• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .
              • الموضوع : 268- (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) 6 الحلول المفتاحية لظاهرة الشك والتشكيك حسب المنهج العقلي للامام علي ع .

268- (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) 6 الحلول المفتاحية لظاهرة الشك والتشكيك حسب المنهج العقلي للامام علي ع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

الحلول المفتاحية لظاهرة الشك والتشكيك

حسب المنهج العقلي للإمام علي عليه السلام

(6)

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)([1])

وقال جل اسمه: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)([2]).

 

من بصائر الوحي في آيات الشك والريب

لعل مما يلفت أنظار أهل الفكر في آيات الشك، انها جاءت عادةً، مسبوقة بمفردة حرف الجر والظرفية (في) إذ يقول تعالى: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) وقال: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ)([3]) (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ)([4]) و(إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي)([5]) و(وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)([6]) و(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ)([7]) و(أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ)([8]) (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ)([9])

مع انه كان من الممكن القول (بل هم شاكّون) بدل التعبير بـ(في شك) فما هو الوجه في ذلك وما هي الحكمة؟

 

الوجه في التعبير بـ(في شك) وليس بـ(شاكّون)

والجواب: ان من المحتمل ان يكون الوجه أو إحدى وجوه الحكمة في ذلك، الإشارة إلى أن الشك من طبيعته ان يحاصر الإنسان حتى لكأنّ الشاك محاط به وبأجوائه من كل جانب فإذا نظر يميناً واجهه الشك أو شمالاً رأى الشك أو إلى أية جهة من الجهات نظر اصطدم بحائط الشك؛ وذلك ان الشك غير المنضبط وغير المنهجي الذي لم يحسن التعامل معه، مَثَلُه كَمَثَلِ الرمال المتحركة فكلما ازداد في الأمر تفكيراً ازداد حيرة وشكاً وترديداً، كما ان العالق بالرمال المتحركة كلما ازداد حركة ازداد علوقاً بالرمال وانطماساً فيها.

فهذه هي طبيعة الشك: كلما امعنت فيه النظر ازددت حيرة من جهة، وكلما علقت بمصيدة تشكيك جرّت إليك شبهة أخرى لتعلق في مصيدة أخرى، وهكذا دواليك.

فالشك، وكما سبق، كالنار إذا لم تتعامل معه بعقلائية وحكمة وبأدوات ومناهج علمية وعقلية وعقلائية معينة، كما ستأتي الإشارة إليها، فان لهيبه سيتصاعد ويتصاعد ويتسع مداه ويتسع حتى يحرق الأخضر واليابس.

فلننطلق الآن لاستكشاف الحلول المفتاحية لظاهرة التشكيك، وقد سبق:

(استعن بضياء اليقين لدحر ظلمة الشبهات

ان المفتاح الأول للإجابة على الشبهات والتغلّب عليها هو ما ذكره أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: ((فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ)) ولكن ماذا يعني ذلك؟ إذ ان الفرض هو ان الشاك جاهل لا يقين له وان الشبهة اشتبهت عليه وجهل حقها من باطلها فكيف يكون اليقين (وهو الفاقد له) ضياءً له يكشف عنه ظلامَ الشبهات؟

والجواب: ان كلامه عليه السلام يمكن ان يفسر بوجوه وكلها مما تتجلى به روعة هذه الحلول: ذلك انه يفيدنا ان علينا ان ننطلق من (اليقين) لنقصف قلاع الشك والشبهات وبُؤَرَ الفتنةِ والحيرةِ والضلالة والتشكيك، وليس العكس أي ليس من شِيَم أولياء الله وهم قمة الحكمة والعقل، القضاء على اليقين بالشبهة أو دكّ حصون العلم بصواريخ الجهل والشك، وذلك بوجوه عديدة:

 

انطلق من اليقينيات الوجدانية لدكّ معاقل الشبهات!

الوجه الأول: ان يتخذ العاقل من اليقينات الوجدانية منطلقاً لدك معاقل الشبهات)([10]) وقد سبق التمثيل لذلك بشبهة الجبر ولنذكر الآن مثالاً طريفاً آخر عن شبهة سوفسطائية مستحدثة، وهي:

 

شبهة الشرير الذي زرع في مخِّنا جهاز الوهم!

إن الذين ادعوا ان:

كل ما في الكون وهمٌ أو خيال


 

أو عكوس في مرايا أو ظلال


وان ما نراه ونلمسه ونحس به أو نفكر فيه ونعتقده كله خيال في خيال ولا توجد حقيقة ولا سماء ولا أرض ولا أنس ولا جان ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، استندوا في وجه طريف – غريب مستحدث إلى الاحتمالية الآتية وهي: انه ما الذي يضمن لنا ان لا يكون هناك شرير (شخص أو موجود من الفضاء أو من عالم آخر) قد زرع في مخِّنا جهازاً يُوهِمنا ان ما نراه أو نلمسه ونسمعه ونشمه ونذوقه هو حقيقة؟ ألا يحتمل ذلك؟ فكيف نطمئنّ إلى أن العالم حقيقة؟ فلعله مجرد وهم من صنع ذلك الجهاز.

