• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 244- مباحث الأصول: (الحجج والأمارات) (2) .

244- مباحث الأصول: (الحجج والأمارات) (2)

مباحث الاصول: (الحجج والأمارات)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين*

الفائدة الثالثة: عرف المحقق النائيني الحجة بأنها (الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات) وفيه :أنه يخرج به كثير من الحجج  في علم  الأصول ؛ ولعل السبب لاختياره أنه أخذ الحجة  بمعنى الكاشفية حسب مبناه ؛ ولكن ذلك لا يمنع من القول بعدم تماميته؛ لأنه لابد أن يلحظ في التعريف جامعيته ومانعيته لما وضع له؛ إذ الكلام عن حجج الشارع وليس ذلك بحثاً اصطلاحياً صرفاً؛ وإنما هناك واقع وراء الاصطلاح ؛ وليس المحور هو الاصطلاح فقط.
إن تعريف الحجة بأنها الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات تعريف بالأخص، إذ به يخرج كثير من الحجج  في علم  الأصول ؛ إذ الغرض من التعريف أن يجري على الذات بما هي وبحسب الطبع أو الوضع الأولي؛ فقصرها في تعريف الأصول على الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات .
قال قدس سره : الحجة باصطلاح الأصولي عبارة عن الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي، من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه) [1].
أقول : ولا مشاحة في الاصطلاح ؛ فإنه لو ثبت في عرف خاص فهو المتبادر في استعمالاتهم عندئذٍ، كما لا بأس بأن يصطلح بإرادة ((الأوسط)) من الحجة في الأصول كما هو في المنطق، كما صنع الشيخ قدس سره.
وعلى هذا فإن تفسير الحجة بالأوسط أو الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات في علم الأصول ليس تفسيراً ببعض مصاديقها، بل هو تعريف بالمساوي[2] أو الحد التام[3]؛ لأن الفرض إنه تفسير له في هذا العلم بعد وضع الاصطلاح.
ولكن يرد عليه:
أولاً: أنه أشبه بالضرورة بشرط المحمول، أو المشروطة العامة[4]؛ في حين أن الغرض من التعريف أن يجري على الذات بما هي وبحسب الطبع أو الوضع الأولي، لا بلحاظِ وقيدِ أنه قد وضع لمعنى جديد، ولا فرق في ذلك بين الذوات الحقيقية وبين الاعتبارية؛ فإن لها ماهية وتقرراً في عالمها، وهل هو إلا كالقول بأن القياس  حجة قطعاً؛ لأنه كذلك عند العامة وباصطلاحهم؟ ولأنهم اعتبروه منجزاً ومعذراً ومما يصلح لاحتجاج المولى به على عبده وبالعكس؟ وفيه أنه بما هو هو وفي الواقع، ليس كذلك ، فتأمل ؛ إذ الفرق أن أهل الخلاف اعتبروا القياس حجة من قبل الشارع، فورد عليهم أنه بنظر الشارع ليس  منجزاً أو معذراً ولا كاشفاً ولا مما اعتبره الشارع مما يحتج به على عبيده.
نعم ، لهم أن يصطلحوا فيما بينهم على اعتباره حجة في محاوراتهم، بأن يقول المولى منهم لعبده: لو قست كان قياسك حجة منجزاً معذراً من قبلي، ولكنه خارج عن مورد البحث؛ إذ الكلام في السنة ، وأن السنة إذا قيست محق الدين[5].
وأما الأصولي فلا يقول ((الحجة)) عند الشارع تعريفها كذا؛ ليرد عليه عدم المساواة، بل يقول: إننا معشر الأصوليين قد تواضعنا على أن ((الحجة)) كلما أطلقناها أردنا بها كذا ،فتأمل؛ إذ الكلام في الأصول عن حجج الشارع في الفقه، وليس بحثاً اصطلاحيا صرفاً ، فتأمل.
