بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(273)
الفروق الست بين المكرَه والمضطر
سبق: (الثالث: ان يكون له قصد جدي وإرادة جدية، لكن لا عن طيب نفس، وذلك كالمكرَه، وسيأتي فرقه عن المضطر)([1]).
والفرق بين المكرَه والمضطر من جهات:
مصبّ الإكراه الفعل ومصبّ الاضطرار غيره
الأولى: ان مصبّ الإكراه هو الفعل نفسه، كما لو أُكرِه على البيع، تحت وطأة السيف!.
وأما مصبّ الاضطرار فهو غيره لكنه سرى منه إليه، كما لو اضطر إلى بيع داره لإنقاذ ابنه، فان مصبّ الاضطرار في الواقع هو إنقاذ ابنه أي انه مضطر لإنقاذ ابنه لكن حيث كان بيع داره لتحصيل الأموال التي بها ينقذ ابنه مقدمةً لإنقاذه صار بيعها مضطراً إليه، فالاضطرار إلى البيع بالتبع، اما في الإكراه فانه مكره على البيع نفسه فهو مكرَه عليه بالذات.
الإكراه متوقف على وجود مُكرِه، عكس الاضطرار
الثانية: ان الإكراه متوقف على وجود مُكرِه، أما الاضطرار فغير متوقف على وجود مضطَرٍّ (باسم الفاعل)([2]) والحاصل: في الإكراه يوجد هناك شخص أكرهه على البيع اما في الاضطرار فليس هناك شخص اضطره إلى البيع، ولا يقال عن ابنه الذي لأجله يبيع بِطَوعه داره انه اضطره إلى البيع، ولو قيل فبتوسّع.
الاضطرار متوقف على الاحتياج، دون الإكراه
الثالثة: ان الاضطرار متوقف على الاحتياج، فإذا لم يكن محتاجاً فباع فلا يصح ان يقول انني اضطررت إلى البيع فبعتُ ولو قال فغلط أو مجاز، أما الإكراه فلا يتوقف على الاحتياج كما هو واضح.
المكرَه غير راضٍ والمضطر راضي
الرابعة: ان الإكراه لا رضى فيه ولا طيب نفس به، عكس الاضطرار فان فيه طيب نفسٍ ثانوياً.
توضيحه: ان المكرَه على بيع داره ليست نفسه طيبةً به، اما المضطر لبيعها لينقذ ابنه من القتل أو الموت (بعملية جراحية مثلاً) فان نفسه طيبة ببيعها لكن لا بالعنوان الأولي (لفرض انه كاره للبيع لولا توقف إنقاذ ابنه عليه) بل بالعنوان الثانوي لأنه يجده الأمل لإنقاذ ابنه، وبعبارة أخرى: انه بعد الكسر والانكسار طيّب النفس بالبيع بل تجده يتوسل بالغير ليشتري داره ولو بنصف القيمة([3]).
ويتفرع على هذا الفرق، فرق في عالم الإثبات وهو ان بيع المضطر صحيح نافذ واما بيع المكرَه فباطل، وذلك لورود ((لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ))([4]) ولذا افتى الفقهاء بصحة بيع المضطر لأن له طيب نفس به، وببطلان بيع المكرَه لأنه ليست نفسه طيبة به، والوجدان والعرف أقوى شاهدين على ما ذكر فان المكرَه لا يقول أنا راضٍ بالذي أكرهني عليه (وإلا لما كان مكرَهاً) اما المضطر فيقول انا راضٍ ببيع داري مادام توقف عليها إنقاذ ابني، أكبر الرضى([5])!