 

والأحلام التي نتصورها حقيقةً، دليلٌ

وأكّد بعض الفلاسفة هذه الاحتمالية بما ارتأوا انه يكفي برهاناً على المدعى وهو: ان النائم ليس إلا متوهماً لكنه يعتقد في منامه بان ما يراه هي حقائق مع انها ليست إلا أوهاماً، كما لو رأى نفسه يتجول في بلد آخر أو في القمر والمريخ مع انه نائم في غرفته بالنجف مثلاً، أو رأى انه يتكلم مع والده مع انه ميت، أو رأى انه يمتلك في رصيده في المصرف مليار دولار مع انه مفلس يفترش الأرض ويلتحف السماء! أو رأى نفسه يحلق في الفضاء أو يغوص في أعماق المحيط مع انه ساكن في ركن الغرفة، فذلك كله وهم في وهم أو خيال في خيال لكنه يتصوره حقيقة مائة بالمائة، قال الفيلسوف السوفسطي: فما أدرانا لعل اعتقادنا في اليقظة بأن ما نراه حقيقة هو كاعتقاد النائم بان ما يراه حقيقة مع ان الكل وهم في وهم؟

 

كيف نتخلص من هذه الشبهة بنور اليقين؟

وهنا تتجلى لنا روعة كلمة أمير المؤمنين عليه السلام في إبداع الحل المفتاحي الأول للشبهات وهو: ((فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ...))([11]) فانّ العاقل الحصيف وإن لم يعرف فرضاً الإجابة الفنية الفلسفية على هذه الشبهة، لكنه يمتلك سلاحاً آخر مفتاحياً هاماً وهو: ما يستفاد من هذه الرواية الشريفة وكما سبق: وهو ان ينطلق من اليقين الوجداني ليقضي به على ظلام الشبهة، لا العكس: بان يفقد يقينه لمجرد عجزه عن الإجابة الفنية أو الصناعية عن الشبهة؛ وذلك بان يفتش([12]) عن يقينه الوجداني عبر القيام بعملية استبطان لذاته فيرى، كما نرى جميعاً، انه لا شك ان النار محرقة وانه إذا وضع يده فيها احترق، فهل هذا وهم وخيال؟ فإذا كان وهماً فليسمح لنا ذلك الفيلسوف السوفسطي بأن نلقيه في النار فانها ليست إلا خيالاً وليست – حسب مذهبه - إلا كرسم متحرك أو كصورة هولوغرامية أو حلم من أحلام اليقظة!

كما نجد انه لا شك في أننا نكاد نتمرق من العطش ثم ان شرب الماء قد روى ذلك الظمأ، ونرى ان هذا الصوت المرتفع أورثنا الصداع الشديد، وذلك الفأس قد حطم الجدار، وهذا المطر المنهمر قد أغرق الأرض بالمياه، وهذه العاصفة اقتلعت الأشجار وهدمت البيوت.. وهكذا وهلم جراً.

 

لمحة عن جهلنا بحقيقة الروح والنوم والأحلام

فذلك ونظائره هو اليقين الذي لا شك فيه، واما المنام فهو المشكوك في حقيقته فلا يُعلم ما الذي يجري بالضبط هناك؟ فهل الروح تخرج من البدن (لو كانت داخله فيه أصلاً، إذ الرأي الآخر هو انها خارجة عنه ولها نحوُ تعلقٍ به فقط، وهناك من يرى انها مجردة ومن يرى انها كالطاقة أمر بين المادي والمجرد، وهناك من يرى انها النفس وهناك من يرى انها غيره، ونحن نجهل ذلك كله كما نجهل حقيقة المنام أيضاً، فكيف نعرف حقيقة الذي يجري في المنام؟ فإذا جهلنا حقيقة كل ذلك فهذا هو الشك الذي لا ينبغي للعاقل ان يسريه إلى ما نعلم حقيقته هنا إذ نعلم اننا في اليقظة نحترق بالنار ونُروى بالماء وهكذا ...) وعلى أي، فهل الروح تخرج من البدن حين النوم ثم تنطلق هذه الروح الخارجة من البدن إلى أرجاء العالم فتسافر بالفعل إلى الصين وأمريكا والهند وأفريقيا وغيرها فترى حقيقةً ما تراه وليس وهماً، كما انها تلتقي بالأموات في قوالبها المثالية فيكون النائم قد شاهد والده حقاً لكن في جسد مثالي يتلائم مع تلك النشأة وهكذا وهلم جراً.