لا يقال: إن أخذ الحجة بمعناها اللغوي أيضاً أشبه بالضرورة بشرط المحمول، فكيف عددتموها المقياس؟
إذ يقال: الفرق أن المعنى اللغوي هو مقتضى الوضع الأولي والطبع، كما أنه متفق عليه بين الأطراف، وأن الكل لاحظه في تعريفه، فليس النزاع فيه بل هو متفرع عليه، بخلاف التعاريف أو المصطلحات الأخرى للحجة من كونها الأوسط أو الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات أو غير ذلك؛ فإن النزاع فيها وجامعيتها ومانعيتها، لما وضعت له، ومدى انطباق المعنى الأصلي عليها.
لكن الظاهر أن كون الوضع التعييني أو التعيّني للفظ- في بعض ما وضع له لغة- استعمالاً للعام اللغوي في الخاص غير ضار بالاصطلاح، وبأنه بعده حقيقة فيه في العرف الخاص، والمرادف له فيه.
وثانياً: أنه أخص من مسائل الأصول؛ إذ أن هذا التعريف لا يتكفل بالغرض الذي وضع من أجله، وبالسبب الذي دعا إليه، فهو أخص من المعرَّف ومن المطلوب؛ إذ الفرض أن الأصولي لاحظ وجود مجموعة قوانين في الأصول ((من طرق وأمارات وأصول)) فأراد أن يكتشف موضوعها والجامع لها ((المعبر عنه بالحجة، أو الأدلة الأربعة بذواتها، أو بوصف الدليلية، فكلٌ حاول العثور على التعريف الجامع المانع، أو الكلي الطبيعي المنطبق على موضوعات مسائله ـ حسب بيان صاحب الكفاية ـ فوقع الكلام في أنه هل هذا التعريف جامع مانع وتعريف بالمساوي لما يبحث عنه في الأصول؟ أو بالأخص؟ أو بما هو معه من وجه؟، وعلى فرض المساواة، فهل هو تعريف بالذاتي الأولى أم بالشائع الصناعي؟ وهل هو بالمرادف، أو بالجنس والفصل، أو الخاصة، لما عليه المدار في إقامة الدليل المشترك على إثبات أحكام أفعال المكلفين ووظائفهم في الأصول كمباحث الدليل اللفظي مثل خبر الواحد، والظواهر وغيرهما، وكمباحث الاستلزامات من مباحث الدليل العقلي، وكمباحث الأصول العملية - من عقلية ونقلية- كقبح العقاب بلا بيان وأصالة الاشتغال.
وحينئذٍ نقول: هل لاحظ الأصولي عند وضعه المعنى المصطلح المعنى الأولي الموضوع له اللفظ في اللغة أم لا؟ وعلى فرض ملاحظته فأي معنى لاحظ؟ فإن كان قد لاحظ المعنى الأولي:
أولاً: أنه إن ارتأى أنه الكاشفية، فيرد عليه أنه لا يشمل[6] الأصول العملية النقلية كرفع ما لا يعلمون، ولا العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ؛ فإنها لا تكشف عن الحكم الواقعي، بل هي وسيلة للإبراء القطعي للذمة لا غير.
وثانياً: أنه لو أَخَذَ الحجة  بمعنى ((لزوم الحركة  على طبق مؤداه )) لما شمل ما لو أدى الدليل إلى النفي، ولا الأصول النافية، إلا لو أريد بلزوم الحركة على طبق المؤدى: مجاراة مقتضى ((الحجة)) ليشمل مثل ما لو دل الخبر على عدم وجوب شيء، فعندئذ يكون أعم من الأدلة والأصول العملية النافية وهو المطلوب، لكنه خلاف ظاهر اللفظ، وخلاف تعبيره بـ((التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها)).
ثالثاً: وأما أنه لو أخذها بالمعنى اللغوي  لعمت.
رابعاً: وكذا الحال بمعنى المنجزية والمعذرية ؛ فإن العبد معذور لو عمل على طبق الأصول العملية كالبراءة والتخيير.
نعم، على الفرضين الأولين، للأصولي أن يجيب بأنه لاحظهما منشأ لوضع المصطلح وداعياً ولم يلحظهما ملاكاً يدور المصطلح مدارهما، فلا يضر عدم مساواة المعنى اللغوي للمعنى المصطلح، والمهم انطباق المعنى المصطلح على تمام ما اصطلح له ووفائه بالغرض المجعول له ،فتأمل.
