• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : خارج الأصول (التزاحم) .
              • الموضوع : 76- ثمرات أخرى طرق خمسة لاكتشاف ملاكات الأحكام فليست مجهولة بالمرة .

76- ثمرات أخرى طرق خمسة لاكتشاف ملاكات الأحكام فليست مجهولة بالمرة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(76)


الإشكال: مجهولية ملاكات الأحكام
سبق: إن التزاحم اما بين الغرضين أو الأمرين أو الأمر والغرض، وإن التعارض قد يكون بين الأمر وغرضه، ولكن قد يشكل على ذلك بانه عديم الجدوى أو قليلها جداً وذلك لعدم معرفتنا بملاكات الأحكام، فاننا وإن كنا نعلم ان لها، قطعاً، ملاكات حسب العدلية، لكننا نجهل حقيقتهما وحدودهما فلا مجال للانتقال إلى الترجيح بالأهمية في الصور الثلاث الأولى ولا إلى طرح الأمر في الصورة الرابعة، لأن الغرض إذا كان حِكمةً فلا يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً.

الجواب: الملاكات معلومة في خمس دوائر
والجواب: إن ذلك وإن صح في الجملة لكنه لا يصح بالجملة، وذلك لمعلومية الملاكات وكونها عِلّة تامة في خمس دوائر:

المستقلات العقلية
الدائرة الأولى: المستقلات العقلية، فانها في حيطة العقل فانه لا يحكم فيها، أي في مطلق ما يحكم فيه، إلا بعد الإحاطة بكل جهاتها، فحينئذٍ يقع البحث عن التزاحم بين مستقل عقلي ومستقل آخر أو بين فردي مستقل واحد، والأخير كتزاحم مصداقي العدل، كالعدل بين الزوجتين إذا عجز عن الجمع بينهما([1])، والأول كما لو تزاحم العدل مع الحرية إذ (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) فسلب سلطتهم على  أنفسهم خلاف القاعدة أو تزاحمت الحرية مع الشورى في الموضوعات التي تعم مجموعةً بحيث كانت مصالحها بنحو الارتباطية في تلك القضية لا الاستقلالية. فتأمل

الأحكام المهيمنة كالأصول
الدائرة الثانية: الأحكام المهيمنة، فان بعض الأحكام مهيمن على البعض الآخر، كهيمنة أصول الدين على فروعه وأحكامه فانه لا شك في اقوائية ملاكاتها، فلو دار الأمر مثلاً بين التوحيد وبين احدى المعاصي أي دار بين ان يشرك بالله أو أن يكذب أو يغتاب مثلاً، وجب عليه الكذب إذ توقف عليه التوحيد فمثلاً: لو وجد ان هذا العامي سيخرج عن الإيمان إلى الكفر إذا لم يبهت أو يغتب فلاناً الذي يدعوه إلى الشرك، فانه يجب عليه ذلك، وذلك (التزاحم) هو وجه من وجوه قوله (باهتوهم) إذا أريد به البهتان.
وكذلك لو دار الأمر بين الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام وبين أي واجب آخر.
ومن أمثلة ذلك: ان بعض الشباب العصاة إذا ضغط عليهم أولياؤهم ليتركوا المعاصي، ولّد ذلك فيهم، لجهلهم، رد فعل عكسي فيخرجون من الدين، فان نهيهم عن المنكر إن كان مؤدياً إلى منكر أعظم، حرام.

