بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(1)
عناوين مباحث التزاحم:
البحث يدور بإذن الله تعالى عن (التزاحم) في ضمن العناوين الآتية:
- تعريف التزاحم والتعارض والمقارنة بينهما وبيان فوارقهما.
- أقسام التزاحم: تزاحم الأحكام وتزاحم الملاكات وطرق اكتشاف الملاكات المتزاحمة وأحكام التزاحم الملاكي.
- خصائص التزاحم وأحكامه.
- المرجحات في باب التزاحم.
- طرق اكتشاف أهمية أحد الملاكين أو إحدى الملاكات.
- الترجيح بمحتمل الأهمية.
- الموارد التي وقع فيها الخلاف بين الأعلام في انها من التزاحم أو التعارض.
- جريان التزاحم في الالزاميات الضمنية وعدمه.
- جريانه في اللاإقتضائيات: المستحبات والمكروهات وعدمه.
وكل تلك البحوث مما سيجري بإذن الله تعالى الكلام عنها في ضمن ثلاث مستويات ودوائر:
فقه الأحوال الشخصية.
فقه الشؤون الاجتماعية (المجتمع وأحكامه).
وفقه الحكومة والشؤون العامة.
وذلك في ضمن البحوث الآتية:
تعريف التعارض:
عرّف القدماء (التعارض) بـ: (تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد)([1]) لكن الآخوند وكثير من الأعلام عدلوا عنه إلى تعريف آخر هو ما ذكره الآخوند بقوله: (تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد، حقيقة أو عرضاً، بأن علم كذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً)([2]).
وقال في نهاية الدراية (التنافي تارة ينسب إلى المدلولين من الوجوب والحرمة أو الوجوب وعدمه مثلاً، وأخرى ينسب إلى الدالّين بما هما كاشفان عن أمرين متنافيين، لتلوّن الدالّ بلون المدلول لفنائه فيه، وثالثة إلى الدليلين بما هما دليلان وحجتان فيكونان متنافيين في الحجية والدليلية)([3]).
وقد عُلِّل العدولُ عن تعريف القدماء بأكثر من وجه ومنها: بان تعريف القدماء غير طارد للاغيار إذ يدخل (الحاكم) والمحكوم والخاص والعام والأظهر والظاهر، في التعارض لتنافي مدلولاتها لوضوح منافاة مدلول أكرم العلماء لمدلول لا تكرم زيداً العالم في شخص زيد إذ مفاد العام الوجوب ومفاد الخاص الحرمة، وكذلك منافاة (يجب الصوم) مع عموم مفاد (لا ضرر) لإفادته عدم وجوب الصوم، مع انها ليست متعارضة عرفاً بل هو تعارض بدوي غير مستقر يزول بأدنى إلتفات، ولا تجري عليها أحكام التعارض من اللجوء للمرجحات السندية والجهوية والمضمونية؛ لوجود الجمع الدلالي الذي به ينتفي التعارض قطعاً.
وذلك عكس التعريف الثاني فانها لا تدخل فيه إذ لا تنافي بحسب الدلالة بين الحاكم والمحكوم لأن الحاكم مفسِّر للمحكوم وشارح له، ولا بين المطلق والمقيد لأن دلالة المطلق ليست بمنجزة بل هي معلّقة على عدم ورود مقيّد مطلقاً أو في مقام التخاطب، ولا بين العام والخاص لأن الخاص أظهر دلالةً فلا يعارضه العام، وبعبارة عرفية: ان العام ينسحب أمام الخاص ولا يواجهه ولا يعارضه، بل سبق في مباحث التعارض ان أصالة التطابق بين الدلالتين الجدية الاستعمالية في العام محكومة بالخاص بلا شك، هذا.
وقد فصلنا الكلام عن التعارض وتعريفاته وفوارقها في (مباحث التعارض: التعارض والترجيح وغيرهما) فلا حاجة للإعادة([4]).
تعريف التزاحم:
أما (التزاحم) فقد عرّفه الميرزا النائيني إلى جوار تعريفه للتعارض وبيانه للفرق بينهما بقوله بعد كلام مطول: (فتحصّل: أن الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم هو أن التعارض إنما يكون باعتبار تنافي مدلولي الدليلين في مقام الجعل والتشريع، والتزاحم إنما يكون باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال، إما لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال، كما هو الغالب في باب التزاحم وإما لقيام الدليل من الخارج على عدم وجوب الجمع بينهما، كما في بعض فروع زكاة المواشي، كما لو كان المكلف مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ثم ملك واحدا آخر من الإبل وصارت ستة وعشرين...)([5]) وقد نقلنا كلامه بطوله في آخر بحث الحكومة والورود([6]) فراجع، ولعلّه يأتي منا تعليق عليه.
وقد عرّف بعضهم التزاحم بـ(التنافي بين الأحكام التكليفية الإلزامية في مقام الامتثال على ان يكون منشأ التنافي هو عدم إتساع قدرة المكلف على الجمع بينهما) وستأتي المناقشة في تقييده بالأحكام لعدم شموله لتزاحم الملاكات، وفي تقييده بالتكليفية لعدم شموله لتزاحم الأحكام الوضعية، وفي تقييده بالإلزامية لعدم شموله للاقتضائية، وغير ذلك كما سيأتي الكلام بإذن الله تعالى عن خصائص التزاحم والمختار في تعريفه.
الإشكال على التزاحم بانه يعود للتعارض مآلاً
ولكن قد يورد على التزاحم بانه يعود إلى التعارض مآلاً؛ وذلك لأن القدرة هي من الشرائط العامة للتكليف فيستحيل أن يكلف المولى عبده وهو يعلم انه عاجز عن الامتثال، نعم يمكنه أمره أمراً صورياً لكنه ليس بأمر حقيقة بل هو صورة أمر ولا بعث فيه، وبعبارة أخرى يستحيل البعث الحقيقي نحو ما يعلم المولى ان المكلف غير قادر على امتثاله وإطاعته.