وكأن الأصولي  في تعريفه للحجة  ـ حسب تعريف المحقق النائيني قدس سره  ـ أخذ الحجة في مبناه أو في ارتكازه بمعنى الكاشفية  فقصرها في تعريف الأصول على الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات ، فلزم من ذلك خروج الأصول العملية، ولو كان الأصولي  أخذها بمعنى ما يحتج به  أو المنجزية والمعذرية  لعمم، فتعريفه وإن كان اصطلاحاً إلا أن الظاهر أنه مبني على تحقيق معنى الحجية  في مرحلة سابقة.
اللهم إلا أن يقال: إن الحجة بمعنى ((الكاشف وهو أعم من الكاشف عن الحكم أو الكاشف عن الوظيفة، لكنه خلاف الظاهر.
وبعبارة أخرى: بأنه هناك واقع وراء الاصطلاح وليس المحور هو الاصطلاح ولا شيء غيره ليقال بأنه ليس تفسيراً بالمصداق.
 وأما إذا قيل: بأن الأصولي لم يلاحظ عند وضعه المصطلح - في تعريفه هذا-  المعنى الأولي، أو أنه لاحظه لكن كداع وكمنشأ لا باعتباره المحور والمقياس والمدار والملاك؟
 فيرد عليه :أن ذلك أيضاً لا يكفل دفع إشكال الأخصية ؛ فإن تفسير الحجة (بالأدلة الشرعية من الطرق والأمارات ) يرد عليه أنه أخص من الحجج  في الأصول لأمور:
أولاً: بأن الحجة الأصولية أعم من الأدلة الشرعية والعقلية[7]؛ وإن كان يمكن الذب عن هذا الإشكال إذا كان مراد الأصولي  من ( الشرعية ) الأعم من المجعولة شرعاً والممضاة أو بلحاظ أن العقل شرع من باطن، ولكنه خلاف ظاهر تصريحه لاحقاً: بحسب الجعل الشرعي.
وثانياً[8]: لأن الحجج الأصولية هي أعم من ((الأصول العملية))، والأصول العملية ليست طرقاً ولا أمارات للأحكام، إذ لا حكم فيها، ولا ((إثبات فيهما للمتعلقات)) بل صرف وظيفة، فلا يصح القول: التي تقع وسطاً لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي[9] [10].

الفائدة الرابعة: أن الفرق بين ((الطريق)) و((الحجة)) من حيث صحة إطلاقهما على الحكم: أن الطريق يطلق على الدليل ولا يطلق على الحكم لأنه هو ذو الطريق ؛ إذ الطريق يراد به الطريق إلى الأحكام  والموضوعات كخبر الواحد والبينة؛ بينما الحجة تطلق على الحكم بعدة معاني.
إن الحجة  تطلق على الحكم إن أخذت بمعنى المنجز والمعذر، أو أخذت بمعنى ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس، أو كانت بمعنى ما يلزم الحركة على طبقه، وكذا لو أخذت بمعنى الأوسط، ولا تطلق عليه إذا أخذت  بالمصطلح الأصولي الذين ارتضاه الميرزا النائيني قدس سره؛ فإنها نفس الطرق إليه، وكذا لو أخذت  بمعنى ((الكاشف ؛ فإنها تطلق على الدليل والدال عندئذ لا على الحكم فإنه المنكشف وإن أمكن تصويره كما سبق[11]، لكنه ليس شأن الأصولي بما هو أصولي ولا الفقيه بما هو فقيه[12].
وأما الطريق فلا يطلق على الحكم ؛ فإنه هو ذو الطريق ، بل يطلق على الدليل على الحكم أو الموضوع.
اللهم إلا بتغيير المتعلَّق؛ فإن الحكم طريق إلى معرفة وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة أو غيرهما في المتعلَّق، أو طريق إلى معرفة أن في متعلقه رضا الله أو سخطه، أو طريق إلى معرفة أن متعلَّقه هو طريق الجنة.
ولكن لا يخفى أنه غير معهود عرفاً، وغير المعنى المقصود في علم الأصول؛ فإن الطريق ـ في علم الأصول ـ يراد به الطريق إلى الأحكام  كخبر الواحد، أو إلى الموضوعات كالبينة، لا الحكم بلحاظ كونه طريقاً إلى معرفة ما يحرز رضا الله وما أشبه؛ فإنه مما يرتبط بعلم الكلام[13] و علم الأخلاق[14]؛ إذ يبحث فيها عن طرق إحراز رضا الله، ومنها إخبار المعصوم بذلك.
