• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : خارج الأصول (التزاحم) .
              • الموضوع : 75- تزاحم الغرضين أو الأمرين أو بالاختلاف وتعارض الأمر مع غرضه - ثمرات البحث في التفسير والفقه والحديث .

75- تزاحم الغرضين أو الأمرين أو بالاختلاف وتعارض الأمر مع غرضه - ثمرات البحث في التفسير والفقه والحديث

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(75)


تزاحم الأمرين أو الغرضين أو بالاختلاف
والحاصل ان الصور أربع: تزاحم الأمرين ذوي الملاك، وتزاحم الغرضين ولعلّه يعمّه تعبيرهم بالتزاحم الملاكي، وتزاحم الأمر ذي الملاك مع الغرض، فهذه الثلاثة من باب التزاحم.

تعارض الأمر مع غرضه
واما الصورة الرابعة: فتندرج في باب التعارض وهي تعارض الأمر مع غرضه، لا مع غرض آخر ليتزاحم الغرض الآخر مع الأمر ذي الملاك، فان الأمر إذا تدافع مع غرضه وفرضناه علةً، خلا عن الملاك فلم يكن من التزاحم فلا بد من رفع اليد عن أصله إن خلا عن الغرض مطلقاً فرضاً أو عن عمومه وإطلاقه إن خلا عمومه عنه.
ولنمثل له بمثال عقلائي لتظهر صحته بجلاء فانه إذا أمر المولى بـ(أكرم العلماء) وكان الغرض والعِلّة التامّة هو (مرجعيتهم للناس) أي لتتكرّسَ مرجعيتهم – بالمعنى اللغوي الأعم – وليتأسى بهم الناس فانه إذ تعارض إطلاقه مع الغرض كما إذا كان العالم متجاهراً بالفسق وكان إكرامه يكرس مرجعيته في جهة فسقه أيضاً كما إذا كان من أعوان الظلمة أو كان متجاهراً بشرب الخمر مثلاً، فانه لا شك في تقدم الغرض على الإطلاق أو العموم، ولك ان تقول بان الإطلاق مقيَّد لبّاً بالغرض.
وحيث استغرب بعض الأفاضل ما ذكرناه من تقدم الغرض على الأمر أو على إطلاقه، رغم ما سلف من وضوحه بل بداهته على مسلك العدلية، لذلك سنعضد ما قلناه بكلامي علمين في مبحثين يؤكدان مدارية الغرض:

الكفاية: الغرض لا يحرز إلا بالأكثر، فيجب
قال في الكفاية في بحث تعليل عدم جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين: (هذا. مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر، بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلابد من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى)([1]).
وقال السيد الحكيم في حقائق الأصول: (و توضيحه: أن المشهور بين العدلية أن الأمر بالشي‌ء ناشئ عن غرض للآمر في ذلك الشي‌ء فيكون الأمر دائماً معلولاً لذلك الغرض؛ فالعلم بالأمر يستلزم العلم بالغرض لأن العلم بالمعلول يستلزم العلم بالعلة، وحينئذ فيجب بحكم العقل العلم بحصول ذلك الغرض، ومع الاقتصار على فعل الأقل يشك في حصوله فلا بد من الاحتياط ليحصل العلم بحصوله، فالشك في المقام راجع إلى الشك في محصِّل الغرض بعد الجزم بثبوته لا في أصل ثبوته مع العلم بمحصِّله على تقدير ثبوته كما في الشبهة البدوية، والشك في المحصِّل موضوع لقاعدة الاشتغال لا لأصالة البراءة)([2]).

