بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(88)
الدفاع عن تفصيل اليزدي، بدعوى الانصراف
ويمكن الدفاع عن المحقق اليزدي في تفصيله بين العقود والإيقاعات من جهة وبين الحلّية في اللحم من جهة أخرى بان مستند التفريق هو الانصراف وذلك بأن يقال: بأن أدلة حجية رأي الفقيه مثل (لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([1]) و((أَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ))([2]) دالة على حجيته مطلقاً في كل ما كان من شأنه أنه إذا ثبت دام وأن علته المحدثة علة مبقية، لكنها منصرفة عن مثل اللحم الباقي الآن.
أو بأن يقال: بان مثل (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)([3]) يفيد وجوب الوفاء بها مطلقاً متى ما انعقدت، ودُلَّ عليها بحجة شرعية، عكس (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)([4]) فلا يفيد الحلية إلا على فرض قيام الحجة عليها فعلاً ومع موت المجتهد وتقليده من يرى عدمها، لا حجة له.
والفرق ان تلك هي أدلة المسألة الأصولية وهذه أدلة المسألة الفقهية.
وجه دعوى الانصراف
ويمكن تعليل دعوى الانصراف بأن جواز التمتع بالمرأة يعدّ من آثار العقد السابق لذا كانت فتوى السابق فيه حجة على امتداد الأزمان.
أما جواز أكل اللحم فموضوعه اللحم الحالي وليس موضوعه التذكية وعدمها سابقاً، عرفاً، وإن كان مرجع حلية هذا اللحم حالاً وعدمها إلى التذكية السابقة وعدمها، فالفارق الفهم العرفي وليس التدقيق العقلي.
مناقشته
وقد يجاب بأن الأمر عرفاً في كليهما سيان؛ إذ موضوع جواز التمتع هو الزوجة، وعلة الزوجية هي العقد، كما ان موضوع جواز أكل اللحم هو اللحم الحلال، وعلة الحلية هي التذكية، فتأمل.
المنصور: وِزان الفتويين واحد، والزمن لا دخل له في الحجج
ولكن هذا كله جرياً على المعروف([5]) لكن المنصور، كما سبق، أن وِزان الفتويين السابقة واللاحقة من حيث كونهما مشمولتين لأدلة الحجية، وِزان واحد، فتشملهما الأدلة بنحو واحد، كالفتويين المتزامنتين تماماً، فإن تقارن زمن الفتويين كتعاقبهما غير دخيل في جهة الكاشفية، وكما سبق فإن التأخر الزمني ليس من المرجحات في غير الروايات، على كلام فيها أيضاً إذ لم يصر المشهور إلى الترجيح بالاحدثية.
وبعبارة أخرى: ان حجية خبر الثقة في الحسيات وقول أهل الخبرة في الحدسيات، إنما هو لكاشفيتها النوعية عن الواقع، والزمن – ماضياً وحاضراً ومستقبلاً – لا مدخلية له في جهة الكاشفية أبداً.
ليست الاحدثية من المرجحات ولا التقدم الزمني
وصفوة الكلام: ان التقدم الزمني ليس من المرجحات ولا التأخر، فهذا أصل عام وهو كما ترى نافع في المقام وإجماله: انه ذهب جمع إلى مرجحية تأخر زمن الصدور في الروايات المتعارضة نظراً لورود وجوب الأخذ بالأحدث، لكن المشهور اعرضوا عنها، والظاهر انها خاصة بمن هو في زمن الإمام اللاحق الذي صدر منه ما عارض عام الإمام السابق بالتباين أو من وجه، اما المتأخر عن الزمانين فالمشهور كونهما متعارضين وليس المتأخر أرجح من سابقه، وعلى ذلك جرت سيرتهم في مطلق العمومات الصادرة من الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمة اللاحقين عليهم السلام.
كما انه ذهب جمع إلى مرجحية تقدم أحد فردي المضطر إليه ونظائره إذا كانا مترتبين طولياً زمناً، فلو اضطر إلى ترك أحد الركوعين في الركعتين (والانتقال للإشارة مومياً مثلاً) وجب – بحسبهم – ان يركع في الأولى ويتركه في الثانية لا العكس، لأنه حين الركعة الأولى ليس بعاجز عن الركوع وليس فعلاً بمضطر فإذا ركع عجز عن الركوع في الثانية فسقط، وذهب البعض إلى ان القضية حقيقية والاضطرار إنما هو للجامع فله ان يمصدقه في أي فرد شاء، وعلى أي فالأصل عدم مدخلية الزمن في الترجيح بين الحجتين أو الفعلين إلا ما ثبت بدليل خارج.
وذلك هو الأصل في القضايا الحقيقية
وبعبارة أخرى: إن الأصل في القضايا الشارعية، أصوليةً كانت أو فقهية، أنها قضايا حقيقية لا خارجية، والفقهية كوجوب الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة و... بشروطها الخاصة، والأصولية كحجية خبر الثقة وقول أهل الخبرة، ومنهم الفقهاء، والقضايا الحقيقية لا مدخلية للزمن فيها فانه سواء تقدمت الحجة أم تأخرت فإن أدلة الحجية شاملة لها، فإذا قلنا بالتعارض والتساقط سقطت الحجتان المتعارضتان سواء المتزامنتان أم المتعاقبتان زمناً، وإذا قلنا بالتخيير لشمول أدلة الحجية لهما من غير مدخلية لتقدم زمن أحدهما على الآخر فإنه ظرف كما هو الأصل في القضايا الحقيقية والقيدية بحاجة الى الدليل في الحجج وغيرها([6])، قلنا به في كلا النوعين.
ومن ذلك يظهر حال البينتين المتعارضتين سواء أتزامنتا أو تعاقبتا فانه إذا قامت بينتان متعارضتان متزامنتان سقطتا([7])، فكذلك لو جاءت بيّنة لاحقة على خلاف السابقة ولم تكن ذات مزية عليها بان تكون أكثر إطلاعاً أو أقوى عدالة أو خبروية، فانه لا وجه حينئذٍ – كأصل أولي – للحكم بتقدم الثانية على الأولى بل يتعارضان، وسيأتي تفصيله غداً بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
من وصايا الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم: ((يَا هِشَامُ قَلِيلُ الْعَمَلِ مِنَ الْعَاقِلِ مَقْبُولٌ مُضَاعَفٌ وَ كَثِيرُ الْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى وَ الْجَهْلِ مَرْدُودٌ)) تحف العقول: ص387.
-----------------------------------------
([1]) سورة التوبة: آية 122.
([2]) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، ج2 ص469.
([3]) سورة المائدة: آية 1.
([4]) سورة المائدة: آية 3.
([5]) من أن الفتوى الأولى تعدم هي أو تعدم حجيتها بموت الفقيه، كما تعدم حجيتها بالعدول إلى غيره.
([6]) كما إذا اعتبر الشارع الدلوك مثلاً قيداً في وجوب الصلاة، واما قيدية الزمن في الحجة الطريقية فلعله يُمثّل له بمثل حكم القاضي الثاني بعد حكم الأول. فتأمل نعم يمكن أخذه بلحاظ مصلحة سلوكية.
([7]) كأصل أولي، مع قطع النظر عن الدليل الخاص في بعض أنواعها كتقديم بيّنة الخارج أو الداخل أو غير ذلك، وسيأتي.
|