بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(42)
من مرجحات باب التزاحم: حق الله أو حق الناس
ومن مرجحات باب التزاحم كون أحد المتزاحمين حق الله والآخر حق الناس، فان بعض الأعلام ذهب إلى ترجيح حق الله على حق الناس، بينما عكس البعض الآخر، واستدل كل من الفريقين بأدلة، وقد يُفصّل بين أنواع ومراتب الحقين، بوجوه، وقد يقال بالتخيير أو بغير ذلك([1])، وقبل الولوج في بحث الأدلة لا بد من تمهيد أمور:
أنواع الحقوق:
حقَّ الله تعالى أو حقَّ الناس، أو المركب
الأمر الأول: ان الحقوق يمكن تقسيمها بتقسيم بدوي إلى أربعة أقسام:
الأول: ما كان (حقَّ الله) محضاً أو شبه محض أو كان مصبّه الأساسي ذلك.
الثاني: ما كان (حقَّ الناس) محضاً أو شبه محض أو كان مصبه الأساسي ذلك.
الثالث: ما ترّكب من حق الله وحق الناس مع كون حق الله هو الغالب عليه.
الرابع: عكس الثالث بان كان حق الناس هو الغالب.
ولنمثل لها بأمثلة بين ما هو متفق عليه وما هو مختلف فيه أو هو محل أخذ وردّ:
فالأول: كالإيمان بالله تعالى وتوحيده والعبادات كالصلاة والصوم والحج.
والثاني: كالديون والإرث والقضايا المالية بشكل مطلق، بل وكذا المعاملات باعتبار انها من حقوق الإنسان، فان المراعى فيها ومنشأ تحريمها أو تحليلها رعاية حق الناس بل وحتى لو اشترط الشارع فيها شرطاً فانّ منشأه هو رعاية حقهم، كاشتراط التنجز أو ان لا يكونا مؤجلين في الكلّيين وهكذا، سواءً أخفي وجه كونه مصلحة ورعاية لحقنا، علينا أم لا.
والثالث: كالحدود والتعزيرات، كحد شرب الخمر أو الزنا واللواط أو غير ذلك، وحق العدة حتى مع الأمن من الحمل.
والرابع: كالقصاص والديات.
والضابط في الفرق بين الثالث والرابع: ان ما كان إسقاطه بيد المكلف، كالقصاص والدية، فهو حق الناس وإن كان فيه حق الله تعالى، وما لم يكن إسقاطه بيده، كالحدود والتعزيرات والعدة، فهو حق الله تعالى وإن كان فيه حق الناس.
وقد فصّلنا الكلام عن هذا الضابط والنقاش حوله في أول بحث الحقوق من كتاب البيع فراجع.
وقد يقال في الضابط: ان ما عاد إلى المجتمع وإلى رعاية مصالحه ومفاسده فهو حق الله تعالى بدعوى انه جل اسمه جَعَلَ المكلف بها ولي الأمر، وما عاد للفرد نفسه هو حق الناس لأنه تعالى أوكله إلى الشخص نفسه، ولعله يأتي النقاش حول هذا الضابط وسابقه.
ولا يخفى النقاش في بعض الأمثلة إلا ان المقصود ههنا إلقاء نظرة عامة على الأقسام وليس تحقيق حالها فقهياً.
التقسيم إلى حقَّ الشخص والناس والله تعالى
الأمر الثاني: ان القسمة بين حق الله وحق الناس ليست حاصرة بل هناك تقسيم ثلاثي: حق الشخص نفسه وحق الناس وحقَّ الله([2])، وله أمثلة: منها: ما لو دار أمر النفقة بين إنفاقها على والديه أو على زوجته أو على نفسه، كما لو كان له قليل ماء أو طعام أو لباس واحد لا يكفي إلا أحدهم، فمصبّ حق الله هو الوالدان ولذا لا يصح لهما إسقاط النفقة ومصبّ حق الناس هو الزوجة ولذا يصح لها الإسقاط، وقد ارتأى الكثير من الأعلام تقدّم حق النفس أولاً ثم الزوجة ثم الوالدين، ولذا لو دار أمره بين أن يشرب هو الماء وإلا مات أو زوجته أو الوالدين وإلا ماتوا، حرم عليه تقديم غيره ووجب عليه تعييناً إنقاذ نفسه، ولكنه ناقش في ذلك السيد الوالد وارتأى التخيير مستدلاً بأدلة الإيثار ونحوها، مما يوكل البحث عنه ونقاشه إلى محله.