كما أنه ليس[15] الحكم بلحاظ كونه طريقاً لإحراز المصالح والمفاسد في المتعلقات؛ فإنه بحث مرتبط بعلوم أخرى، كعلم الطب وعلم الاجتماع مثلاً؛ إذ يبحث في الأول عن طرق كشف الصالح والضار للبدن وما يصحه ويسقمه، وفي الثاني عما يصلح المجتمع أو يضره، وأن من الطرق مثلاً ملاحظة الحكم الشرعي الوارد فيه؛ فإن تحريم الشارع للخنزير والخمر –مثلاً- يكشف عن أنه مما يسقم البدن، ويهدم العائلة ويفسد المجتمع، وهكذا وهلم جراً [16].

الفائدة الخامسة: أن منشأ الحجية  الأول هو الله تعالى ؛ فكل حجية تكون مكتسبة من حجيته ؛لأنه هو الحق المطلق  والمولى الحقيقي و الكاشف عن الواقع بما هو واقع؛ وعلى هذا له اعتبار هذا الشيء  حجة  وله  عدم اعتباره حجة.
إن المنشأ الأول للحجية هو البارئ جل اسمه، وأن قوله وكافة إنشاءاته واخباراته حجة لذاتها، ولها الموضوعية والقيمة الذاتية؛ لأنه جل اسمه الحق المطلق، والمنعم الحقيقي، والمولى، ومن بيده حق الثواب والعقاب ؛فلازم الحركة على طبق أوامره ونواهيه عقلاً ونقلاً ؛ لأن بذلك دفع الضرر البالغ ولو المحتمل؛ كما قوله تعالى هو الكاشف عن الواقع، دون خوف لبس أو خطأ أو خطل[17]، فمنشأ  الحجية الأول وملاكها ومقياس حقانية الشيء وموضوعيته يعود ـ أولاً بالذات ـ إلى الله العالم المحيط، والملك القادر الحكيم.
ويدل عليه قوله تعالى ﴿قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾[18] وقوله تعالى : ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾[19]، فإن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر،  والحجة البالغة بالذات له تعالى، لا لغيره، فإنهم بالتبع والعرض ،فتأمل.
وبعبارة أخرى: إن قيمة الحجج  العقلية والفطرية وغيرها، تعود إليه جل اسمه، فهو المنشأ  بالذات ، أما  وغيره فهو بالعرض ؛ إذ أن  العقل يدرك  ويصيب بقدرة الله تعالى، ويحكم  بإذنه، وكذلك الحال في  الفطرة و العقلاء ، فيكون حكمهم منجز ومعذر -  أو لازم الحركة على طبقه-  بأمره وإذنه .
وله تعالى أن يعتبر حكم العقل والعقلاء غير حجة، فلا يحتج به، وغير منجز أو معذر فلا يستحق بمخالفته العقاب، ولا بموافقته العذر، وله أن يجعله ـ تكويناً ـ غير مصيب، فلا كاشفية له بالمرة وهكذا.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى يرجع إليه مقياس الحقانية المطلق، ولاختباراته وإنشاءاته القيمة الذاتية والموضوعية ، ولغيره الطريقية  والقيمة الإكتسابية أو العرضية ، وكل من بيده الاعتبار من الموالي العرفية والمشرِّعين ، فإنه عرضي يرجع إليه تعالى لأنه المالك الحقيقي، فلو اعتبر المولى العرفي حكماً وجعله - أو شيئاً حجة-  فسيكون كذلك بإمضائه جل وعلا، وإلا لما كان له كما هو واضح.
وبعبارة ثالثة:  أن: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾[20] أولاً وبالذات بأجلى صورها؛ لأنه العالم القادر الغني الحكيم، فلا يتسرب إليه احتمال عدم الكاشفية والخطأ أو تعمده  أبداً ، وأما غيره  فإنه حتى لو كان ممن لا يتسرب إليه قطعاً أيضاً ـ كالرسول صلى الله عليه وآله  و الوصي عليه السلام  ـ لكنه بالعرض؛ أي بالعلم الذي أتاهم الله تعالى، وبقدرةٍ وحكمةٍ وَجُوْدٍ منه تعالى، أفاضَهُ عليهم .
