بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(265)
الأمر والنهي في المركب الاتحادي متعارضان
والمركّب الاتحادي مما كان مجمع الأمر والنهي كما لو أمر بإكرام الناطق ونهى عن إكرام الإنسان فلا ريب انهما – حسب هذا الرأي – متعارضان إذ لا يعقل أن يكون إكرام الإنسان (وهو عين الناطق فانه فصله) مأموراً به ومنهياً عنه فيكون أحدهما (الأمر والنهي) كاذباً غير صادر (مع إحراز جهتهما وعدم دليل على الجمع الدلالي بينهما).
وفي المركّب الانضمامي متزاحمان
وأما المركّب الانضمامي فكما لو أمر بالصلاة ونهى عن الغصب فان الصلاة في المكان المغصوب (طوعاً أو كرهاً كما لو كان مسجوناً فيه) 1 هو مجمع العنوانين 2 والأمر والنهي فإذا قيل بان الحيثيتين 3 تقييديتين كان التركيب انضمامياً وصح الأمر بلحاظ جهة الصلاتية والنهي بلحاظ الغصبية 4 فتكون الجهتان متزاحمتين ويندرج الأمر في باب التزاحم فان تساوت الملاكات في الأهمية فلا مناص إلا من التخيير وهو تخيير واقعي ثبوتي لوجود الملاك لكليهما عكس التخيير في المتعارضين غير المتراجحين أي المتكافئين فانه تخيير إثباتي، وإن كان أحد الملاكين أهم فإن قلنا بإمكان الترتب كان كلاهما مأموراً به بنحو الترتب 5 وإن قلنا بامتناعه كان الأهم هو المأمور به فقط دون المهم فلو ترك الأهم وقام بالمهم كان بلا أمر ولم يُعدَّ ممتثلاً لأمره ومطيعاً له إذ لا أمر على هذا، وعلى أي فهذه الصورة (التركيب الانضمامي) داخلة إلا الفرض الأخير 6 في التزاحم لا التعارض إذ لا تكاذب بينهما.
وكذلك في المركب الامتزاجي
وأما التركيب الامتزاجي فكما لو قال: تصدق بالحليب الذي بالدار واحتفظ بالماء الذي هو فيها، لكون كل منهما ذا ملاك ملزم، فاختلطا فالتركيب امتزاجي فهل يحتفظ بالمجموع المركب أو يتصدق أو ينصِّف حسب قاعدة العداء الانصاف؟ وعلى أي فهو من التزاحم لوجود الملاك فيهما وعدم القدرة على امتثالهما معاً فالعجز من المكلف في مرحلة الامتثال ولا مضادة بينهما في مرحلة الجعل فلا تعارض.
الثمرة:
والثمرة: انه لو قلنا بتعارضهما فهما متكاذبان ويكون المرجع مرجّحات باب التعارض فان فقدت فالتخيير الظاهري، وإن قلنا بتزاحمهما فليسا بمتكاذبين والمرجع مرجحات باب التزاحم وجامعها الأهم (وسيأتي الكلام بإذن الله في باب التزاحم عن أصنافها وطرق تشخيص الأهم) فإن تساوت فالتخيير الثبوتي الواقعي كما سبق وإن كان أحدهما أهم فكما سبق.
مرجع البحث إلى بحث اجتماع الأمر والنهي
ولكن هذا التفصيل المستقى من كلماتهم، ببعض التطوير، في باب اجتماع الأمر والنهي، محل تأمل في نظرنا فلننقل كلامهم في ذلك الباب ثم نورد عليه ما خطر بالبال:
المصباح: إذا قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي، فهما متعارضان
قال في مصباح الأصول 7 : (4- القول بالامتناع راجع إلى التعارض، والقول بالجواز راجع إلى التزاحم، انه قد عرفت أنّ القول بامتناع الاجتماع مبتن على سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر، فلا محالة يكون أحد الدليلين على هذا القول غير مطابق للواقع، إذ كل من الأمر والنهي يدلّ على نفي مدلول الآخر، فيكون المقام من موارد التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض، ومع فقدها لا بدّ من الرجوع إلى أصل لفظي أو عملي.