وعليه: فإذا تنافى الحكمان في مقام الامتثال لعدم قدرة العبد على الجمع بينهما كما لو قال: (أكرم العلماء) وقال: (لا تكرم الفساق) أو (أهِن الفساق) وفرض ان لكليهما ملاكاً (لوضوح ان لإكرام العالم مصلحة قائمة بكونه عالماً ولإكرام الفاسق مفسدة قائمة بكونه فاسقاً) ففي مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق لا يعقل ان يوجه بعث حقيقي نحو إكرامه مع زجر حقيقي عن إكرامه أو بعث حقيقي نحو إهانته فلا بد من أن يرفع المولى يده عن أحدهما ولا يعقل منه ان يُنشأهما معاً حقيقةً، وحينئذٍ فاحدهما صادق والآخر كاذب وهذا هو التعارض بعينه.
ولا يجدي لدفع ذلك اللجوء إلى أن أوامر الشارع هي بنحو القضايا الحقيقية؛ وذلك لأن القضايا الحقيقية انحلالية تنحل إلى أحكام بعدد الأفراد فيستحيل من الشارع الأقدس المحيط بالجهات ان يُعمِّم كلا حكميه لمورد الاجتماع، بل يستحيل على غيره أيضاً إذا التفت ولو إجمالاً إلى وجود موارد اجتماع، بل يكفي الارتكاز مانعاً عن تعلق أمره حقيقةً مع نهيه بمورد الاجتماع.
كلام النائيني: لا مزاحمة بين الحكمين في عالم الجعل
وقد قرر هذا الإشكال المحقق العراقي بنحو آخر تعليقاً على كلام الميرزا النائيني في الفوائد إذ قال الأخير: (وأما التزاحم: فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنما يكون في مرحلة الامتثال بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدّر وجوده وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملائمة من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والانشاء وإنما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعلية بعد تحقق الموضوع خارجا، لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال، فيقع التزاحم بينهما لتحقق القدرة على امتثال أحدهما، فيصلح كل منهما لان يكون تعجيزا مولويا عن الآخر ورافعا لموضوعه)([7]).
إشكال العراقي: القدرة قيد، فلا يمكن جعل المتزاحمين
فعلق المحقق العراقي بقوله: (أقول: جعل الحكم وإنشائه في مقام التشريع على موضوعه المقدّر وجوده، إن كان قابلا للتحقق ولو لم ينته إلى مرحلة الفعلية الامتثالية، فلازمه جواز الجعلين حتى في صورة ملازمة امتثال أحدهما لتعجيز الآخر. وإن لم يكن قابلا للتحقق إلا في صورة انتهاء أمره إلى الفعلية، فكيف يكون مجعولان بينهما الملائمة في ظرف العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق؟ بل لا محيص من تقيد إطلاق هذا الجعل بصورة القدرة، فينتهي الامر حينئذ في صورة العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق إلى الجزم بعدم أحد الجعلين واقعا، كما لا يخفى، فتدبر)([8]).
وهو تعليق ناظر أيضاً إلى ما سيأتي من المحقق النائيني بعد صفحات من قوله: (وأخرى: يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع التلازم بين متعلق الحكمين، بمعنى أنه اتفق الملازمة بين امتثال أحد الحكمين لمخالفة الآخر، فلو كانت الملازمة بينهما دائمية يندرجان في صغرى التعارض؛ لامتناع تشريع حكمين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر دائما كما لو فرض أنه قام الدليل على وجوب استقبال القلبة وحرمة استدبار الجدي في القطر الذي تكون القبلة فيه نقطة الجنوب ـ كالعراق([9]) ـ فان الدليلين يتعارضان لا محالة، وذلك واضح)([10]).
وسيأتي بإذن الله تعالى توضيح كلامها والمناقشة في كلام العراقي ثم النائيني فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن ابن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ((إن أباك كان يقول في الحج يحسب له بكل درهم أنفقه ألف، فما لمن ينفق في المسير إلى أبيك الحسين عليه السلام؟ قال: يا ابن سنان يحسب له بالدرهم ألف وألف حتى عد عشرة، ويرفع له من الدرجات مثلها ورضا الله خير له ودعاء محمد ودعاء أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام خير له)).
وسائل الشيعة: ج10 ص376.
([1]) أو (تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما) كما ذكره الشيخ.
([2]) كفاية الأصول، ج1 ص437.
([3]) نهاية الدراية ج5-6 ص271.
([4]) راجع الدرس (18/580) فصاعداً من مباحث الأصول.
([5]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، ج4 ص705 – 707.
([6]) راجع الدرس (269/829).
([7]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، ج4 ص704.
([8]) نفس المصدر.
([9]) توضيحٌ: (الجدي) هو نجم الشمال (أي اتفق انه نجم الشمال لأن محور الأرض يدور ببطء فيتغير نجم الشمال في المدد المتطاولة لكنه الآن هو الجدي، وفي العراق حيث القبلة هي الجنوب فان الإنسان إذا استقبل القبلة كان الجدي خلف ظهره لأنه في الشمال، لذا يتناقض كلام المولى في مثل العراق مما قبلته الجنوب لو أمر بالاتجاه إلى القبلة ونهى عن استدبار الجدي في الوقت نفسه، فرضاً؛ لوضوح انه كلما استقبلت الجدي في العراق فقد استدبرت الجدي والشمال.
([10]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، ج4 ص704.
|