بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(256)
إشكالات على التمسك بقاعدة الإلزام لتحليل بيع آلات اللهو لهم
وبعبارة أخرى: يرد على التمسك بقاعدة الإلزام والإمضاء كمستند لتحليل بيع المزامير وشبهها لمن يستحلها من الكفار، أمور:
1- مشركوا مكة لم يكونوا ذوي دين
الأول: ان مشركي مكة لم يكونوا من ذوي الأديان إذ كانوا مشركين، والمشرك في الشرع وحسب مرتكز المتشرعة ليس ذا دين بل الأديان هي المعروفة من مسيحية ويهودية وشبهها، بل الظاهر انه لا يطلق على المشركين انهم ذووا دين حتى عرفاً، وبعبارة أخرى: الأديان هي ما ادعي انتسابها للأنبياء وتلقّيها منهم، هذا إن لم يُدَّع ان الأحكام التسهيلية([1]) إنما هي خاصة بأهل الكتاب منهم لا مطلق الدين المنسوب للنبي([2]) فتأمل، وتنقيحه موكل إلى محله.
والرواية ((يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ))([3]) انهما حللت لذوي الأديان ما يستحلون لا لغيرهم، ولو شك في ذلك فلا أقل من إجمال (الدين) من حيث عمومه للمشركين وعدمه فلا يمكن التمسك بالرواية حينئذٍ.
2- سلّمنا لكن تحليلهم لآلات اللهو لم يستند لدينهم
الثاني: سلّمنا انهم كانوا ذا دين وان الرواية تشملهم وليست منصرفة عنهم إلى غير المشركين، لكن نقول انه يرد ما سبق من: (ورواية المزامير والأوثان إنما هي عن أمور وأحكام لم تكن مقتضى أديانهم بل كانت من عادات الجاهلية كما هو صريح قوله عليه السلام في أخرها ((وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة)) بناء على انه من عطف العام على الخاص وان مفاده (وسائر أمور الجاهلية) بل مع قطع النظر عن ذلك فان الظاهر ان عملهم في آلات اللهو لم يكن حتى بادّعائهم من أحكام دينهم بل كان من مقتضيات عاداتهم وتقاليدهم وشهواتهم، وقاعدة الإلزام والإمضاء إنما تُمضيان ما اعتقدوا كونه من دينهم وإن كان اعتقاداً باطلاً)([4]).
3- سلّمنا لكن مفاد الإلزام: يجوز لهم لا لنا
الثالث: سلّمنا، لكن الرواية مفادها انه يجوز لهم ما يستحلون، وليس مفادها انه يجوز لنا ما يستحلون؛ أفترى انهم لو كانوا يستحلون الزنا فهل يصح ان يزني بها المسلم؟ بل المعنى انه إذا كان الزنا فرضاً حلالاً لديهم بمقتضى دينهم فانه يُمضى لهم ولا يمنعون منه ولا تُجرى عليهم الحدود لا انه مادام قد جاز لهم الزنا – حسب دينهم - حل لنا الزنا بهم.
إن قلت: فكيف جاز لنا الزواج من المطلقة بطلاق باطل عندنا لمجرد انه صحيح عندهم؟
التفريق بين ما لو أفاد الإلزام الحكم التكليفي أو الوضعي
قلت: فرقٌ بين ما كان مقتضى قاعدة الإمضاء أو الإلزام هو إحداث حكمٍ وضعيٍ لهم وبين ما لو أفاد الحكم التكليفي لهم فقط، فلو أفادت القاعدة حدوث حكم وضعي لهم جاز لنا ترتيب آثاره فانه لو طلقها مثلاً من غير إشهاد أو طلقها في طهر المواقعة، فان مفاد قاعدة الإلزام انها تكون خليّة حينئذٍ فإذا كانت خليّة جاز لنا الزواج منها، وفي مورد البحث: مفاد ((يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ)) انه لو باع أحدهم مزماره لآخر منهم مثلاً جاز تكليفاً وحلّ وضعاً أي انتقلت ملكية هذا لذاك، وعليه: فلو وهبني من انتقل إليه عينُ المال الشخصي الذي باع مزماره به صح لي تملّكه إذ حيث حَكَم الشارع وضعاً بملكه له، كعنوان واقعي ثانوي، جاز لي التعامل معه كالتعامل مع أي ملك آخر، اما في مثل الزنا فانهم وإن استحلوه لكنهم لا يرون انه ذو حكم وضعي أي لا يرون انها زوجة مثلاً للزاني بها فتجويزهم للزنا تكليفي فقط فلا يجوز للمسلم الزنا بها، نعم لو فرض ان دينهم اقتضى ان نفس تسليم نفسها للزنا بها هو تمليك لبضعها أو تزويج منها لنا جاز لولا الدليل الخاص، فتأمل.