الكفاية: الامتثالة علة لحصول الغرض اما تامة أو ناقصة
وقال الآخوند في الكفاية في مبحث الإجزاء ما ملخّصه: ان الامتثال تارة يكون عِلّة تامة لحصول الغرض وتارة يكون عِلّة ناقصة، وانه على الأول يسقط الأمر بالامتثال: (أقول: إذ بقاؤه خلف أو طلب للحاصل) وعلى الثاني لا يسقط (أقول: لأن المعلول لا يوجد إلا بعلته التامة فمع مجرد وجود العلة الناقصة لا يوجد ولا يتحقق الغرض فمادام باقياً فالامتثال المحقِّق له واجب).
قال: (نعم لا يبعد أن يقال: بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانياً بدلاً عن التعبد به أولاً لا منضما إليه، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علّة تامة لحصول الغرض، وإن كان وافياً به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه بعدُ، فإن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أهريق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيإنّه ثانياً، كما إذا لم يأت به أولاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلاّ لما أوجب حدوثه، فحينئذ يكون له الإِتيان بماء آخر موافق للأمر، كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه.
نعم فيما كان الإِتيان علّة تامة لحصول الغرض، فلا يبقى موضع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم إنّه من أيّ القبيل، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علّة، فله إليه سبيل، ويؤيّد ذلك ـ بل يدلّ عليه ـ ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة، وأنّ الله تعالى يختار أحبهما إليه)([3]).

الثمرة والإشارة إلى سعة دائرة البحث:
ثم ان ثمرة هذا البحث (تعارض الغرض والأمر) كبيرة عامة شاملة للكثير من الآيات والروايات والأحكام الشرعية، وقد جرى دأب بعض الأعلام في بحث الغرض على الاكتفاء بأمثلة فرضية، وفي بحث المعنى الاسم مصدري اكتفى بعضهم ذكر ما ذكره الشيخ قدس سره من قوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ)([4]) مقتصرين على ذلك، أو نظير أو نظيرين، ولكن، وكما سبق وسيظهر، فان للبحث أمثلة كثيرة هامة جداً، ولنذكر بعضها:

الأمر بالمعروف لغرض الردع
فمنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فانه واجب بنصوص الكتاب وظواهره ومتواتر الروايات، قال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ)([5]) و(يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ)([6]) الواقع موقع التعليل والغاية لبعثته صلى الله عليه واله وسلم و(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)([7])([8]) ولكن الأمر بالمعروف إنما هو لغرض الردع([9]) فلو علم بانه لو نهاه عن النظر للأجنبية فانه سيعاند ويزيد في إجرامه بلمس أو الأكثر، فانه لا شك في حرمة نهيه عن المنكر، ولذا ذهب الفقهاء إلى عدم وجوبه إلا مع احتمال تأثيره([10]) فكيف بما لو كان تأثيره معاكساً.

حرمة الغيبة لحراسته من الهتك
ومنها: الغيبة للمتجاهر بالفسق كالمتجاهر بالغيبة، فان غيبته فيما تجاهر فيه جائزة بل لازمه ان كانت رادعة له أو لغيره، إذ حُرّمت الغيبة لحفظ حرمته فإذا أسقطها بتجاهره بالفسق فلا غيبة له بل إذا هتك حريم الآخرين متجاهراً كان للغير هتك حريمه (إن كان). فتأمل

الكون مع الصادقين
ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)([11]) فان الكون مع الصادقين واجب، والظاهر انه معنى اسم مصدري فمحصِّله واجب، ولو شك في محصِّله باجزائه أو شرائطه وجب الاحتياط باتيانها لكي يحرز المحصَّل.
فمن ذلك مثلاً ما أشارت إليه الصديقة الزهراء عليها السلام بقولها المقرح للقلوب ((يَا أَبَتَاهْ بَقِيتُ وَالِهَةً وَحِيدَةً وَحَيْرَانَةً فَرِيدَةً فَقَدِ انْخَمَدَ صَوْتِي وَانْقَطَعَ ظَهْرِي وَتَنَغَّصَ عَيْشِي وَتَكَدَّرَ دَهْرِي فَمَا أَجِدُ يَا أَبَتَاهْ بَعْدَكَ أَنِيساً لِوَحْشَتِي وَلَا رَادّاً لِدَمْعَتِي وَلَا مُعِيناً لِضَعْفِي فَقَدْ فَنِيَ بَعْدَكَ مُحْكَمُ التَّنْزِيلِ وَمَهْبَطُ جَبْرَئِيلَ وَمَحَلُّ مِيكَائِيلَ‏، انْقَلَبَتْ بَعْدَكَ يَا أَبَتَاهْ الْأَسْبَابُ وَتَغَلَّقَتْ دُونِيَ الْأَبْوَابُ... يَا أَبَتَاهْ أَمْسَيْنَا بَعْدَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، يَا أَبَتَاهْ أَصْبَحَتِ النَّاسُ عَنَّا مُعْرِضِين‏))([12]) فان الكون مع الصادقين في أدنى درجاته هو في ان يحضر الناس إلى دار علي وفاطمة عليهما السلام وان يلتفّوا حولهم ويزورهم فهذا أقل درجات الكون مع الصادقين فانه إذا لم يمكنه أو إذا جبن عن مقارعة الظالم بسيفه دفاعاً عن المظلوم فليزره على أقل التقادير وليشاطره العزاء أو المصاب وليواسيه.
ولا بأس بالإشارة استطراداً إلى ان من الغريب ان (العشائر) تتميز بنجدة أبنائها ومواساتهم في المصائب والخُطوب، فلو سجن لهم سجين هبّ الكل لنجدته وتزاورت العشيرة مع أهله حتى إذا علموا بانه مسجون بحق فكيف إذا سجن ظلماً! وفي المقابل نجد البعض من رجال الدين أو من المثقفين، يخذل المظلوم ولا يستعد لنصرته أو للكون معه حتى بقدر زيارة ذويه وأهله وقد قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ((وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ‏))([13]).