أسماء المصادر المتعلقة للتكاليف
الدائرة الثالثة: أسماء المصادر التي وقعت متعلقاً للتكاليف، كما مضى التمثيل لبعضها، فإنها تكون حينئذٍ المحور لا المصدر فانه يكون صِرف طريق إليها أو مقدمة فلو تعارض معها قدمت عليه لا محالة، ولنمثل لذلك بمثال لطيف: فانه إذا كان لديه كيلو من الحنطة الجيدة فقال بعها بكيلوين من الرديئة، فانه لا يجب عليه الامتثال بل يحرم والأمر ساقط بتحريم الشارع، إلا لو عُلِم بان الغاية من قوله بِعْهُ هو نَقْلُه لملك الغير والاستعاضة عنه بالكيلوين فانه يجب عليه نقله بغير البيع، مما يعني سقوط أمر البيع وثبوت وجوب النقل لكونه الغرض فيجب ان ينقله عبر الهبة المعوّضة مثلاً بل عبر الصلح أيضاً إن قلنا بانه حقيقة أخرى غير كل معاملةٍ أفاد فائدتها وقلنا بان البيع الربوي حرام خاصة دون الصلح الربوي، وإلا فلا([2])، أو ان ينقله (الكيلو الجيد) عبر الجعالة في مقابل جعالة أخرى (للكيلوين الرديئين) أو عبر بيعين مع انصراف (بِع) عنها وإلا كان مشمولاً لأمره)
ولو أمره بالنقل وجب، وحرم أي معنى مصدري محرم شرعاً وإن كان مقدمة فانه (لا يطاع الله من حيث يعصى)([3]) ووجب غيره طريقياً.

الأحكام المذكورة فيها عِلَلُها
الدائرة الرابعة: الأحكام المذكورة فيها عللها أو غاياتها مما ظاهرها كونها عللاً؛ فان الأصل في ذكر عِلّة لأمرٍ (كحكم أو غيره) كونه علّة واما كونه حِكمةً فخلاف الأصل والقاعدة والفهم العرفي، فلا يصار إليه إلا بالدليل من قرائن حال أو مقال أو ارتكاز وشبه ذلك.

المراد بـ(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)
فمن ذلك قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)([4]) فان المحتمل في (الفتنة) أمران:
الأول: الشرك قال في تفسير الصافي: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة: لا يوجد فيهم شرك.
القمي: أي كفر، قال: وهي ناسخة لقوله: (كفوا أيديكم) ولقوله (ودع أذاهم). ويكون الدين كله لله: ويضمحل عنهم الأديان الباطلة)([5]) وفي مجمع البيان رواه مرسلاً عن الإمام الصادق عليه السلام.
فيكون المعنى وجوب قتال الكفار والمشركين حتى يزول الكفر والشرك، لكن هذا المعنى مما لا يمكن المصير إليه لوجوه:
منها: ورود روايات أخرى صريحة في ان تأويل هذه الآية إنما هو في زمن الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف لا فيما سبقه فهم الواجب عليهم القتال إلى أن يظهره على الدين كله، ((عَنْ زُرَارَةَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام سُئِلَ أَبِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) فقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا بعده سَيَرَى مَنْ يُدْرِكُهُ مَا يَكُونُ مِنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيَبْلُغَنَّ دَيْنُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه واله وسلم مَا بَلَغَ اللَّيْلُ حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ اللَّهُ))([6]).
((عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) فَقَالَ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم رَخَّصَ لَهُمْ لِحَاجَتِهِ وَحَاجَةِ أَصْحَابِهِ، فَلَوْ قَدْ جَاءَ تَأْوِيلُهَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، لَكِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ حَتَّى يُوَحَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ))([7]).
ومنها: ان سيرة النبي والأمير عليه السلام تصلح مفسرة للآية أو صارفة لها عن ظهورها لوضوح ان النبي لم يفعل على حسب هذا التفسير للآية الشريفة بل كانت حروبه دفاعية حتى ما توهم انه هجومي فإنما كان دفاعاً وتحرزاً من هجوم للعدو وشيكٍ، فلم نجد أحدهما (عليهما السلام) قاتل لفرض الإسلام على الغير بالقوة، فيصلح ذلك موكداً أ- اما لمفاد روايات ان الخطاب في الآية في واقِعِهِ هو لأصحاب الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ب- أو هو عام لكن رخص للنبي صلى الله عليه واله وسلم ولمن بعده إلى يوم الظهور كما هو مفاد([8]) رواية محمد بن ابن مسلم السابقة عن الإمام الباقر عليه السلام واما للوجه الثاني الآتي:
الثاني: ان المراد من الفتنة فتنة المؤمنين ليشركوا كما قال به بعض المفسِّرين أي ان القتال يجب لمنع الكفار عن ان يفرضوا على المؤمنين في بلادهم، الكفرَ، أو من ان يمنعوا شعوبهم من الإسلام لو أرادوا، فالقتال على هذا لأجل تكريس حرية المعتقد للناس ورفع القسر عنهم، والحاصل هو: ان المراد: حتى لا يكون ما يوجب الفتنة أي شرك الناس، والموجِب هو قهر حكوماتهم لهم.
فإذا كان هذا المعنى هو المراد فان المدار يكون حينئذٍ هو الغاية وهي (لا تكون فتنة) لا (قاتلوهم) وعليه: فإذا أمكن تحقيق الغاية عبر العلاقات الدبلوماسية والهدايا وشبهها لكي يرفعوا القسر عن شعوبهم وجب ذلك وحرم قتالهم لما فيه من سفك الدماء وغيرها بلا مبرر لوجود المندوحة.