وبعبارة أخرى: إن لكل شيء نحواً من الوجود يتناسب مع نشأته وليس وهماً فيها بل هو حقيقة، وذلك لأن الوجود العيني حقيقة وله آثار، والوجود الذهني سنخ آخر من الحقيقة أضعف من سنخ الوجود العيني وله آثار أخرى لكنه، على أية حال، له درجة من الوجود وليس عدماً محضاً ووهماً صرفاً: فالأسد الذهني مثلاً أسد ذهني كما ان الأسد المرسوم منتقش على الجدار ولكل منها حقيقة وواقعية بقدر درجة وجودها، فهل عالم المنام والأحلام كذلك؟ هذا احتمال! والاحتمال الآخر هو: ان كلما نراه فليس إلا صوراً تنتقش في أذهاننا في النوم وقد يكون مصدرها أرشيف الصور في المخ إذ تتركب بطريقة متحركة حسبما يراها النائم، وقد يكون مصدرها إشعاعات من الخارج أو غير ذلك؟ فكل ذلك نجهله إذ نجهل حقيقة الأحلام تماماً.

 

أَزِحْ ظلام شبهة الأحلام بنور حقيقة اليقظة!

وهنا تظهر أهمية المفتاح الأول حيث ان الجاهل بهذا المفتاح حيث جهل حقيقة الأحلام وخُيّل إليه انها مجرد أوهام أراد تسرية هذا الشك إلى اليقين الذي نحس به أو نستشعره في اليقظة، فيقول: إنه لعله أيضاً خيال في خيال، مع ان العاقل الحكيم يعكس الأمر وينطلق من اليقين لينسف الشك، فيذعن بانه لا شك في عينية النار المحرقة هذه وانه يراها حقاً لا متوِّهماً فيستقرّ على يقينه مطمئناً ثم ينطلق منه إلى المنام فيفكر: إما ان المنام درجة ضعيفة من الوجود فهو كالصور الذهنية مثلاً؟ واما انه حركة حقيقية في عالم آخر؟ واما انه وهم في وهم؟ وحيث وجدنا له بعض آثار الوجود فلا بد انه وجود من سنخ أضعف أو من عالم آخر وذلك عكس ما نجده فيما نراه في اليقظة من الآثار فانها آثار متكاملة بتجليات قوية.

أو يفكر ويقول: لكنني بالبرهان اللاحق، بعد اليقظة، ثبت لي ان ما رأيته بالمنام كان وهماً أما ما نراه باليقظة فكل البراهين اللاحقة تؤكد انه كان حقيقة: فلو رأى النار وحرارتها فاعتقد بانها حقيقة (أو لنفرض انه شك في كونها حقيقةً أو وهماً) ثم إذا لمسها احترقت يده فهذا برهان لاحق على صدق المعتقد الأول ثم إذا لم يعالج يده استمرّ به الألم وتصاعد فهذا برهان ثالث ثم إذا سرت العفونة إلى دمه وبدنه فهذا برهان برابع، ثم إذا عالجه سكن الألم أو خفّ وتحسن الجرح فهو برهان خامس، وهكذا يتلو برهانٌ برهاناً ويلحق دليل دليلاً، وكلها تؤيد حقيقة العالم وتشهد بصدق الواقع، عكس عالم المنام الذي إن توهم النائم انه حق إلا انه سرعان ما يكتشف انه لم يكن إلا وهماً!

ويكفي أن كافة عقلاء العالم بل وحتى سفهائهم يفرِّقون بين اليقظة والمنام، وان السوفسطائيين لا يتجاوز عددهم الأصابع وليس بمقدورهم إقناع حتى خدمهم أو موظفيهم وأولادهم بذلك!

كما سبق:

(إتّخِذ من الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في المصاديق والجزئيات

الوجه الثاني: ان يتخذ العاقل من (الكلّيات) منطلقاً لإزاحة الشكوك والشبهات عن المصاديق والجزئيات؛ فان الجزئيات والمصاديق كثيراً ما يشتبه حالها على المرء وحينئذٍ عليه ان يستضيء بنور الكليات اليقينية ويرجع الجزئيات إلى كلياتها فتنحل بذلك العقدة وتنزاح الشبهة)([13])

 

علم أصول العمل:

وقد سبق التمثيل لذلك بقاعدة (كن مجتهداً أو مقلِّداً أو محتاطاً) ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة الاجتماعية والإدارية والفقهية:

فقد أسّس السيد الوالد قواعد أسماها أصول العمل، وقد يقال بانه تأسيس لعلم جديد في فلسفته وإطاره وفي بعض قواعده أيضاً، والمنطلق هو: كما ان هنالك ما يسمى (الأصول العملية) في علم الأصول وهي الأصول التي يرجع إليها الشاك في حكمه الشرعي بعد فقده للدليل الاجتهادي، فتكون هي المرجع لتحديد الوظيفة العملية وذلك كأصل الاحتياط أو البراءة أو الاستصحاب أو التخيير([14]): فإن كانت له حالة سابقة وقد لوحظت فمجرى الاستصحاب وإلا فان كان الشك في التكليف فمجرى البراءة أو في المكلف به فمجرى الاحتياط إن أمكن الجمع وإلا فالتخيير، على أحد وجهي تقرير الشيخ للمجاري أو لوجه الحصر فكذلك جرى تفكيره (قد سره) في انه لا بد ان نبحث عن أصول يرجع إليها العامل في مقام العمل في الاجتماعيات وعند تصدي الفقيه أو الأستاذ الجامعي أو الطبيب والمهندس أو حتى البقال والعطار والمزارع، لبعض الأدوار الاجتماعية أو في نطاق علاقاته الاجتماعية.