الكون شهداء على الناس
ومنها: قوله تعالى: (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)([14]) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)([15]) فان الكون شهيداً على الناس معنى اسم مصدري وغرضه للمولى يجب تحقيقه، ومن مصاديقه كتابة سيرة المعصومين وتواريخ حياتهم وحياة أصحابهم فانه نوع من الشهادة لله ولخلفائه، وكذلك القوامية بالقسط. فتأمل

نقض الغزل أنكاثا
ومنها: قوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا)([16]) فان الكون كالتي نقضت معنى اسم مصدري منهيٌّ عنه، وعدم الكون كذلك غرض لازم التحقيق.
وربما تُعدّ مثل هذه الآية دليلاً جديداً على وجوب إحياء الشعائر الدينية والحسينية التي كان بها إحياء أمرهم الواجب ثم خيف ضعفها، إضافة إلى الاستدلال بمثل (أحيوا أمرنا) وبمثل انه مقدمة الواجب فيما كان مقدمة له وبوجوبه الكفائي.
فمثلاً: زيارة الإمام الحسين عليه السلام في الخامس عشر من شعبان وعرفة وغيرهما، كان سيرها نزولياً في السنين الأخيرة فاستناداً إلى الآية ينبغي أو يجب (في صورتين) إحياؤها بقوة من جديد وإلا كنا ممن (نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) وزيارة الاربعين وان تضاعفت قوتها في السنين الأخيرة ولكن يخشى عليها من الضعف أيضاً بمرور السنين لكثرة المثبطين وكثرة المشاكل وقلة الخدمات وغير ذلك، فاللازم التخطيط لاستمراريتها كالسابق وأقوى، وإلا شملنا قوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا).
ومنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)([17]) فان الكون أنصاراً لله معنى اسم مصدري واجب التحصيل. فتأمل

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين


 قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((يَوْمُ الْعَدْلِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الْجَوْرِ عَلَى الْمَظْلُومِ))
نهج البلاغة: ص534.

--------------------------------
([1]) الآخوند محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم، ج1 ص364.
([2]) السيد محسن الطباطبائي الحكيم، حقائق الأصول، مؤسسة البلاغ – بيروت، ج2 ص319.
([3]) الآخوند محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم، ج1 ص83-84..
([4]) سورة المائدة: آية 6.
([5]) سورة لقمان: آية 17.
([6]) سورة الأعراف: آية 157.
([7]) سورة آل عمران: آية 110.
([8]) على تفصيل في انه إخبار يفيد الإنشاء أو بقوّته أو غير ذلك.
([9]) إلا في بعض الصور، ككونه لِصِرف إتمام الحجة.
([10]) إلا في بعض الصور كما حققناه في مبحث آخر.
([11]) سورة التوبة: آية 119.
([12]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج43 ص175-176.
([13]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج7 ص51.
([14]) سورة البقرة: آية 143.
([15]) سورة النساء: آية 135.
([16]) سورة النحل: آية 92.
([17]) سورة الصف: آية 14.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3072
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 23 جمادي الاخر 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20