• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : خارج الأصول (التزاحم) .
              • الموضوع : 92- رد التفصیل بأن الحکم التکلیفي انحلالي والحکم الوضعي استمراري .

92- رد التفصیل بأن الحکم التکلیفي انحلالي والحکم الوضعي استمراري

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(92)


ردّ دعوى ان الفتوى كاشفة عن الوضعي وصانعة للتكليفي
واما دعوى التفصيل وان الفتوى كاشفة عن الحكم الوضعي والواقعي، بينما هي صانعة للحكم التكليفي وانه كلما قامت فتوى على حكم تكليفي فهو ظاهري وهي صانعة له أو على حكم وضعي فهو واقعي وهي كاشفة عنه، فهي دعوى بلا دليل، بل الدليل على عدمها؛ وذلك لأن أدلة حجية فتوى الفقيه في الأحكام التكليفية والوضعية واحدة فتشمل النوعين بوِزان واحد فمن أين التفصيل؟ ألا ترى ان مثل (لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([1]) و((اجْلِسْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَ أَفْتِ النَّاسَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ))([2]) تدل على حجية رأي الفقيه مطلقاً أعم من فتواه باستحباب أو وجوب كذا (كجلسة الاستراحة) ومن شرطية اللفظ في العقد وبطلانه بدونه وعدمها وسببية الحيازة للملك أو لحقّ الاختصاص وعدمها أو شبه ذلك، فمن أين ان فتواه بصحة هذا العقد أو بطلانه حجة غير مؤقتة بحين تقليده بل نافذة مطلقاً وان فتواه بالوجوب وشبهه حجة مؤقتة بحين تقليده؟
نعم لو اختلفت ألسنة الأدلة على الحكمين كان يرد (فتوى الفقيه في صحة العقود وشبهها نافذة) ويرد (يجب إتباع الفقيه فيما افتى بوجوبه) مثلاً، لكان للتفريق والتفصيل وجه بدعوى ان ظاهر النفوذ مثلاً النفوذ أبداً وظاهر وجوب الإتباع هو وجوبه مادام الدليل قائماً. فتأمل.

ردّ التفصيل بتعليل ان التكليفي انحلالي والوضعي واحد ممتد
وبذلك ظهر أيضاً فساد التوجيه الآخر للتفصيل بين الحكم الوضعي والتكليفي، وهو: ان الأحكام التكليفية انحلالية: كانحلال وجوب صلاة الجمعة بعدد صلوات الجمعات فوجوب الفرد السابق من الصلاة ثابت بفتوى المجتهد السابق وحرمة الفرد اللاحق ثابتة بفتوى اللاحق، اما الأحكام الوضعية فهي غير انحلالية بل هي من مقولة (الجِده)([3]) أو الكيف المتصل القار([4]) أو من الاعتبار الواحد([5])، فإذا ثبتت ثبتت أبداً إلا برافع ومزيل.
وذلك لوجوه ثلاث:

1- لأن مصبّ الفتوى الجعل لا المجعول
الأول: ان ذلك إن صح فإنما يصح فيما لو كانت الفتوى عن المجعول بان كان مصبّها الحكم نفسه (على انه لا يصح كما سيأتي في الوجه الثاني) لا ما إذا كانت الفتوى عن الجعل، وتوضيحه: ان الفقيه تارة يفتي بان الشارع جعل الحيازة سبباً للملك أو جعل جلسة الاستراحة واجبة، كما لو افتى بنصّ الرواية أو مضمونها كقوله مثلاً: (وردت الروايات بان بوجوب جلسة الاستراحة أو استحبابها وبان ((مَنْ غَرَسَ شَجَراً أَوْ حَفَرَ وَادِياً بَدْءاً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ قَضَاءً مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ صلى الله عليه واله وسلم ))([6]) و(من حاز ملك)([7]) وتارة يفتي بالمجعول بان يقول جلسة الاستراحة واجبة والإحياء سبب الملك.
فعلى الأول: لا فرق بين الحكم الوضعي والتكليفي فان الجعل واحد فيهما وقد جعل وجوب جلسة الاستراحة لكل الصلوات كما جعل الملكية ممتدة بامتداد الأزمان، والمجتهد الأول يثبت ذلك (الجعل) والثاني ينفيه، أو بالعكس فإذا ثبت([8]) ثبتت مجعولاته أفراداً كانت أم حقائق ذات امتداد.

وإن كان مصبّها المجعول فمآلها إلى الجعل
واما على الثاني فقد يتجه ان المجعول في الحكم التكليفي انحلالي ففتوى كل منهما في ظرفها هي الحجة، واما الوضعي فاستمراري ففتوى الأول حجة حدوثاً وبقاءً أو فقل حيث كانت حجة حدوثاً كانت حجة بقاءً فلا محل للفتوى الثانية كما وجهنا به كلامه قدس سره.
ولكنه أيضاً قد يناقش: بان فتواه وإن كان مصبّها المجعول إلا ان مآلها إلى الجعل بل لا حجية لها إلا به؛ فانه إذا افتى بان جلسة الاستراحة واجبة فإنما ذلك لأنه رأى تمامية الرواية الدالة عليه سنداً ودلالة، مثلاً، فقد عاد الانحلالي إلى اللاانحلالي، والثاني ينفيه كذلك.