 

أصالة الإقدام أو أصالة الإحجام؟

ومن تلك الأصول: أصالة الإِقدام مقابل أصالة الإِحجام، وأصالة السلم والحلم، وأصالة التريث في التهمة، وأصالة الصحة في عمل المسلم أو في عمل الغير، وهذا الأخير مطروح بالتفصيل في القواعد الفقهية وفي الفقه.

ولنلقِ الآن بعض الضوء على الأصل الأول ليتضح المقصود من (إتّخِذ من الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في المصاديق والجزئيات):

فان المدراء والعاملين والناشطين اجتماعياً كثيراً ما يواجهون مواقف تبعث في أنفسهم الحيرة في الإقدام على العمل أو الإحجام؟ فمثلاً: لو كان الرأي الأولي لشخصيةٍ ما أو لمجموعةٍ أو لأي شخص هو بناء مسجد في هذه المنطقة أو حسينية أو ميتم أو مستوصف أو تأسيس جامعة أو إطلاق فضائية أو مركز دراسات أو حوزة علمية أو غير ذلك، ثم حدثت عقبات وتبدّت صعوبات وشكّك هذا أو ذاك في مدى إمكانية إنجاز هذا المشروع أو في مدى نجاحه أو فاعليته أو حتى ضرورته، وحينئذٍ فماذا العمل؟ والجواب انه – وكما هو المعهود – يجب التفكير بشكل مكثف والمشورة وتقليب وجوه الآراء، حسب مقتضيات الشجاعة لا الجبن ولا التهور، وهذا بدوره هو أصل من أصول العمل، فإن قامت الحجة على أحد الطرفين واتضحت الرؤية فهي المرجع ولكن إن لم نحسم الأمر على مستوى العقل النظري فلابد من أصل على مستوى العقل العملي نرجع إليه وهو، برأيه (قدس سره): (أصالة الإقدام) لا (الإحجام)

وغير خفي ان هذا الأصل، كأي أصل آخر، لا بد من إقامة الدليل عليه أو على الأصل المنافس والمضاد له وهو (أصالة الإحجام) فإذا وجدنا الأدلة وافيةً به كان من الأمثلة الاجتماعية – العملية - الإدارية الواضحة للقاعدة الكلية التي أشرنا إليها ههنا (إتّخِذ من الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في المصاديق والجزئيات) فلا تبقى لديك حيرة عملية حينئذٍ عند أي موقف مشابه، كما ان من تمت له الأدلة على الأصول الأربع (الاستصحاب والبراءة...) لا تبقى له حينئذٍ حيرة في مقام العمل.

 

فلسفة أصالة الإقدام

وقد وجد السيد (قدس سره) الأدلةَ وافيةً بأصالة الإقدام: استناداً إلى سلسلة من معطيات البحث التاريخي في حياة الناجحين وفي معطيات علم النفس وعلم الاجتماع والروايات الشريفة أيضاً، فان الناجحين بامتياز في الحياة (أو في مشروع معين) هم – غالباً - الذين يتميّزون بنسبة من روح المغامرة والمخاطرة والاقتحامية؛ ولذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام: ((التَّاجِرُ الجَبَانُ مَحْرُومٌ، وَالتَّاجِرُ الجَسُورُ مَرْزُوقٌ))([15]) فان التجار ينقسمون إلى فريقين:

فريق يتخوّف من الإقدام والاقتحام في حقول جديدة ويحتاطون في خوض غِمار الفرص الجديدة أو القفز نحو مديات أوسع، وهؤلاء عادة يظلون في نفس المستوى الذي كانوا عليه ولا يحققون اختراقات حقيقية بل يبقون كما كانوا تجاراً متوسطي الحال مثلاً.

وفريق يكسرون حاجز الخوف ويعتقدون بأصالة الإقدام ويقتحمون المخاطر، وهؤلاء هم عادة الذين يحققون قفزات مالية كبرى وهم الذين يكونون كبار الأثرياء غالباً إلا من خرج بالدليل كمن ورث عن أبيه مثلاً مالاً، والكلام ليس عنه وأمثاله بل الكلام عن صانعي الثروات والمجد والذين نجحوا في أن يقفزوا على حاجز الركود والوسط الذين يعيشون فيه ليبلغوا القمة أو إحدى القمم.

نعم (الإقدام) يتضمن مخاطر وقد يخسر التاجر أو يفشل المغامر، لكن الكلام في ان نسبة القفزات في المغامرين هي أعلى بكثير من نسبة النجاح في المحافظين والمحتاطين، ولذا نجد التجار على مرّ التاريخ يركبون البحر رغم أهواله ويجوبون الصحاري والفيافي رغم مجاهيلها، ثم في العصر الحديث نجد أعلى نسبة من التجار، لدى القياس ومراعاة النسب وفواصل الزمن وغيرها - هي في مَن اقتحموا الجديد في عالم البرمجيات أو الهندسة الجينية الوراثية أو حتى الأسهم والبورصة وصولاً إلى تكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي وعالم الروبوت وغير ذلك.