وفي المقام: يجوز لهم بمقتضى قاعدة الإمضاء بيع المزمار بعضهم لبعض، وهو في هذه المرحلة حكم تكليفي فقط، والوضعي إنما هو في المرحلة اللاحقة أي إذا باعه فقد ملكه المشتري، لا انه يجوز لنا بيع المزمار لهم لأنهم يجوز عليهم ما يستحلون فان ذلك غير لازم عقلاً ولا عرفاً، بل لولا تصريح روايات الإلزام في مواردها (النكاح والطلاق والإرث) بترتيب الأحكام لنا، لما جاز لنا الزواج منها (المطلقة بغير إشهاد مثلاً) بل كان مفاد و((أَلْزِمُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَلْزَمُوهُ أَنْفُسَهُم))([5]) مجرد ان طلاقها يقع في مذهبها فلها في مذهبها ان تتزوج بآخر ممن يستحل ذلك لا ان لنا الزواج منها، لولا نصّ تتمة الرواية ((وَتَزَوَّجُوهُنَّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِك))([6]). فتأمل جداً. وتفصيل الأخذ والرد في مبحث القاعدة.
4- رواية تحف العقول أظهر من روايات الإلزام
الرابع: ان بعض الروايات الأخرى، غير رواية ((وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة))([7]) كرواية تحف العقول تعضدها، وقد يقال بحكومتها على قاعدة الإلزام أو اظهريتها منها لقوة لسانها الآبي عن التخصيص([8]) فقد جاء فيها ((إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الصِّنَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ كُلُّهَا الَّتِي يَجِيءُ مِنْهَا الْفَسَادُ مَحْضاً نَظِيرَ الْبَرَابِطِ وَالْمَزَامِيرِ وَالشِّطْرَنْجِ وَكُلِّ مَلْهُوٍّ بِهِ وَالصُّلْبَانِ وَالْأَصْنَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَاتِ الْأَشْرِبَةِ الْحَرَامِ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ وَفِيهِ الْفَسَادُ مَحْضاً وَلَا يَكُونُ مِنْهُ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الصَّلَاحِ فَحَرَامٌ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَأَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَجَمِيعُ التَّقَلُّبِ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْحَرَكَاتِ كُلِّهَا))([9])
فلاحظ قوله عليه السلام: ((إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الصِّنَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ كُلُّهَا)) واصرح منه قوله عليه السلام: ((الَّتِي يَجِيءُ مِنْهَا الْفَسَادُ مَحْضاً)) و(( وَمَا يَكُونُ مِنْهُ وَفِيهِ الْفَسَادُ مَحْضاً وَلَا يَكُونُ مِنْهُ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الصَّلَاحِ)) واصرح منه قوله عليه السلام: ((وَجَمِيعُ التَّقَلُّبِ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْحَرَكَاتِ)).
وعليه: فان قاعدة الإلزام والإمضاء عامة إلا لمثل بيع آلات اللهو لاظهرية أدلتها منها أو لحكومتها عليها. فتأمل([10])
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ لَا يَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً)) الكافي: ج1 ص43.
--------------------------------------------------------------------------
([1]) كالزواج.
([2]) فلا يجوز الزواج من المجوسية مثلاً.
([3]) الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج4 ص148.
([4]) راجع الدرس (255).
([5]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج8 ص58.
([6]) المصدر نفسه.
([7]) المحدث النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت – قم، ج13 ص219.
([8]) اللهم إلا في نفس الموارد التي وردت فيها قاعدة الإلزام فانها نص فيها فلاحظ.
([9]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ص335.
([10]) إذ قد يقال بانصراف رواية تحف العقول عن الكفار. فتأمل
|