لم يستقصها كلها!
|