 

من ضوابط أصالة الإقدام

ولا تعني أصالة الإقدام، الإقدام بلا روية ومشورة ودراسة وتحقيق وتدبر، فان ذلك يعني التهور، والتهور خطأ، وليست أصالة الإقدام مبنيةً عليه بل هي مبنية على أصل (الشجاعة) والشجاعة تعني الإقدام والاقتحام والعزم على المخاطرة بنسبة ما ولكن بعد دراسة الأمر من كافة أطرافه، ولذلك نجد ان الأسد يوصف بالشجاعة لا بالتهور إذ كشفت الدراسات انه لا يهاجم الفيل مثلاً، إلا إذا اضطر للدفاع عن أشباله مثلاً؛ لأن مهاجمته للفيل مثلاً تهور.

وليست القاعدة (أصالة الإقدام) خاصة بالتجارة فقط بل كذلك الأمر في عالم السياسة والاجتماع والفكر والثقافة وغير ذلك.

والكلام ليس الآن عن برهنة هذا الأصل لنفيض في ذكر الأدلة والشواهد الأخرى، بل الكلام هو ان مَن ساقَهُ الدليل إلى أن (أصالة الإقدام) هي من حيث المجموع الأكثر نفعاً ومن باب (ما خيره أكثر من شره) حسب التقسيم الخماسي (الخير المحض، الشر المحض، متساوي الطرفين، خيره أكثر من شره، وبالعكس) فانه يتمسك حينئذٍ بأصل يرجع إليه لدى الشك، فلا تقعده الشبهة عن العمل ولا توجب له الحيرة والقلق والاضطراب، بل انه قد استضاء حينئذٍ بضياء اليقين (إن كانت أدلته يقينية في تشخيص معادلة ما خيره أكثر من شره) لإزاحة ظلمة الشك وحيرته عن المواقف المربكة.

والأمر كذلك تماماً لو توصل الباحث إلى أصل معاكس وهو أصالة الإحجام فرأى، حسب أدلته، أنّ (الجلوس على التلِّ أسلم) وأنّ عدم التفريط بالوضع القائم بأرباحه المعلومة وإن كانت محدودة خير من تعريض النفس لمخاطر خسارة الثروة أو المكانة كلها وان عصفوراً باليد خير من عشرة محتملة على شجرة... وهكذا فان الأصل الذي يستضيء به هذا الشخص حينئذٍ عند الشك في أي موقف مستجدٍّ هو الإحجام والجمود على الوضع القائم، فتكون (أصالة الإحجام) حينئذٍ هي (اليقين العملي الذي يلجأ إليه الشخص لدى الشك).

وهذا النقاش والتضاد بين الأصلين هو تماماً كالنقاش بين الأَخباري والأُصولي في مرجعية أصالة البراءة مطلقاً لدى الشك في التكليف لدى الأصولي، أو أصالة الاحتياط في الشبهة التحريمية لدى الأَخباري.

ويبقى: أن من يذهب إلى (أصالة الإقدام) قد يضع لها حدوداً تكون هي الاستثناءات فان إحدى الحدود مثلاً (أصالة الاحتياط والإحجام في الدماء والفروج)([16]) ولهذا البحث تفصيل مطول لا بد من تنقيحه في موضع آخر والله المسدد الهادي للصواب.

 

إتخذ من النتائج المتحققة طريقاً لإزاحة الظلم عن عالم الأسباب والعلل

الوجه الثالث: أن يتخذ العاقل من النتائج المحقَّقة والمعاليل المتحقِّقة سُلّماً للعروج إلى عالم الأسباب والعلل وإزاحة ظلم الشكوك وأتربة الشبهات عنها، وذلك هو ما يسمى بالبرهان الإنيّ في المصطلح، ولنمثل لذلك بمثال فلسفي هام، لنكمل في البحث القادم سائر الأمثلة بإذن الله تعالى:

 

إشارة إلى المقدمات التي تنتهي إلى وحدة الموجود

فقد أسس عدد من الفلاسفة من أتباع الملا صدرا أصولاً بنوا عليها مدرستهم التي تنتهي، من غير ان يصرحوا بذلك عادة وان كشف بعضهم حجاب التقية فصرح به، إلى وحدة الوجود بل ووحدة الموجود، وذلك لدى التدبر في مفاد كلامهم ولدى تصوره على حقيقته، والأصول هي([17]):

1- ان الوجود هو الأصيل، عكس من ذهب إلى أن الماهية هي الأصل، بينما نرى ان المصداق هو الأصيل والأربعة (الوجود والوحدة والتشخص والماهية) عناوين له([18])، قالوا:

إن الوجود عندنا أصيل‌ُ


 

دليل من خالفنا عليل‌ُ


لأنه منبع كل شرف‌ِ


 

والفرق بين نحوي الكون يفي‌


كذا لزوم السبق في العِلّية


 

معْ عدم التشكيك في الماهية([19])


2- ان الوجود لا ثاني له، فكما فرضته ثانياً عاد أولاً و(ليس في الدار غيره ديار).

