بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(57)
رأي الشيخ: عينية الحكم التكليفي للوضعي
سبق الكلام عن المحتملات في الحكم الوضعي منسوباً للحكم التكليفي، كما سبق ان المعروف عن الشيخ انه يذهب إلى ان الأحكام الوضعية منتزعة من التكليفية وذكرنا ان المحتمل ان مسلكه هو العينية، ونضيف: بل الظاهر من جملة من عباراته انه يرى العينية وان منشأ توهم انه يقوله بالغيرية والانتزاع انه عبّر به، لكنّ الظاهر انه لم يقصد معناه الفلسفي بل تسامح في إطلاقه على المقام ومقصوده انه (أي الحكم الوضعي) عنوان آخر للأحكام التكليفية وعبارة أخرى عنها لا انه منتزع منها.
والفرق واضح بين العينية والانتزاع: فان المنتزَع من الشيء غير الشيء؛ ألا ترى ان الزوجية غير الأربعة بالبداهة وإن كان وجودها بوجودها، بل لو كانت عين الأربعة للزم بقياس المساواة ان تكون الأربعة عين الاثنين وعين الستة والثمانية وهكذا إذ الزوجية عين كل منها، على القول بالعينية أي هي عين الأربعة وهي عين الاثنين فيلزم كون الأربعة عين الاثنين إذ عين العين عين.
وكذلك الإمكان للممكن فانه وإن وُجِدَ بوجوده لكنّه غيره؛ ألا ترى الممكن قد يكون جوهراً أو عرضاً اما الإمكان فلا هو جوهر ولا هو عرض بل هو ذاتي باب البرهان؟ وألا ترى ان الجوهر والعرض من المعقولات الأولى اما الإمكان فهو معقول ثانٍ فلسفي.
عبارات الشيخ تبدو مضطربة لكنه مسلكه العينية
نعم لعل ترجرج عبارات الشيخ أوقعت البعض في اللبس وانه يرى العينية فلاحظ كلماته: فان بعضها ظاهر في العينية وبعضها ظاهر في الانتزاع، لكنّ التدبر في جوهر كلامه يفيد انه يرى العينية..
قال: (ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أن الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول - كما اشتهر في ألسنة جماعة - أو لا، وإنما مرجعه إلى الحكم التكليفي؟ فنقول:)([1]) وهذه العبارة أعم إذ يحتمل في (مرجعه...) الوجهان
و(بل الذي استقر عليه رأي المحققين - كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين -: أن الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي، وأن كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء)([2]) فظاهر (ان كون الشيء سبباً لواجب هو...) العينية.
ولا يخفى الوجه في تقييده بـ(عند حصول) إذ السببية لديه ليست مطلق الوجوب بل الوجوب الخاص وهو (الوجوب عند)
وظاهر (فمعنى قولنا: "إتلاف الصبي سبب لضمانه"، أنه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها)([3]) العينية أيضاً.
واما ظاهر: (فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: "إغرَم ما أتلفته في حال صغرك"، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبر عنه بسببية الإتلاف للضمان، ويقال: إنه ضامن، بمعنى أنه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف)([4]) هو الانتزاع بل هو نصه لكنّ ذيله يناقضه. فتدبر.
وظاهر: (فإن شرطية الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة، وكذا مانعية النجاسة ليست إلا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس، وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب)([5]) انها مجعولة لكن لا بجعل مغاير، فتفيد الاثنينية للمجعول مع وحدة الجعل.
وظاهر (والعجب ممن ادعى بداهة بطلان ما ذكرنا، مع ما عرفت من أنه المشهور والذي استقر عليه رأي المحققين. فقال (قدس سره) في شرحه على الوافية - تعريضا على السيد الصدر -: وأما من زعم أن الحكم الوضعي عين الحكم التكليفي - على ما هو ظاهر قولهم: " إن كون الشئ سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشئ " - فبطلانه غني عن البيان)([6]) أن الشيخ قدس سره يرى أن الإشكال على العينية باطلاً ويرى عدم صحة ما قاله البعض من: (وبالجملة: فقول الشارع: " دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة " و " الحيض مانع منها "، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا وهو إيجاب الصلاة عند الزوال وتحريمها عند الحيض، كما أن قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)([7])، وقوله: ((دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ))([8])، خطاب تكليفي وإن استتبع وضعا، وهو كون الدلوك سببا والإقراء مانعا)([9]).
