بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(8)
سبق: (لا يقال: الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص فالأمر بالأهم يقتضي النهي عن المهم فكيف يكون مأموراً به والحال هذه؟ وكيف يكون فعله طاعة وامتثالاً؟.
إذ يقال: أولاً: الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص، على ما حُقق في محله.
ثانياً: سلّمنا، لكنه غير ضار كما سيأتي غداً بإذن الله تعالى)([1]).
الأمر بالمهم لوجود الغرض وانتفاء المانع
ويمكن بيان ذلك بوجوه عديدة منها ما خطر بالبال مع إضافة ما ذكره بعض الأعلام وهو: ان المهم حامل للغرض الملزم للمولى – حسب الفرض – فكان لابدّ والحال هذه من الأمر به من المولى الحكيم ولا مانع منه إلا الأمر بالأهم، ولكنه ليس بمانع إما للوجه الأول السابق وهو أن الأمر بأحد الضدين لا يقتضي النهي عن ضده الخاص، وإما للوجه الثاني المبني على التنزُّل وتسليم أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وهو:
ثانياً: تعدد جهات الأهم والمهم وكونها تقييدية
ان جهات الضد (المهم) إن كانت تعليلية لما أمكن تعلّق الأمر به والنهي في وقت واحد، لكنها إن كانت تقييدية فلا إشكال في تعلّق الأمر والنهي بها؛ إذ الجهة التقييدية توجب تعدد الموضوع أو فقل ان تعدد العنوان إذا كان من العناوين التقييدية يوجب تعدد المعنون حقيقةً فيكون متعلَّق الأمر موضوعاً ومتعلَّق النهي موضوعاً آخر ولذا أمكن تعدد الآثار والأحكام؛ فان زيداً مثلاً من حيث العدالة موضوع لجواز الصلاة خلفه ومن حيث جهله موضوع لعدم جواز تقليده أو عدم رجحان الدرس عنده أو السؤال منه، نعم قد يقال بانه لا يصح الأمر بإكرامه لعدالته والنهي عن إكرامه لفسقه أو الأمر بإكرامه وإهِانته، لكن ذلك إن صحّ، وليس بصحيح لدينا كما حققناه في باب اجتماع الأمر والنهي ولعله سيأتي، فإنما يصح لِعَوْد الجهتين إلى كونهما تعليليتين دون ما لو بقيتا تقييديتين.
للمهم مصلحة وللأهم مصلحتان أو درجة أشد منها
وفي المقام: يقال بان الحيثيين في الأهم والمهم تقيديتان بالبيان الآتي:
فان المهم مشتمل على المصلحة الملزمة فانه المفروض وانه لا مانع من الأمر به (إن كان مانع) إلا الأمر بالأهم، واما المهم فانه مشتمل على المصلحة الملزمة وزيادة والزيادة إما كميِّة وإما كيفية:
أما الكميّة: بان يفرض ان الأهم فيه مصلحتان ملزمان بمجموعهما كان هو الأهم؛ (إذ لو اشتمل على المصلحة الملزمة الواحدة فقط لكان الأمر به وبقسيمه على نحو الواجب التخييري لفرض تمام الملاك فيهما وعدم قدرة العبد على امتثالهما وتساويهما في الملاك) فهو مشتمل على مصلحتين ملزمتين بحيث لو انفرد كل منهما لكان اللازم إنشاء الإيجاب على طبقها فانه لو كانت المصلحة الزائدة قليلة لا تبلغ حد الإلزام لما أَوجبتْ إلا رجحان الأهم على المهم استحباباً لا إيجاباً وإلزاماً.
وأما الكيفية: فبكون الأهم أشد ملاكاً وأقوى من المهم بدرجة لو استقلت لوجب الأمر بإحرازها ولو تركها العبد لاستحق العقاب بتفويتها وعليه: فالمهم مشتمل على الدرجة الدنيا من المصلحة والأهم مشتمل على الدرجة العليا منها أيضاً.
اشتمالهما على الدرجة الدنيا من المصلحة، مصبّ الوجوب التخييري
وحينئذٍ نقول: ان مقتضى اشتمالهما على الدرجة الدنيا من المصلحة هو إيجابهما تخييراً، ككل واجب تخييري تساوى فيه الملاكان وكان أحدهما بديلاً عن الآخر أو عجز عن الجمع بينهما، ومقتضى اشتمال الأهم على الدرجة العليا إيجابه تعييناً.