الاضطرار لعامل داخلي والإكراه لعامل خارجي
الخامسة: قيل: إن الاضطرار يرجع إلى عامل داخلي والإكراه إلى عامل خارجي، وفيه: انه لا إطلاق للأول إذ اضطراره لبيع داره عائد لعامل خارجي وهو إنقاذ ابنه، اللهم إلا ان يرمّم بالوجه الأول الماضي. فتأمل
رفع الحكم الوضعي عن المكرَه امتنان، عكس رفعه عن المضطر
السادسة: ان رفع الحكم الوضعي عن المكرَه فيما أُكرِه عليه من المعاملات، من الامتنان فيشمله حديث الرفع دون رفع الحكم الوضعي عن المضطر فيما اضطر إليه، فانه خلاف الامتنان فلا يشمله حديث الرفع، مع ان لسانهما واحد ظاهراً إذ ورد ((رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَمَا لَا يَعْلَمُونَ وَمَا لَا يُطِيقُونَ وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ...))([6]) لكن حيث عُلِم ان وجه الرفع هو الامتنان فان في إبطال عقود المضطرين زيادة الاضرار بهم والضغط عليهم، وفي إمضائها وتصحيحها الامتنان عليهم؛ إذ لو حكم الشارع ببطلان معاملة كل مضطر كمن اضطر لبيع داره لإنقاذ ابنه أو غيره، فماذا يفعل المضطر؟ وإلا يكون الشارع قد أعنته بذلك أشدّ العنت؟
وذلك على العكس من الإكراه فان الامتنان والتفضل هو في ان يبطل الشارع عقود المكرَهين فانه يقلل جرأة المكرِهين على الإكراه إذا علموا بان البيع باطل شرعاً ماداموا قد أكرهوا البائع، كما ان المشتري حيث يعلم بان البيع باطل لأن البائع مكرَه فانه قد لا يُقدم على الشراء، وذلك كله في الجملة كما لا يخفى، ويكفي كون الثمرة في الجملة لكون الامتنان في إبطال عقود المكرَهين. هذا إضافة إلى ثمرات أخرى ومنها: انه لو كان باطلاً لصح للمكرَه الرجوع للحاكم لاسترجاع ماله، دون ما لو كان صحيحاً.
مزيد إيضاح لعدم تدافع الإكراه والقصد
وسبق (وبعبارة أخرى: الإكراه وطيبة النفس هي من العلل الـمُعدّة للبيع وليس أحدهما جزء مفهومه ولا مقوّماً لقصده، ولذا يقال: أُكرِه فقَصَدَ كما يقال أُكرِه فضَرَبَ مع كونه حينئذٍ قاصداً الضرب، كما ان البلوغ كذلك)([7]) وتوضيحه: انه لو أُكرِه على ضرب زيد أو على هدم جدارٍ فانه لو فعل فانه لا شك في كونه قاصداً قصداً جدياً حينئذٍ للضرب والهدم (إذ أمسك بالمعول وضرب الجدار بقوةٍ) لعلمه بانه بدون ان يضرب أو يهدم سيقتل، فكذلك لو أجبره على البيع فانه، إذا لم يورّ، كما سبق، فقد قصد عن جدّ البيعَ إذا باع، لكن لا عن طيبة نفس.
لا يقال: الضرب والهدم أمران تكوينيان، فالإكراه لا يُعدم القصد الجدي لدى المكرَه، بما هو إكراه، اما البيع فأمر اعتباري والإكراه يفقده قصده؟
إذ يقال: كلا إذ البيع فعل من الأفعال فانه إنشاء وهو إيجاد بلفظ أو فعل فهو فعل (إذ قوله مثلاً "بعت" فعل من الافعال) كما ان الضرب فعل من الأفعال، وكل فعل فان الإكراه يجتمع مع كون فاعله قاصداً له، نعم لا يجتمع مع كون نفسه طيبةً به.
والحاصل: ان كافة الاعتباريات تعود إلى الافعال، ولو فرض ان الاعتبار تولد من اعتبار آخر وهكذا فانه لا بد ان ينتهي إلى مَنشأٍ هو فعل من الأفعال، فتدبر تعرف.
نعم منشأ الوهم انه توهم ان قولنا المكرَه أراد البيع وقصده جداً يراد به انه أحبّه، وليس كذلك بل المراد بـ(أراد) الإرادة التكوينية والقصد الأعم من كونه عن حب أو عن بغض.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر عليه السلام: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا)) الكافي: ج2 ص430.
-------------------------------------
([1]) راجع الدرس (272).
([2]) أي مضطرِر (تسامحاً).
([3]) لكنه لا يتوسل بالمكرِه لينفذ تهديده، بل بالعكس!
([4]) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت عليه السلام - قم، ج14 ص572.
([5]) في بعض الحالات.
([6]) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت عليه السلام - قم، ج15 ص369.
([7]) راجع الدرس (272).
|