بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(49)
2- الاضطرار تكويناً
الثاني: الاضطرار تكويناً: والمراد به اما القسر ولعل منه قوله تعالى: (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)([1])، أو أشدّ صُوَر الضرورة، وذلك كما لو اضطرت المرأة لا سمح الله إلى الزنا خوف الموت عطشاً في الصحراء، كما في قضية المرأة التي زنا بها الاعرابي ورفعوا أمرها إلى الخليفة، دون ما إذا دار أمرها بين ان يجرح يدها جرحاً بسيطاً وبين الزنا فانه لا يصدق على ذلك عنوان الاضطرار حينئذٍ ولا هي مضطرة عرفاً إذ ليس الجرح أشد درجات الضرورة.
نعم ذلك في غير حال الدفاع فانه يبيح التضحية بالأهم لأجل المهم فانه يجوز له – مثلاً – الدفاع عن ماله وإن أدى إلى قتله مع ان الإنسان أشرف من المال بل لا قياس بينهما ولعل منه قول الإمام الحسين عليه السلام لأبي الفضل العباس ((اركب بنفسي أنت))([2])، اما لو لم ينطبق عنوان الدفاع فلا يجوز التضحية بالأهم للمهم في نفس المثال: فلو دار أمره بين ان يعرض نفسه للقتل أو ان يحفظ ماله لما جاز الأخير: كما لو خيّره بين أن يقتله أو أن يأخذ داره فانه لا يجوز له اختيار القتل.
3- الاضطرار عقلاً
الثالث: الاضطرار عقلاً: أي ما كان بحكم العقل سواء فيما حكم به العقل (كحرمة الظلم ووجوب العدل أو رد الوديعة) فاضطر إلى ارتكاب المحرم العقلي أم فيها حكم به الشرع لكنّ رفْعَ حكمِهِ بالاضطرار لم يَرِد في ظاهر النقل والشرع فرضاً بل حكم به العقل، فانه اضطرار عقلي إذ العقل هو الحاكم بكونه مجوزاً لارتكاب الحرام حينه.
وملاكه كملاك الاضطرار شرعاً، وهو الأهم والمهم فانه مضطر إذا لم يؤد إلى تفويت أهم شرعي أو عقلي أي إذا كان المضطر إليه أقل مفسدة، واما إذا كان([3]) أكثر مفسدة فلا يسمى بالمضطر العقلي، وإن تساوت المفسدتان فهو مضطر إلى الجامع لا إلى أحدهما بعينه.
أحكام العقل كالشرع تبنى تارة على التسهيل وأخرى على التصعيب
وكما ان أحكام الشرع مختلفة من حيث البناء على التسهيل أو التصعيب فكذلك أحكام العقل فانه على حسب درجة أهميتها وعلى حسب درجة الاضطرار يختلف حكم العقل بتجويز المتعلق وعدمه، فمثلاً (أداء الدين) واجب عقلاً فان اضطر إلى تركه جاز لكن صدق (الاضطرار) موقوف على نوع الدَّين ودرجة إلزام العقل بأدائه ونوع الاضطرار ودرجته، فلو كان الدَّين قليلاً (كخمس دراهم مثلاً) وكان صاحبه غير محتاج إليه وكان في إيصاله إليه مشقة شديدة جداً (كأن يركب البحر ويسافر إلى القطب الشمالي لستة أشهر كي يصل إليه مثلاً) فانه لا يجب عليه حينئذٍ أداء الدين عقلاً، ومآل ذلك إلى ان مفسدة الحكم بوجوبه أعظم، واما لو كان مقدار الدين كبيراً وصاحبه محتاجاً (ثم الحاجات أيضاً على درجات) وكان لا بد لإيصاله إليه من السفر أسبوعاً مثلاً وَجَبَ، وفرض المسألة ما لو اشترط عليه حين الاقراض تسليمه بعد شهر في بلده الذي يسكن فيه وهو المكان البعيد أو القريب أو المتوسط فحدثت مشقة طارئة غير متوقعة مما لا يقتضيها طبيعة أداء الدَّين وينصرف عنها الشرط([4]).
والحاصل: ان الملاك حتى في الأحكام العقلية هو التعذر العرفي لا العقلي التكويني الدقّي.
بعبارة أخرى: بناء أحكام العقل والعقلاء على التسهيل تارة وصدق الاضطرار بالأمر اليسير من المشقة، وعلى التصعيب تارة أخرى وعدم صدق الاضطرار حتى بالشديد منها.
فمن الأول: ما لو احتاج إلى أكل طعام الغير فانه في الجوع الشديد المضر صادق.
ومن الثاني: ما لو احتاج فرضاً إلى زوجة الغير فانه لا يجوز حتى لو كان يتمرض بشدة من ترك مقاربتها.
خلاصة المبحث وصفوة القول
ومحصّل الكلام: أولاً: انه لا فرق بين المشروط بالقدرة الشرعية والمشروط بالقدرة العقلية، وهما في عرض واحد خلافاً للميرزا النائيني حيث ارتأى زوال القدرة الشرعية على القسيم الأول مع وجود القدرة العقلية على القسيم الثاني.
ثانياً: لا فرق بين الاضطرار شرعاً وعقلاً فهما بنحو واحد.
ثالثاً: لا فرق بين كون المضطر إليه محرماً شرعاً أو عقلاً.
وصفوة القول: أ- ان الاستطاعة العادية أو العرفية هي الملاك، لا التكوينية.
ب- وان الاضطرار العادي أو العرفي هو الملاك لا الأكثر أو الأقل.
ج- وانه إذ وردت الاستطاعة او الاضطرار في لسان الدليل فإنما هي مشير للعرفي منها، والعرفي مشير للواقعي منهما([5]).
د- وإذا لم ترد ولم تؤخذ قيداً في ظاهر الدليل فهي قيد ارتكازي.
وعليه: فلا فرق إطلاقاً بين ما صُرِّح فيه بلفظ الاستطاعة أو الاضطرار وما لم يصرح، اللهم إلا في جهات أخرى غير جهة البحث([6]).
الثمرة: المرجع خصوص أدلة المسألة، لا كونه حق الله أو الناس
والثمرة من ذلك كله: ان حق الله وإن أخذ فيه في ظاهر دليله لفظ الاستطاعة ليس مرجوحاً (أو موروداً عليه أو مخصَّصاً) بالنسبة لحق الناس الذي لم يؤخذ فيه الاستطاعة كشرط أو قيد للوجوب، بل هما سيان من هذا الحيث، فكلما وجدنا تزاحماً بين حق الله وحق الناس وجب مراجعة أدلتهما في كل مورد مورد لتشخيص الأهم منهما ولا يوجد ضابط أصولي عام بان حق الناس مطلقاً مقدّم أو العكس: أي حق الله مطلقاً مقدّم، ليغنينا عن دراسة حال كل مسألة مسألة (إلا بقدر البحث عن المانع والاستثناء).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((أَفَاضِلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقاً الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَ يُؤْلَفُونَ وَ تُوَطَّأُ رِحَالُهُمْ)) الكافي: ج2 ص102.
-------------------------------------------------------------------------
([1]) سورة البقرة: آية 126.
([2]) الشيخ المفيد، الإرشاد، المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ج2 ص89.
([3]) المتعلق أي ما يريد فعله.
([4]) فتأمل.
([5]) لكن كما يراه العرف لا كما تقتضيه الدقة. فتأمل
([6]) كالتمسك بالإطلاق إذا ورد في دليل لفظي وإلا فلا لأن الدليل لبّي وهكذا
|