وإذا قلنا بجوازه، فهما متزاحمان
وأمّا على القول بجواز الاجتماع، فيكون مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة مع عدم المندوحة من صغريات باب التزاحم، لعدم التنافي بين الدليلين على هذا القول في مقام الكشف عن جعل الحكمين، إنما التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال لكون المكلّف عاجزاً عن امتثالهما معاً، وهذا هو ملاك التزاحم على ما ذكر في محلّه، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التزاحم، ومع فقدها كان المكلّف مخيّراً في امتثال أيهما يشاء).
المناقشة: على الامتناع متزاحمان، ولا تكاذب، بل انثلام الإرادة الجدية فقط
أقول: يرد عليه: انه حتى على القول بالامتناع فانهما 8 ليس من موارد التعارض واستدلاله بـ(فلا محالة يكون أحد لدليلين على هذا القول غير مطابق للواقع، إذ كل من الأمر والنهي يدلّ على نفي مدلول الآخر) غير تام إذ ذلك دليل انثلام الإرادة الجدية وعدم تعلق إرادة المولى الجدية بكليهما معاً في مادة الاجتماع وليس دليلاً على التكاذب الصدوري وكذب أحدهما سنداً لبداهة انه مع صحة سندهما وصدورهما معاً 9 يكون مورد الاجتماع على الامتناع غير مراد بالإرادة الجدية للمولى، ويوضحه: انه كما لا يوجد تدافع سندي بين العام والخاص بل مجرد انثلام الإرادة الجدية للعام في مورد اصطدامه بالخاص كذلك لا يوجد تدافع سندي بين (صل) و(لا تغصب) أو بين (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفساق) بل غاية الأمر أن مورد الاجتماع غير مشمول لأحدهما في مرحلة الإرادة الجدية وإن كان مشمولاً في مرحلة الإرادة الاستعمالية.
بل نقول: ان بناء العقلاء والعرف على ذلك مطلقاً، فإذا بلغهم من المولى أمر بأكرمِ العلماء وآخر بأهِنِ الفساق ففي العالم الفاسق لا يقولون بان أحد الخبرين (الأمر والنهي) غير صادر وان أحدهما كاذب سنداً بل يقول هذان الصادران 10 تعارضت دلالتهما (لا سندهما) في العالم الفاسق فما هو المقدم؟ فان وجدوا مرجحاً بالأهمية قدموه وإلا حكموا بالتخيير الثبوتي كما نرى أو بالتساقط.
دليل التزاحم ظواهر الدليلين العامين
وبعبارة أخرى: لا طريق لنا إلى إحراز المصالح والمفاسد الثبوتية في متعلقات الأحكام، إلا ظواهر ألفاظ الشارع فإذا قال: (أكرم العلماء) كشف بعمومه عن وجود مصلحة ملزمة في عامة أفراد العالم تقتضي وجوب إكرامه، وإذا قال: (أهِنِ الفساق) كشف عن وجود مفسدة في إكرامهم أو مصلحة في إهانتهم، فإذا تمّ ذلك كانا من المتزاحمين في باب مادة الاجتماع إذ (أكرم العلماء) يكشف عن وجود المصلحة الملزمة فيه من حيث كونه عالماً و(أهِنِ الفساق) يكشف عن وجود مفسدة ملزمة فيه من حيث الفسق، فهما متزاحمان إذاً، فإذا قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي وأن تعدد الجهة والعنوان لا يكشف عن تعدد المعنوِن، فإن كان ملاكاهما متساويين تخيّر بينهما ككل متزاحمين وإن كان ملاك أحدهما أقوى تقدَّمَ ورَفَعَ أمر الآخر للتزاحم لا للتكاذب 11 بناء على امتناع الترتب فيكونان متكاذبين 12 فقط إذا كان أحدهما الأهم وقلنا بامتناع الترتب فالتكاذب خاص بهذه الصورة فقط، اما مع أقوائية أحد الملاكين والقول بامكان الترتب فان الأمر بالمهم على تقدير ترك الأهم ثابت غير مرتفع 13 .
والظاهر ان الخلط لدى بعض الأعلام بتصورنا القاصر حصل من سَوق المتباينين والعامين من وجه بعصى واحدة فان كلامهم في المتباينين صحيح وكلامنا في العامين من وجه هو الصحيح، مع ان بعضهم 14 قد صرح بالشمول للاثنين فتدبر.