3- ان الوجود حقيقة تشكيكية ذات مراتب، كمراتب النور، والغريب ان بعضهم اعتبر وجود حقيقة تشكيكية كالنور دليلاً على ان سائر الحقائق هي أيضاً تشكيكية، مع وضوح ان الجزئيّ لا يكون كاسباً ولا مكتسباً ومع بداهة ان الجدار والجدار الآخر وأن الأسد والأرنب والإنسان والنبات والجماد حقائق متباينة وليست بعضها من درجات التشكيك للبعض الآخر([20]) أي ليس بعضها في سُلّم الوجود من درجة أعلى ودرجة أدنى؛ ولذا التزم بعضهم بانها متباينات عرضية في سُلّم الوجود التشكيكي، لكنه فِرار غير مجدي إذ تبقى بداهة انها ليست وجودات أضعف ومن مراتب وجود أقوى تقع في بطنه وتكون بداخله أو فقل تكون عينَه بنحو الكثرة في عين الوحدة ومن نمط التشكيك الخاصي.

4- ان ما به الامتياز في الوجود هو بعين ما به الاشتراك إذ لا شيء غير الوجود ليكون هو ما به الامتياز؛ ولذلك كانت الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة.

 

كيف انتجت (أصالة الوجود ومشكّكيّته و...) وحدة الموجودات؟

أقول: نتيجة هذه المقدمات لدى التدبر هي (وحدة الوجود) وانه لا شيء إلا وجود واحد ممتد منبسط وكل شيء بدءً من الله تعالى وانتهاء بأصغر أو أضعف مخلوق هو مرتبة من مراتب هذا الوجود، فالوجود واحد إذاً، بل نتيجتها لدى التدبر هي (وحدة الموجود) إذ المائز بين الوجودات هي الماهية كما قالوا وهي اعتبارية محضة، ولا يعقل التمايز الحقيقي بين الوجودات الحقيقية بأمر اعتباري محض، بل هي لا شيء محض في الخارج إذ لا شيء غير الوجود أبداً في الخارج، على مبنى أصالة الوجود، فالمايز بين زيد وعمرو والإنسان والحيوان والنبات والجماد بل والخالق والمخلوق ليس إلا أمراً اعتبارياً هو المسمى بالماهية، وحيث كانت اعتباراً محضاً (واما في الخارج فليس إلا الوجود) إذاً تكون الموجودات كلها وجوداً واحداً؛ إذ الموجود بزعمهم مركب من الوجود والماهية فإذا كانت الماهية اعتباراً صِرفاً ولا شيء لدى الدقة كان الموجود لدى الدقة وجوداً فقط واما ماهيته وحدّه (الذي به افترض القائلون بأصالة الماهية افتراق بعض الموجودات عن الأخرى) فهي أمر موهوم لا غير، وكيف تكون الماهية إعتبارية موهومة ومع ذلك تكون حداً للوجود مائزاً لهذا عن ذاك؟ لا يمكن إلا إذا قالوا بكونها أمراً حقيقياً أصيلاً في الخارج فتكون الماهية أصيلة كالوجود فيكون هناك أصيلان هذا خلف! وإن قالوا هي مجرد وهم فنقول: فكيف يتميّز أمران حقيقيان في الخارج بحدٍّ وماهيةٍ وهميةٍ بينهما؟

فظهر انه لدى التدبر فان نتيجة تلك المقدمات هي وحدة الموجود، ولا تحل المشكلة دعوى ان الخالق هو المرتبة العالية والمخلوق هو المرتبة الدانية إذ مدعاهم هو (التشكيك الخاصي) وليس (التشكيك العامي) أي ليس مدعاهم في تشكيك الوجود انه كنور الشمس الذي انعكس على القمر ثم انبعثت أشعته فانعكست على الجدران فان هذا نور ممتد متعدد في الواقع بتعدد القابل ولا يقولون به في وجود الخالق والمخلوق وإلا للزم خروج المخلوق عن وجود الخالق وانحاز عنه وللزم ان تكون الكثرة بتعدد الأماكن والقوابل لا بنفس الوجود وبنحو الكثرة في عين الوحدة، فهذا هو التشكيك العامي، لكنهم يرون التشكيك الخاصي وهو ان الوجود القوي كنور الشمس يستبطن في داخله([21]) الوجود الضعيف، وبتعبير أدق: هو وجود قوي وهو وجود ضعيف بنفسه لكن في رتبتين، ولبّ هذا أنّه عينُه لكن بعبارات معقدة مطولة لتضييع الأمر على المعترض وكي يمكن التملص من هذه النتيجة إذا ووجهوا بها؛ ولذا نجد من أزاح ستار التقية منهم، فانه صرح بها([22]) ومن أدرك عمقها رفضها.