نعم ، قد يقال: إن العلم ـ دون سائر الحجج ـ حجيته ذاتية بذاتي باب البرهان، فليست مجعولة له بالجعل المركب، نعم هي مجعولة بالجعل البسيط بجعل منشأ الإنتزاع، أما غيره فمجعول له بالجعل المركب أيضاً، فتأمل[21].

بحث تطبيقي:
استدل الشيخ الأعظم قدس سره ببطلان كتب بيع الضلال بما[22] مضمونه : إن كتب الضلال لا مالية لها وإن فرض كونها مملوكة؛ إذ النسبة بين الملكية والمالية هي من وجه، فحبة الحنطة وإن كانت مملوكة ولكن لا مالية لها، ولذا لا يمكن بيعها.
والحاصل: أنه لا تلازم بين الملكية وبين المالية، بل النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، فقد يكون الشيء مملوكاً، ولا تكون له مالية لقلته، كحبة الحنطة، أو لخسته كما لو وجد زرع خسيس في مزرعة شخص، فإنه مملوك له، ولكنه ـ على المشهور ـ لا يستطيع بيعه؛ إذ لا مالية له، وقد يكون ذا مالية لكنه لا يكون مملوكاً، كالمباحات من معادن وأراضٍ وغيرها، بل وكالوقف العام، بل والوقف الذري على قولٍ[23].
أقول : ولكن يمكن السؤال عن كتب الضلال هل أنها لا مالية لها عرفاً أم شرعاً؟
والجواب: أن لها المالية عرفاً، ولكنها ليست كذلك شرعاً؛ إذ الشرع قد نزل الموضوع ـ أي كتب الضلال الذاتي ـ منزلة ما لا مالية له.
وتأييداً لدليل الشيخ قدس سره قال السيد الوالد قدس سره : وربما يقال: إن كتب الضلال لمن يَضِل أو يُضِل لا مالية لها، ولا بدع، فكما أن الزمان والمكان لهما مدخلية في المالية، كالماء عند النهر وفي الفلاة، والثلج في الصيف والشتاء[24]، كذلك تكون كتب الضلال بالنسبة إلى المشتري[25].
وظاهر كلامه قدس سره أن ظروف الزمان والمكان تؤثر في مالية الشيء، وعليه فكتب الضلال وماليتها مرهونة بحال المشتري والبائع وظرفهما الذي هما أو أحدهما فيه.

مناقشة تأييد السيد الوالد لدليل الأنصاري:
وقد يناقش بأن قياسه أو تنظيره ليس بتام؛ وذلك لأن الماء عند النهر لا مالية له عرفاً، وكذلك الثلج في الشتاء، وأما كتب الضلال فلها المالية عرفاً.
نعم، لا مالية لها شرعاً؛ ولذا فلا يصح قياس أو تنظير ما لا مالية له شرعاً على ما لا مالية له عرفاً، إلا أن يجاب إن القصد هو الجامع -فإنه الملاحظ - لا خصوصية عدم المالية عرفاً أو شرعاً، فلعله يريد أن يقول: إن ما لا مالية شرعاً حاله كحال ما لا مالية له عرفاً، فالمعاملة عليه باطلة؛ وذلك لأن الولاية في الاعتبار هي للشارع، فإنه مَنْ بيده الاعتبار، فلو أن العرف رأى لشيء ماليةً فإن للشارع أن يلغي هذه المالية وهذا الاعتبار، كما هو الحال في الدولة فإن النقد المتداول في البلد له المالية، ولكن الدولة تستطيع أن تلغي مالية النقد، فالأمر في المالية بيد الدولة وإن خالفها الناس، والأولى من ذلك أن يكون اعتبار المالية بيد الشارع[26].