2- سلّمنا، لكنها عن المجعول بنحو (الحقيقية) فتتضادان
الثاني: سلّمنا ان الفتوى هي عن المجعول لا عن الجعل، لكن كلامه إنما يصح إذا كانت الفتوى بنحو القضية الخارجية لا الحقيقية، ولكن فتوى الفقهاء إنما هي بنحو القضية الحقيقية فالذي يفتي بوجوب جلسة الاستراحة فان مصبّ فتواه الكلي الطبيعي لها والذي ينفي ففتواه كذلك نفس الكلي الطبيعي فهما متعاندتان مطلقاً كتعاند من يفتي بالملكية ومن يفتي بالعدم فانها أيضاً بنحو الحقيقية.
نعم لو كانت فتوى كل منها بنحو القضية الخارجية أو الشخصية بان افتى الأول بوجوب الجمعة الأسبوع الماضي وافتى الآخر بوجوبها هذا الأسبوع، فههنا قد يقال بانهما ليستا متضادتين([9]) لذا عليه ان يتبع في كل جمعة مقلَّده.
نعم قد يرشد الفقيه إلى القضية الخارجية، لكنه خارج حينئذٍ عن مقام الفتوى، ومزيد التوضيح: ان ههنا ثلاث مقامات: مقام الفتوى ومقام القضاء ومقام الإرشاد: والمفتي مقامه مقام بيان الأحكام الشرعية بما هي هي أي بما هي كليات طبيعية ومع قطع النظر عن التطبيق على خصوص هذا المكلف أو ذاك، اما القاضي فمقامه مقام الحكم والبت في القضايا الشخصية أي في هذه القضية وتلك وعلى هذا المكلف وذاك، اما المرشد فهو دليل لا غير فان الفقيه قد يرشد المكلف إلى كونه مصداق أية كبرى وانه هو بالخصوص ما حكمه لقصور المكلف عن التطبيق أو لما احاطت به من المكتنفات، وذلك نظير اخبار الوكيل عن فتوى مرجعه فانه مرشد وليس مفتياً.

سلّمنا انه بنحو الخارجية، لكنهما([10]) متلازمان أو منفكان، معاً
الثالث: سلّمنا ان الفتوى هي عن المجعول لا عن الجعل، وسلّمنا انها بنحو القضية الخارجية أو الشخصية، لكن مع ذلك لا يصح كلامه وتفصيله بين الوضعي والتكليفي؛ وذلك لأنه اما ان نقول بالتلازم بين الأحكام الظاهرية واما ان نقول بالتفكيك بينها:
فإن قلنا بالتلازم فان فتويي المجتهدين (أحدهما بوجوب هذه الصلاة في هذه الجمعة على هذا الشخص والأخرى بحرمة صلاة الجمعة في الأسبوع القادم) وإن لم تكونا متنافيتين مطابقةً لكنهما متنافيتان التزاماً لمضادة المدلول المطابقي للقائل بوجوب هذه الجمعة مع المدلول الالتزامي للقائل بحرمة تلك الجمعة([11]) فلا يكون فرق بين الحكم التكليفي والوضعي من هذه الجهة أيضاً لكون كل منهما ينفي ما اثبته الآخر مطابقة أو التزاماً.
وإن قلنا بالتفكيك فكما أمكن التفكيك بين أفراد الحكم التكليفي (وجوب هذه الجمعة وحرمة تلك) مع انها فردا حكم كلي واحد؛ لأنه حكم ظاهري، فانه يمكن التفكيك بين أزمان الحكم الوضعي بالقول بانه وإن كان حقيقة واحدة ممتدة بامتداد الأزمان لكنه يمكن التفكيك بالقول بانه ملك له مادامت فتوى الأول عليه وليست ملكه منذ لحظة عدوله إلى من لا يراه ملكه.

فالمرجع الأدلة من عالم الإثبات
والناتج عن ذلك: ان اللازم الرجوع إلى الأدلة من عالم الإثبات لإثبات التفريق بين الفردين من كلي واحد أو بين الزمنين من حقيقة واحدة متصلة ممتدة، وهو الذي نصير إليه، لا القول بان هناك خصيصة ذاتية للحكم الوضعي (وهي استمراره وامتداده) بها اختلف عن الحكم التكليفي (وهو انحلاليته) ثم الاعتماد على ذلك بنفسه في التفصيل بين الحكمين، فتدبر.
ثم انه اختلف في تعريف القضية الحقيقية الخارجية، وما ذكرناه هو المختار، وستأتي الإشارة إليه، كما سيأتي بيان ان هناك أمراً متوسطاً بينهما وهو القضية الحقيقية – الخارجية فانها نظير الكلي في المعيّن، فانتظر.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين


قال الإمام الصادق عليه السلام: ((ثَلَاثٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ تَجَنُّبُهَا مُقَارَنَةُ الْأَشْرَارِ وَمُحَادَثَةُ النِّسَاءِ وَمُجَالَسَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ)) تحف العقول: ص319.
 

 

-------------------------

([1]) سورة التوبة: آية 122.
([2]) أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1407هـ، ص10.
([3]) في مثل الملكية. والجِدة هي: (هيئة ما يحيط بالشيء جِده          بنقله لنقله مقيدة) وذلك كالتعمّم والتقمّص، وقد قيل ان الملكية كذلك.
([4]) جرياً على وِزان (الكم المتصل القار) مقابل الحكم المنفصل. فتأمل
([5]) وهو الأصح.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص280.
([7]) لم أجد هذه العبارة في الروايات، ولكن ورد ما بمعناها مثل كلام أمير المؤمنين عليه السلام: ((للعين ما رأت ولليد ما أخذت)). الوسائل: ج 23 ص 391 باب 38 من أبواب الصيد ح 1.
([8]) الجعل.
([9]) على انه سيأتي ما فيه.
([10]) أي الحكم التكليفي والوضعي.
([11]) لفرض عودهما إلى فتويين كليتين.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3128
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 30 رجب 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15