 

وهل يعقل ان يكون ما عينُه الفقر والحجة، إلهاً؟

وعلى أي فان المقصود ههنا ليس مناقشة بنود هذه النظرية وأصولها بل المقصود هو أمر آخر وهو: ان المتعلم لو سمع هذه الأصول والبنود ثم وجدها تنتهي إلى وحدة الوجود والموجود([23]) فانه قد يكون عاجزاً عن مناقشتها لكنه يمكن له ان ينطلق من اليقين الوجداني بفساد النتيجة وبطلانها إلى فساد إحدى الأصول والأسس والمقدمات أو جميعها؛ إذ نتيجة كل تلك الأصول والمقدمات الأربع السابقة هو كما صرح به بعضهم (ليس في جبتي سوى الله) أو (ليس في الدار غيره ديّار)([24]) أو (ان الوجود بحر ونحن تموجاته، وهل الأمواج إلا البحر)؟ أو

مسلمان گر بدانستي كه بُت جيست


 

يقين داني كه دين در بت پرستي است


وغير ذلك([25]).

ويكفي لإبطال كل ذلك ان يلتفت المرء إلى ذاته ليشهد بوضوح انه كلّه الفقر وانه كلّه الحاجة فهل يعقل ان يكون إلهاً؟ أو جزء إله؟ أو مرتبة من مراتب الإله؟ ألا ترى انك قطعة من الحاجة للماء والهواء وللأرض والسماء وللطعام والملبس والمسكن والمركب؟ وللزوجة والطبيب والمهندس والعطار والبقال والخباز؟ وللشرطة والدولة وغير ذلك فهل يعقل ان تكون إلهاً؟

وألا ترى انك جاهل بكل شيء تقريباً؟ جاهل بحقيقة روحك ونفسك وعقلك بل وبدنك أيضاً؟ فلا تدري شيئاً عن بنية الأعصاب والخلايا والعين والسمع والمخ وغير ذلك إلا ما درسته أو قرأته، وهو كمٌّ ضئيل جداً من أسرار البدن؟ وكيف يكون إلهاً من هو جاهل بكل شيء تقريباً عن نفسه؟ ولعلنا نكمل هذا البحث لاحقاً بإذن الله تعالى.

و

دليلهم (سَمْتُ اَلْهُدَى):

ان المفتاح الثاني لإزاحة الشبهات والسيطرة عليها ودحر الشكوك هو (سمت الهدى) الذي ورد في قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى))([26])

والفرق بين ((فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ)) و((دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى)) هو ان الأول مصباح داخلي والثاني مرشد من خارج، فتدبر جيداً.

وتوضيح ذلك: ان كلام الإمام عليه السلام يمكن أن يفسر بوجهين، على حسب المعنى المراد من مفردة (سَمْتُ) وكلاهما يعد مفتاحاً لحل معضلة الشبهات: والمعنيان للسَمت هما:

أولاً: الطريق وهو المعنى المعروف الذي يذكر عادة كتفسير لكلمة سمت.

وثانياً: الجهة – هو ما ورد في الكتب اللغوية المفصلة كلسان العرب مثلاً، فلنتكلم على كلا التفسيرين:

 

سَمْتُ الهُدَى: جهة الهدى، كجهة الكعبة

التفسير الأول: ان معنى ((دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى)) هو ان دليلهم جهة الهدى، فان جهة الهدى لو حددها العاقل فان كل الشبهات التي تعترض طريقه تذوب كما يذوب الملح في الماء، وذلك بعد ان يتخِّذ الجهةَ المحددةَ سابقاً مرجعيةً له، وذلك مقياس عام في الماديات وفي المعنويات أيضاً.

أما في الماديات: فكتحديد جهة القبلة بشاخص معين، ككون سهيل إلى جهة الجنوب في مثل النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وككون الجدي في جهة الشمال (بان تضعه خلفك فتكون القبلة أمامك) فإذا حدّد العاقل سَمْت الكعبة (وهو سمت سهيل نفسه) فانه إذا كان في الصحراء أو في وسط أمواج البحر فانه مهما اعترضه الشك في صحة اتجاهه وسلامة مسيرته فانه ما عليه إلا ان يرفع رأسه إلى سهيل أو الجدي لتنزاح عنه الشبهة ويرجع إلى اليقين بموقعه وبسلامة اتجاهه (أو العكس) من جديد.

 

والرسول وأهل بيته هم سَمْتُ الهدى وجهته

وأما في المعنويات، وغيرها أيضاً، فـ(سمت الهدى) هو الرسول صلى الله عليه واله وسلم وأهل بيته الأطهار قال صلى الله عليه واله وسلم: ((إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي (أهل بيتي) فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىَّ الحوض))([27]) وقال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها))([28]) وقال الإمام علي عليه السلام: ((أنَا القُرآنُ النّاطِقُ))([29]) فكلما اعترضتك شبهة أو حيرة في فكرةِ ما أو في معتقد ما أو في مسألة ما، فما عليك إلا أن تيمِّم (سَمْتُ الهُدَى) وترجع إلى المقياس النهائي الذي قال عنه تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([30]).

