بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(101)
تلخيص وإضافة: أنواع القضايا السبع
والتحقيق بوجه أشمل: ان المشرِّع والحاكم يمكنه ان يجعل الحكم على أحد أنحاء سبعة:
الأول: ان يجعل الحكم على الطبيعة على ان تكون هي تمام المناط للحكم فيجعله على ما هو علّة حقيقية تامة للحكم فيكون الموضوع هو الجامع بين كافة أفراد موضوعه ويكون عليه المدار وبه الاعتبار، وهذا النوع هو القضية الحقيقية لدينا تبعاً لجمع من الأعلام، لكن ذلك نادر في الفقه بل لعله لا مصداق له كما سيأتي.
الثاني: ان يجعل الحكم على الأفراد الأعم من المحققة والمقدرة، وهذه هي القضية الحقيقية لدى بعض الأعلام، وهي من أنواع الخارجية لدينا، ويمكن ان نصطلح عليها بالخارجية بالمعنى الأعم.
الثالث: ان يجعل الحكم على خصوص الأفراد في الزمن الحاضر، أو على الأفراد في أحد الأزمنة الثلاثة، والمقصود المحققة منها دون المقدرة، وهذه هي القضية الخارجية المحضة ويمكن ان نسميها بالخارجية بالمعنى الأخص.
الرابع: ان يجعل الحكم على الطبيعة لكن لا باعتبارها المناط نفسه، بل باعتبارها مشيرة إلى المناط الواقعي، وقد تكون النسبة بينهما من وجه أو العموم المطلق، أو باعتبارها مشيرة إلى أفراد طبيعي آخر، فيكون الموضوع على هذا من المعرِّفات للموضوع الواقعي والمشيرات له، وقد سبق الكلام عنها إذ أسميناها بالقضية المشيرة([1]).
وجوه عدول المشرِّع عن (الحقيقية) إلى (المشيرة)
واما الوجه في عدول الحاكم والمشرِّع عن جعل الحكم على الطبيعة إلى جعله على طبيعة أخرى مشيرة، فهو وجوه كثيرة لا يسع المقام للكلام عنها لكن نشير إلى اثنتين إشارة ونفصّل الكلام عن الثالث لكونه المقصود في المقام:
فمنها: خفاء الموضوع الواقعي أو عصيانه على فهم الناس فيُستعاض عنه بطبيعي آخر يجعل موضوعاً للحكم ومشيراً إليه، ولا يلزم الإغراء بالجهل بدعوى ان النسبة من وجه أو عموم مطلق؛ وذلك لأن الشارع يعتبره حِكمةً لا علّة، فانها لو كانت علة للزم الالتزام بانتفاء الحكم مع انتفائها مع انه قد يكون الموضوع الواقعي (وهو العلة الواقعية) موجوداً، نعم مع وجوده قد لا يكون الموضوع الواقعي موجوداً لكنه حَكَمَ بثبوت حكمه سَنَّاً للقانون وجرياً للسنَّة، فتدبر.
ومنها: التقيَّة: إذ قد يكون المناط الواقعي مما يُتَّقى ذكره، فيستعاض عنه بمناط آخر لا تقيَّة فيه.
الجمع بين القضيتين الحقيقية والخارجية، في قضية واحدة
ومنها: انه قد يكون الوجه في العدول من جعل المناط الواقعي هو الموضوع إلى جعل غيره الموضوع مع كون النسبة بينهما من وجه أو العموم المطلق، هو إرادة المشرِّع الحكيم الجمع بين القضية الحقيقية والخارجية فكان ذلك هو الوجه في العدول.
وهذا الوجه مما خطر بالبال القاصر، هو مما يكشف لنا وجهاً من وجوه عظمة القرآن الكريم والروايات الشريفة، إن لم نقل بانه كاشف عن جهة إعجاز فيهما، وتوضيحه: ان المولى لو اقتصر على جعل الملاك الواقعي موضوعاً للحكم لما أفاد المكلفين تحقيق حال القضية الخارجية، ولو صبَّ الحكم على الأفراد الخارجية لما أفاد عموم الحكم لسائر المكلفين أو ان افاده لما أفاد فوائد القضية الحقيقية([2])؛ لذلك يعدل إلى القضية المشيرة لأنها تفيد الاثنين معاً، ويظهر ذلك بوضوح في ضمن بيان الآيتين السابقتين: آية النبأ وآية القتال:
كما في آية النبأ
اما آية النبأ (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)([3]) فان موضوع وجوب التبيُّن لدى التحقيق هو غير الثقة، لا الفاسق وإن كان ثقة؛ لما سبق من ان التعليل في الآية (بِجَهَالَةٍ) و (نَادِمِينَ) يفيد ذلك وكما بنى عليه أعلام المحققين وكما تفيده روايات مثل ((خُذُوا بِمَا رَوَوْا وَ ذَرُوا مَا رَأَوْا))([4])، ولكن الوجه في العدول عن (إن جاءكم غير ثقة) إلى (إن جاءكم فاسق) هو الإشارة للقضية الخارجية أيضاً وهو بيان حال (الوليد بن عقبة) وانه فاسق مما لو قيل (إن جاءكم غير ثقة) لما أفاد هذه الفائدة، لكنه من جهة أخرى لم تجعل الآية (الفسق) هو المدار (وإن كان ظاهرها ذلك) بقرينة التعليل الوارد فيها فأفادت بذلك ان المدار هو طبيعيُّ آخر وهو (غير الثقة) فكانت الآية بذلك (قضية مشيرة) فلا هي حقيقية فقط (كي لا تفيد حال الوليد) إذ كان ينبغي ان يقال حينئذٍ([5]): (إن جاءكم غير ثقة) أو يقال: ان جاءكم فاسق ويبنى على انه هو المناط التام لوجوب التبين، ولا هي خارجية فقط إذا كان المراد بيان حاله فقط لتكون قضية شخصية([6]).