وعلى الجواز متزاحمان تارة ومتعارضان أخرى
وأما قوله: (وأمّا على القول بجواز الاجتماع، فيكون مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة مع عدم المندوحة من صغريات باب التزاحم، لعدم التنافي بين الدليلين على هذا القول في مقام الكشف عن جعل الحكمين) فيرد عليه انه غير تام على إطلاقه وإن تمّ في الجملة، وذلك لأن العنوان المأخوذ موضوعاً للحكم تارة يكون بما هو هو موضوعاً فيكون الأمر كما قاله من كونها متزاحمين، وأما لو كان العنوان مأخوذاً كمشير إلى الفرد الخارجي فهما متعارضان إذ يكون مصب الحكمين حينئذٍ هو الفرد الخارجي أي وجوده الخارجي ولا تكون الحيثيتان تقييديتين ومصباً للأمر والنهي ليكون من التزاحم باعتبار كونها حاملين للمصلحة والمفسدة، بل يكون المصداق الخارجي بذاته مأموراً به ومنهياً عنه وحيث لا يعقل كونه كذلك فيكون من التكاذب فهما متعارضان.
حتى القضية الجزئية أما من التزاحم أو التعارض
نعم المستظهر ان الفرد الخارجي أيضاً لو كان متعلقاً للأمر والنهي فانه على قسمين:
فتارة تكون فيه مصلحة ومفسدة فهو من التزاحم الملاكي أو الامتثالي (في صورتين) فلو تساوتا خيّره المولى ولو رجح أحدهما فعلى امتناع الترتب أحدهما صادق والآخر كاذب 15 وعلى إمكانه كلاهما صادق، نظير ما سبق.
وتارة أخرى لا تكون فيه إلا المصلحة أو المفسدة فيكون من التكاذب والتعارض.
فالمقياس المشيرية أو المصلحة والمفسدة لا نوع التركيب
وصفوة القول: انه بذلك ظهر ان المقياس ليس كون التركيب اتحادياً أو انضمامياً، بل هو تعدد المصلحة والمفسدة أو كون العنوان مشيراً مع وجود أحداهما، ففي الأول يكون من التزاحم، سواء على امتناع اجتماع الأمر والنهي 16 أو على إمكانهما وسواء كان متعلق الحكم الطبيعي أو الفرد، وفي الثاني يكون من التعارض. فتدبر جيداً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الحسين عليه السلام: ((إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة((
تحف العقول: ص175.
([1]) وذلك على الخلاف في اشتراط وجود المندوحة وعدمه.
([2]) وقد يفصل بين أفعال الصلاة بان التركيب بين الغصب وبين بعضها انضمامي والتركيب بينه وبين بعضها الآخر اتحادي، مما يترك تحقيقه لمظانه، وفرض الكلام الآن في الانضمامي.
([3]) حيثية الصلاتية والغصبية.
([4]) سيأتي بيان وجه دفع التدافع بين الأمرين الفعليين.
([5]) افعل هذا (الأهم) فان تركت فافعل هذا (المهم).
([6]) بل هو داخل في التزاحم الاقتضائي أو التزاحم غير المستقر، وسيأتي في باب التزاحم الكلام عنه.
([7]) السيد محمد سرور الواعظ البهسودي، مصباح الأصول، الناشر: مكتبة الداوري – قم، ط1422هـ، ج1 ق2 ص166.
([8]) أي العامان من وجه، لا المتباينان، كما سيظهر بل وكما هو ظاهر من تمثيله بالصلاة في الدار المغصوبة إذ النسبة بين (صل) و(لا تغصب) هي من وجه.
([9]) كما لو قطع بصدورهما، فكذلك حال المنزّل منزلته.
([10]) بمقتضى اخبار الثقات بهما.
([11]) السندي؛ فانهما صادران.
([12]) أي دلالة، ولا تكاذب سندياً كما مر مراراً.
([13]) وعلى كل التقادير فلا تكاذب سندياً بل غاية الأمر رفع اليد عن الأمر الفعلي أو عن الإرادة الجدية للمهم في مادة الاجتماع. فتأمل
([14]) مصباح الأصول في بحث تعارض العامين من وجه وما سبقه.
([15]) ولا مجال هنا للقول بانثلام الإرادة الجدية فقط لأن الفرض ان القضية جزئية شخصية فاحدهما غير صادر ولا مجال للقول بالصدور وثلم الجدية فقط.
([16]) حتى في صورة الأهم والمهم والقول بامتناع الترتب كما سبق بيانه.
|