وقال: (أقول: لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا، فإنه إذا قال لعبده: "أكرم زيدا إن جاءك"، فهل يجد المولى من نفسه أنه أنشأ إنشاءين وجعل أمرين:
أحدهما: وجوب إكرام زيد عند مجيئه، والآخر: كون مجيئه سببا لوجوب إكرامه؟ أو أن الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله ولا إلى بيان مخالف لبيانه، ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء "سببية الدلوك" و"مانعية الحيض"، ولم يرد من الشارع إلا إنشاء طلب الصلاة عند الأول، وطلب تركها عند الثاني؟
فإن أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى، كيف! وهما محمولان مختلفا الموضوع.
وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين، فالحوالة على الوجدان لا البرهان.
وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد، فإن الوجدان شاهد على أن السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان، كالمسببية والمشروطية والممنوعية)([10]).
وهو صريح في انه لا يوجد إلا إنشاء واحد ومنشأ واحد إذ نفى كونها مجعولين بجعلين ثم نفى كونهما مجعولين بجعل واحد أي انه لا يصح القول بمجعولين وجعلين ولا يصح لديه القول بمجعولين وجعل واحد بل هناك جعل واحد ومجعول واحد وهو معنى العينية الخارجية، وذلك عكس الانتزاعي كالأربعة والزوجية فانهما مجعولان لكن بجعل واحد.
التباين المفهومي لا ينتج الغيرية
ولا يتوهم ان قوله: (فإن أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى، كيف! وهما محمولان مختلفا الموضوع) صريح في الاثنينية؛ إذ إضافة إلى انه يعارض بعض كلماته الأخر السابقة فانه لا ينفي قول مدّعي العينية لبداهة ان مدّعي العينية لا يقول ان المفهومين مترادفان، فالنقاش هو في العينية في مرحلة الحمل الشائع الصناعي بعد عدمها بالحمل الذاتي الأولي، ويظهر ذلك بوضوح عند التدبر في قول من قال بوحدة الأمور الأربعة: الوجود، الوحدة، التشخص، الشيئية، ومساوقتها مع بداهة انه لا يقول بالترادف.
وعلى أي فليس المقصود الأصلي إثبات ان الشيخ ماذا قال وإن كان مهماً في حد ذاته، إنما المقصود التمييز بين المحتملات والمعاني بشكل دقيق مما تكفله البحث السابق في تحديد مراد الشيخ.
المحتملات في ((وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ فَغَضُّهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ))
واما كلام الإمام عليه السلام في رسالة الحقوق فقد سبق انه محتمل لوجوه فلنبحثها على ضوء بعض فقراتها:
قال عليه السلام: ((وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ فَغَضُّهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ))([11]).
والمحتملات فيه عديدة:
عينية الحق للحكم
الأول: عينية الحق للحكم إذ هو ظاهر الحمل في قوله: ((وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ فَغَضُّهُ)) فالغض هو الحق بنفسه.
وفيه: ان الغض غير الوجوب والكلام عن عينية الحق للوجوب وهو الحكم لا عن أمر آخر كعينية الحق للغض الذي هو موضوع الوجوب أو متعلَّقه، على أنّ الحق صفةٌ للغض وليس عينه إذ الغض من مقولة الفعل والحق أمر اعتباري.
غيريته له مع كونه داعياً له
الثاني: الغيرية مع كون الحق هو الداعي لجعل الحكم للموضوع الخاص، وقد يقال بان هذا هو الظاهر بدعوى ان ظاهر ((وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ فَغَضُّهُ)) هو: حيث ان للبصر هذا الحق فوجب غضُّه عما لا يحل له فثبوت هذا الحق له في رتبة سابقة هو الداعي لجعل وجوب غضِّه عما لا يحلّ، على المكلف.. وللبحث تتمة ومزيد بحث بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ عَمِلَ حَسَناً اسْتَزَادَ اللَّهَ وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئاً اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهُ وَتَابَ إِلَيْهِ)) الكافي: ج2 ص453.
--------------------------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص125.
([2]) المصدر نفسه: ص126.
([3]) المصدر نفسه.
([4]) المصدر نفسه.
([5]) المصدر نفسه: ص127.
([6]) المصدر نفسه: ص127.
([7]) سورة الإسراء: آية 78.
([8]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي – طهران، ج3 ص83.
([9]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص127.
([10]) المصدر نفسه: ص128.
([11]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ص255.
|