الموضوعات والأهم والمهم فيها في الجملة
الدائرة الخامسة: دائرة الموضوعات والأهم والمهم فيها، وهي مورد الكلام وهي التي ادعينا الانسداد الصغير فيها في الجملة فتكون الظنون الشخصية، بناء على ذلك، حجة فيها.

الجواب عن إشكال ان مقتضى الروايات التخيير لا الترجيح
لا يقال: مقتضى الروايات التخيير بعد فقد المرجحات المنصوصة ((عن زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ سَأَلْتُ الْبَاقِرَ ع فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ فَقَالَ عليه السلام يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَدَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ فَقَالَ عليه السلام خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَ أَوْثَقِهِمَا فِي نَفْسِكَ فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ فَقَالَ انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ قُلْتُ رُبَّمَا كَانَا مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوْ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ عليه السلام إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذُ بِهِ وَتَدَعُ الْآخَرَ))([9])
إذ يقال: هي أولاً: خاصة بالروايات ولذا ذهب من قال بالتساقط في تعارض الطرق إلى التخيير في خصوص الروايات، لمكان الروايات الخاصة الحاكمة بالتخيير لدى تعارض الروايات.
ثانياً: سلمنا لكنها تعمم للحجج (كالبينة وغيرها) لا للموضوعات، وكلامنا في الموضوعات.
ثالثاً: ان محل البحث هو تزاحم الملاكات (بين أمرين أو غرضين أو أمر وغرض) والروايات إنما هي في باب التعارض. فتدبر جيداً وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين


قال الإمام الصادق عليه السلام: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ فَقُلْ فِيَّ خَيْراً وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْراً أَشْهَدْ لَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّكَ لَنْ تَرَانِي بَعْدَهَا أَبَدا)) الكافي: ج2 ص523.

 

-------------------------------------------------------------
([1]) أي بين العدلين.
([2]) أي لا يجوز الصلح أيضاً.
([3]) ذُكر في كتاب وقاية الأذهان، للشيخ محمد رضا النجفي الاصفهاني، ص٣٩٤، وفي جواهر الكلام، للشيخ محمد حسن النجفي، ج٢٢ ص٤٦ إنّه قول وليس حديثاً.
([4]) سورة الأنفال: آية 39.
([5]) الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، منشورات مكتبة الصدر – طهران، ج2 ص303.
([6]) محمد بن مسعود العياشي، تفسير العياشي، المطبعة العلمية – طهران، 1380هـ، ج2 ص56.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج8 ص201.
([8]) لقوله عليه السلام: (( فَلَوْ قَدْ جَاءَ تَأْوِيلُهَا...)).
([9]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام - قم، 1405هـ، ج4 ص133.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3075
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 24 جمادي الاخر 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19