نعم: لا بد مسبقاً من التحقيق والفحص والبحث لكي نعرف (الجهة المرجعية الحقة) وهل هي عليٌّ صلوات الله عليه أو أبو بكر وعمر؟ أو هل هو الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم أو أبو جهل وأبو سفيان؟ وهل هو الحسين بن علي (عليه صلوات الله وسلامه) أو يزيد بن معاوية؟ فههنا ينبغي ان يعسكر المحقق فإذا شاهد متواتر الروايات الصادرة من الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم التي تفيد بان علياً هو مدينة علم الرسول صلى الله عليه واله وسلم و((أقضاكم علي))([31]) و((أعلمكم علي بن أبي طالب))([32]) و((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))([33]) وغيرها وغيرها كثير([34])، فان (سَمْتُ الهُدى) يكون قد تحدد لديه دون لَبْسِ وحينئذٍ ما عليه إلا أن يُسلس قياده للحق وللرسول وأهل بيته (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))([35]) و(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([36])   وكما قال الشاعر([37]):

ولو قلَّدُوا الـمُوصَى إليهِ زِمَامَها


 

لَزُمَّتْ بمأمونٍ مِن العَثَراتِ


وبعد ذلك لا يبقى مجال للتشكيك في ان دية المرأة كذا أو ان إرثها كذا أو هذه المسألة كذا أو تلك كذا، وقد قال الأمير عليه السلام: ((ووَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوه))([38]).

وقال عليه السلام أيضاً: ((يا كُمَيْلُ لا تَأْخُذْ الّا عَنَّا، تَكُنْ مِنَّا))([39]) وللبحث تتمة بل تتمات بإذن الله تعالى.

 

 

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

 


([1]) سورة إبراهيم: آية 9.

([2]) سورة الدخان: آية 9.

([3]) سورة النساء: آية 157.

([4]) سورة يونس: آية 94.

([5]) سورة يونس: آية 104.

([6]) سورة هود: آية 62.

([7]) سورة النمل: آية 66.

([8]) سورة ص: آية 8.

([9]) سورة غافر: آية 34.

([10]) راجع الدرس (4 - 267).

([11]) السيد الرضيّ، نهج البلاغة، الناشر: دار الكتاب اللبناني، ص81.

([12]) تعبير عرفي؛ فان الالتفات كافٍ.

([13]) راجع الدرس (4/267).

([14]) وغيرها، لكن الأربعة ذكرت لأنها عامة سيّالة.

([15]) المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث – قم، ج13 ص294.

([16]) والتحقيق ان هذا من الاستثناء المنفصل من قاعدة الإقدام وقد نوضحه لاحقاً إذا شاء الله تعالى.

([17]) وقد صرح بها في (نهاية الحكمة) وغيره.

([18]) كما فصلناه في محله.

([19]) منظومة ملا هادي السبزواري، ج2 ص62.

([20]) ولا للوجود الأعلى، بالبداهة وكما سنشير له.

([21]) لا في امتدادته التي توجب تعدده بتعدد القابل.

([22]) كصمدي آملي مثلاً فراجع (عرفان از حقيقت تاپندار) وموقع: Nooralsadegh.ir.

([23]) وإن لم يجدها تنتهي إلى ذلك، فلا كلام لنا معه ههنا أي لا يصلح هذا البحث شاهداً على نقض المقدمات ببداهة ببطلان النتيجة أو النتائج.

([24]) ملا صدرا، مجموعة رسائل فلسفي صدر المتالهين، ص455.

([25]) راجع كتاب (جدلية الدين والفلسفة).

     وكتاب: (عارف وصوفي هي ميكويد).

     وكتاب: (العرفان الإسلامي).

     وكتاب: (تاريخ الفلسفة والتصوف).

([26]) السيد الرضيّ، نهج البلاغة، الناشر: دار الكتاب اللبناني، ص81.

([27]) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة النشر الإسلامي، ج1 ص234.

([28]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه واله وسلم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ص 340.

([29]) سليمان بن إبراهيم القندوزي، ينابيع المودّة، الناشر: دار الاسوة للطباعة والنشر، ج1 ص214 ح20 .

([30]) سورة النساء: آية 83.

([31]) الشيخ الكليني، الكافي، ط الإسلامية، ج7 ص429.

([32]) الشيخ الكليني، الكافي، ط الإسلامية، ج7 ص424.

([33]) الشيخ الكليني، الكافي، ط الإسلامية، ج8 ص107.

([34]) راجع الغدير والمراجعات وليالي بيشاور وغيرها.

([35]) سورة النجم: آية 3-4.

([36]) سورة المائدة: آية 55.

([37]) من ديوان دعبل الخزاعي (تَجَاوَبنَ بالإرنانِ وَالزَّفراتِ).

([38]) السيد الرضي، نهج البلاغة، ط دار الكتاب اللبناني، ص264.

([39]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه واله وسلم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ص 171.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2927
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاربعاء 10 ربيع الاول 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28