بحث تطبيقي آخر:
إن قصد (الجزم) تارة يوجده بنفسه وتارة أخرى  ينزل شيء بمنزلة الجزم، فإن للشارع في المعاملات الاحتياطية [27] أن ينزل احتماله بوقوع العلقة الزوجية منزلة جزمه بوقوعها رغم عدم تحققه [28]؛ فهل هذا الوجه تام أم لا؟
والجواب: في مرحلة الثبوت وعالم الإمكان  يمكن أن ينزل الفاقد منزلة الواجد؛ بمعنى أن يرتب من بيده الاعتبار الآثار على الفاقد لها ؛ كما رتب ذلك على زواج النبي صلى الله عليه وآله  من تلك المرأة : ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ [29]  حيث إنه صلى الله عليه وآله  كان فاقداً لزوجيتها ؛ لكن الله سبحانه لحكمةٍ  نزّل هبتها نفسها له منزلة النكاح [30].
إذن من بيده الاعتبار يستطيع أن ينزل الفاقد منزلة الواجد ، بمعنى أن يرتب الآثار التي وضعها ورفعها بيده على الفاقد [31].

------------------

* هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] فوائد الأصول: ج3، ص7.
[2] إذا عرف بالأوسط، والمقصود بالمساوي هنا (المرادف).
[3] إذا عرف بـ (الأدلة الشرعية ...الخ).
[4] وهي التي كانت ضرورتها مشروطة ببقاء عنوان الموضوع ثابتاً لذاته، كما في الماشي متحرك بالضرورة مادام على هذه الصفة.
[5] إشارة إلى  ما رواه في الكافي : ج1ص57: عن أبان بن تغلب  عن أبي عبد الله g قال : إن السنة لا تقاس ألا ترى أن امرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها يا أبان ! إن السنة إذا قيست محق الدين .
[6] وهذا وجه آخر لعدم الشمول والأخصية، إضافة للوجه اللاحق المبني على أنه لم يلاحظ المعنى اللغوي.
[7] كالملازمات، وككون الشك في العنوان والمحصِّل، والغرض مجرى للاحتياط وما أشبه.
[8] وهناك إشكال بعدم إطلاق الحجة على الأصول العملية ، وجوابه.
[9] الحجة معانيها ومصاديقها: ص 86.
[10] إلا لو عممنا الحكم للظاهري، وقلنا بالحكم الظاهري في موارد الأصول.
[11] كالكاشف عن المصلحة أو المفسدة في المتعلق، أو الكاشف عن رضا الله وسخطه.
[12] فإنهما شأن (علم الكلام)، والثاني شأن (علم الأخلاق) أيضاً.
[13] إذا كان ما يحرز رضا الله من الأصول.
[14] إذا كان محرز رضاه من الأخلاقيات.
[15] أي ليس المقصود في علم الأصول والمبحوث عنه، هو الحكم بلحاظ.
[16] الحجة معانيها ومصاديقها: ص: 185.
[17] الخطل بالتحريك : المنطق الفاسد المضطرب .
[18] سورة الأنعام: 19.
[19] سورة الأنعام: 149.
[20] سورة الأنعام: 149.
[21] الحجة معانيها ومصاديقها:ص93.
[22] انظر: كتاب المكاسب: ج1ص 156.
[23] انظر: كتاب المكاسب ج1ص 156.
[24] حيث لا قيمة له هنا.
[25] الفقه : ج 1ص178.
[26] حفظ كتب الضلال: ص457.
[27] كما في قول العاقد الوسواسي أو مطلق العاقد المحتاط: (انكحت)،  ثم يقول: زوجت من موكلك أو بموكلك  وهو متردد  أي من الصيغتين  أيهما ذات الأثر والمحققة لعلقة الزوجية.
[28]  بحث الوجود التنزيلي كثير الفائدة في الأصول وهو متعدد الأغراض، وهو في الأساس بحث  فلسفي لكنه في الأصول يحل العديد من الإشكالات في الكثير من المواطن ،  ومنها مبحث الحكم الظاهري والباطني، ومنها هذا المقام وغيرها.
[29] سورة الأحزاب : 50 .
[30] ولا يخفى أن هذه  الهبة  من مختصات النبي صلى الله عليه وآله  التي خصه الله تعالى  بها .
[31] الاجتهاد والتقليد: ص 327.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3006
  • تاريخ إضافة الموضوع : 13 جمادى الأولى 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28