واشتمال الأهم على العليا منها، مصبّ الوجوب التعييني
فمصب الوجوب التخييري هو الأهم والمهم بلحاظ المرتبة الدنيا من المصلحة القائمة بهما، ومصب الوجوب التعييني هو الأهم بلحاظ المرتبة العليا من المصلحة القائمة به، وهما حيثيتان تقييديتان فأمكن تعدد الأثر والحكم وهو تعلق الوجوب التخييري بأحدهما والتعييني بالآخر.
والمستحيل طلب جمع الضدين لا طلب الضدين
لا يقال: يستحيل ان يبعثه حقيقةً نحو الأهم ونحو المهم أيضاً مع علمه بعدم قدرته على الجمع بينهما؟
إذ يقال: طلب الجمع بين الضدين محال لا طلب الضدين، والتوهم نشأ من الخلط بينهما.
وبعبارة أخرى: المولى قال: (أفعل هذا) وقال: (أفعل هذا) ولم يقل: (أفعل هذا وأفعل هذا) فالمغالطة نشأت من إضافة الواو([2]) إلى مطلوب المولى مع ان طلبه ومطلوبه كان خِلواً منها فان الأمر بالإزالة يدعو إلى متعلَّقه لا إلى متعلَّقٍ آخر كما ان الأمر بالصلاة يدعو إليها لا إلى أمر آخر ولو كان الأمر بالإزالة يدعو إلى الصلاة أيضاً لكان من طلب الجمع بين الضدين وصحت إضافة الواو بين الأمرين لكنه ليس كذلك بالبداهة.
بعبارة أخرى (الواو) من عالم الحكاية ومن إضافة الحاكي وليس من عالم المحكي.
وبعبارة أخرى: دعوة كل أمر إلى متعلَّقه من قبيل لا بشرط وهو يجتمع مع ألف شرط وليس من قبيل بشرط شيء ليكون الجمع مطلوباً وتكون الواو جزء متعلقهما. فتدبر جيداً.
نعم غاية الأمر انه لو امتثل المهم، فقط أطاع وعصى، لكن من جهتين: (أطاع) لامتثاله أمر (صلِّ) ولتحقيقه ملاكه و(عصى) لمخالفته أمر (أزِل) إذ لم يمتثله وتفويته بذلك الملاك الأعلى الذي لا بديل له، واما لو امتثل الأهم فقد أطاع دون معصية: اما اطاعته للأمر الأهم فلامتثاله له وأما تركه للمهم فلأن الفرض أن الأمر المهم يدعو إلى نفسه وبمنع تركه إلا إلى المساوي أو الأهم وهذا أهم، أي ان المهم يقول: لا تتركني إلا للأهم فلو فعل الأهم لما عصى المهم والحال انه قد امتثل الأهم.
تزاحم المستحبات وفعلية طلب المهم منها
ومما يوضح تقارن طلبي الأهم والمهم، المستحبات المتزاحمة على المنصور من تحقق التزاحم بينها لوضوح أن الأمر بالمستحب بعث نحوه لكن لا مع إلزامٍ، وكما يستحيل، على الامتناعي، البعث الإلزامي نحو الضدين يستحيل كذلك البعث الترجيحي نحوهما إذ العبد عاجز عن الجمع بينهما فكيف يأمره ويبعثه ولو بعثاً غير إلزامي بهما؟ والجواب الجواب.
واما صغرىً فمن البديهي كثرة المستحبات المتزاحمة وكون بعضها أهم قطعاً (كقراءة القرآن والصلاة وقضاء حاجة الناس وبناء المساجد وطلب العلم المستحب والزراعة المستحبة وهكذا، وفي خصوص شهر رمضان ورد من المستحبات من أدعية وقراءة وأعمال ما لا تسعها الليالي قطعاً) ولا يشك فقيه في انها جميعاً مستحبة قد حبذ الشارع إليها، مع انه على الامتناعي ينبغي أن يلتزم باستحباب الأهم منها فقط وكون ما عداه غير مستحبة وغير مدعوٍّ إليها أبداً بل أوامرها إرشادية فقط، وهذا ما لا يظن بفقيه الالتزام به، نعم هذا الوجه أعم من إمكان الترتب ومن دعوى التقارن وإن كان الأظهر التقارن لما نرى من الوجدان من الدعوة إليها في عرض واحد لا معلقاً على المخالفة لبعضها (وهو الأهم منها) فتدبر وتأمل، والله العالم.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: (( عليكم بالورع، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع )) الكافي، ط الإسلامية: ج2 ص76.
([1]) راجع الدرس (7).
([2]) والبشرط شيئية، كما سيأتي.
|