مسائل فقهية من نماذج تزاحم حقَّ الله مع حقَّ الناس
الأمر الثالث: في ذكر مجموعة من المسائل الفقهية التي وقع فيها البحث في تقديم حق الله أو حق الناس، ونضيف: انه قد يقال في بعضها بالتخيير أو يقال فيها بقاعدة العدل والإنصاف أو القرعة أو غير ذلك([3]).
فمنها: ما لو تزاحم أداء الدين مع إعطاء الزكاة الواجبة، فلو كان الميت مثلاً مديوناً لشخص وكانت عليه الزكاة أيضاً ولم يؤدها فمات، ولم تكن التركة تسعهما فأيهما المقدم؟
ومنها: ما لو تزاحم أداء الدين مع الحج المستقر في ذمته، ولم يمكنه بما لديه من المال إلا أحدهما، فقد ارتأى البعض تقديم الدين وارتأى البعض تقديم الحج، بينما رأى البعض التخيير.
ومنها: ما لو دار الأمر بين أكل المغصوب وبين أكل الميتة أو الدم أو الخنزير أو الخمر، فقد رجح البعض ههنا حق الله فقال بوجوب أكل المغصوب إنقاذاً لحياته وبحرمة أكل الدم والميتة، فهل الأمر كذلك؟
ومنها: ما لو دار الأمر بين التيمم والغصب، بان لم يكن له إلا تراب غصبي يتيمم به، مع فقده للماء، فإن قدمنا حق الله وجب عليه التيمم به وإن قدمنا حقَّ الناس حَرُم، فيكون فاقداً للطهورين، وقد ذهب كثير من الأعلام إلى ان فاقد الطهورين تسقط عنه الصلاة بينما ارتأى الوالد وبعض آخر بانها لا تسقط إذ ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ لَا تُتْرَكُ عَلَى كُلِّ حَالٍ))([4]) وتفصيله في محله.
ومنها: ما لو تزاحم النهي عن المنكر مع قطع الرحم، بان لم يكن بمقدوره النهي عن المنكر أو لا يكون نهيه مؤثراً إلا لو قطع رحمه ولو ظاهراً، كما لو كانت للمنهيّ عن المنكر عداوة مع رحمه بحيث لا يرتدع لو بقي وصولاً بها ويرتدع لو قطعه.
ومنها: ما لو تزاحم الصوم مع الكسب للإنفاق، وسيأتي.
ومنها: ما لو تزاحم الكذب وهو من الكبائر مع التسبيب لإتلاف مال الغير بأن دار الأمر بين ان يكذب على الجمارك والعشار وينقذ مال الغير الذي هو أمانة لديه، أو لا يكذب فيصادَر ماله، وفي بعض ما سبق([5]) رواية أو أكثر تصرح بالأرجح، إنما الكلام في مقتضى القاعدة العامة لدى فقد الدليل الخاص.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: ((مَا أَقْبَحَ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لَهُ رَغْبَةٌ تُذِلُّهُ)) تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه واله وسلم: ص 489.
------------------------------------------------------------------------------
([1]) كالرجوع إلى قاعدة العدل والإنصاف، أو القرعة، أو غير ذلك مما سيأتي.
([2]) وهذا مع قطع النظر عن سائر الحقوق كحق الحيوان مثلاً فانه قد يتزاحم مع حق الناس كما لو دار الأمر بين رفع عطشه الذي يقع في مشقة لولاه وبين سقي حيوان في عياله يموت لولاه.
([3]) كالعمل على طبق الأكثرية والشورى استناداً إلى انه من صغريات (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وسيأتي بحثه والنقاش حوله.
([4]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص287.
([5]) كالمسألة الأخيرة.
|