وكما في آية القتال
واما آية القتال: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً)([7]) فلأنها تفيد من جهةٍ الإشارة للموضوع الحقيقي وهو (الأخطر) ومن جهة تفيد تشخيص المصداق ووضع أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله الخارجي وهو ان الأدنى، في زمن النزول، هو الأخطر ولو قال (قاتلوا الذين هم أخطر) لما أفاد بيان حالهم وتكليفهم بضرورة قتال الأدنى باعتباره تشخيصاً موضوعياً لكونهم الأخطر حينذاك.
فهذا المزيج من القضيتين الحقيقية والخارجية، هو الأمر الفريد الذي قلما يكون بمقدور الشخص ان يجمع بينهما بعبارة رائعة رائقة.
التفسير الأكمل
وعلى ضوء اكتشاف هذه الحقيقية قد يمكن لنا تفسير الكثير من الآيات الكريمات والروايات الشريفة ببيان كلا وجهي القضيتين الحقيقية والخارجية فيها، نعم لا بد أولاً من الرجوع للروايات الشريفة لنفهم منها المراد من الآية الكريمة وانها بأي نحو من الانحاء الثلاث للقضية: الحقيقية أو الخارجية أو المشيرة المزيجة؛ وذلك من مصاديق قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)([8]) فلا يصح استغنائنا بعقولنا وتدبرنا عن بيانه صلى الله عليه وآله وعن بيان الراسخين في العلم (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)([9]) ومما يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بعدي كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي فإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ))([10]).
وما ذكرناه يرتبط بوجه بمبحث شأن النزول وان المورد لا يخصص الوارد لكنه ليس هو هو، إذ شان النزول والمورد هو صغرى كبرى موضوع الآية، واما ما ذكرناه فان شأن النزول والمورد هو صغرى كبرى موضوع الآية لكن موضوع الآية ليس هو هو الموضوع حقاً بل هو مشير إلى موضوع آخر هو المناط والمدار حقا كما ظهر من المثالين السابقين.
الطبيعي هو المناط في العلوم الحقيقية لا الاعتبارية كالفقه
وقد سبق: (ب- لأن الطبيعي هو الجامع والمناط
ثانياً: ان القضية الحقيقية إذا جعلت على الطبيعي، كما اخترناه، كان هو المناط والجامع كما هو كذلك في كافة العلوم وكما عليه الارتكاز)([11])
وقد ظهر مما سبق في الدروس الماضية الإشكال على إطلاقه وخلاصة القول: ان العلوم الحقيقية هي التي تشكل القضايا الحقيقيةُ مسائلَها، نظير علم الهندسة والحساب، اما علم الأصول والفقه فليسا من العلوم الحقيقية بل هي علوم اعتبارية مخترعة فمسائلها ليست بنحو القضايا الحقيقية المنطقية الدقية بالتفسير الذي اخترناه أي ليس موضوع مسائلها هو العلة التامة لمحمولها واحكامها ولا هي لوازم لها، بل هي اما جزء المناط أو هي المقتضي المتوقف على توفر شروط أو فقد موانع.
وتوضيحه بالمثال: ان الهندسة من العلوم الحقيقية لذلك فان موضوعات مسائلها كلها موضوعات حقيقية بمعنى انها تمام العلة لثبوت أحكامها لها كالمثلث فانه موضوع لـ(زواياه تساوي قائمتين) وليس مقيداً بقيد مكان أو زمان أو مشروطاً بشرطٍ، بل المثلث مطلقاً كذلك، اما موضوعات الفقه فلا شيء منها بملزوم دائمي لأحكامه ولا شيء منها بعلة، حتى الصلاة التي قد يتوهم انها واجب مطلق إذ (لا تترك الصلاة بحال) فهي علة للوجوب لكن من الواضح ان طبيّعيها ليس علة وتمام المناط ولذا لا تجب على الحائض وغير البالغ ولا قبل الدلوك إلى غير ذلك.
وقد يتوهم ان الأحكام الوضعية هي مما موضوعاتها علة تامة لها، لكنه ليس كذلك فالدم مثلاً ليس، كطبيعيٍّ، علةً تامةً للنجاسة، ولذا كان دم المعصوم عليه السلام طاهراً كما ذهب إليه جمع من الأعلام، وكذلك الدم في الباطن فانه طاهر وكذلك دم البعوض، فالدم ليس موضوعاً ومناطاً تاماً بل بقيود كـ(دم الإنسان، غير الباطن، غير المعصوم.. الخ).
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((ثَلَاثٌ يَحْجُزْنَ الْمَرْءَ عَنْ طَلَبِ الْمَعَالِي: قِصرُ الْهِمَّةِ وَقِلَّةُ الْحِيلَةِ وَضَعْفُ الرَّأْيِ)) تحف العقول: ص315.
-----------------
([1]) وسيأتي الكلام على الأنواع الثلاثة الأخرى بإذن الله تعالى.
([2]) ومنها بيان العلة في الحكم وهو الموضوع نفسه الذي هو المناط.
([3]) سورة الحجرات: آية 6.
([4]) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت عليهم السلام – قم، 1409هـ، ج27 ص102.
([5]) حين أريد كونها حقيقية محضة.
([6]) بمعنى: إن جاءكم هذا الفاسق بنبأ فتبينوا، فتفيد خصوصيةً فيه ولا تُعمَّم لكل فاسق.
([7]) سورة التوبة: آية 123.
([8]) سورة النحل: آية 44.
([9]) سورة آل عمران: آية 7.
([10]) أبو منصور، أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد، 1403هـ، ج2 ص380.
([11]) راجع الدرس (93).
|