• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 203- مباحث الاصول - (الوضع) (10) .

203- مباحث الاصول - (الوضع) (10)

مباحث الأصول: الوضع (فوائد الوضع)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين

الفائدة الرابعه عشر : لو تردد اللفظ –  في معناه الأعم أو الأخص-   في عدة محتملات و لم يكن للوضع أصل نرجع إليه ، يكفينا  الظهور العرفي أو التعليل والتعقيب بأن المراد منه هو المعنى الأعم .
بحث تطبيقي :
ففي قوله تعالى : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [1]  يكون لـ(لَهْوَ الْحَدِيثِ ) عدة احتمالات :
الاحتمال الأول: أن يكون المعنى الموضوع له اللفظ هو الأعم، وقد استخدم في الأخص من باب المصداق، وعلى هذا فإنّ (اللهو) وضع لكل ما يلهي ويشغل الإنسان عن أمرٍ ما، أو عن الأهم ـ كما هو الأظهر ـ ثم استعمل في المرأة والولد واللعب من باب المصداق[2].
الاحتمال الثاني: أن يكون اللفظ قد وضع للمعنى العام وببركة الوضع التعيني اللاحق نُقل للأخص، بأن يدعى أنّ كلمة اللهو قد وضعت للأعم، ثم وبكثرة الاستعمال في الأخص [3]  نقلت له، وله وجه وجيه.
الاحتمال الثالث: أن يكون اللفظ موضوعاً للأخص، وببركة استعماله بكثرة تجوزاً وبدون قرينة أصبح ظاهراً في الأعم، إذا كانت هذه الكثرة قد بلغت للحد الذي نقل فيه اللفظ.
الاحتمال الرابع : أن يكون مشتركاً لفظياً في أصل الوضع، أي: أنّ الواضع قد وضع اللفظ ابتداءً بوضعين، أحدهما واسع والآخر ضيق لحكمةٍ ما، أو لتعدد الواضعين كما هو مسلك البعض في وجه الاشتراك اللفظي، وكما هو الحال في المتباينين، وله وجه.
إذن، هذه محتملات أربعة في المقام، وهو صغرى مبحث تعارض الأحوال ،  فما هو الأصل الذي يصار إليه؟
الجواب : إنه لا أصل في المقام يرجع إليه ، والمدعى في المقام ليس أصالة الوضع للعام -  كلما تردد الوضع بين تلك المحتملات، حتى يبحث عن الأصل في مبحث تعارض الأحوال - وإنما مدعانا هو الظهور، أي: ظهور كلمة اللهو عرفاً في المعنى الأعم، فتأمل.
فإن لم يظهر ذلك للفقيه، فنقول تنزلاً: إنه يكفينا في صغرى البحث استظهار الأعم من الآية بما ذكرناه سابقاً، من الاستناد إلى (ليضل) وإن لم تكن اللام فيها لام التعليل، بل كانت لام العاقبة والصيرورة، أي: لتكون عاقبة اشتراء لهو الحديث وما يترتب عليه هو الإضلال وإن لم يقصده.
والحاصل: أنه حتى لو كانت اللام (لام العاقبة) فإنه ببركة التعقيب المذكور في نهاية الآية فإنّ العرف يفهم من (يشتري لهو الحديث) الأعم من خصوص اللعب، أي: يرى أنّ المقصود هو كل ما يلهي عن سبيل الله تعالى؛ لأنّ هذا الكلي يترتب عليه الإضلال لا خصوص اللعب.
والخلاصة: أنه قد يستدل بالظهور العرفي، فإن تمّ وإلا فالاستدلال في خصوص هذه الآية بظهور (اللهو) فيها في الأعم ببركة التعليل أو التعقيب.
بحث تطبيقي  آخر   :
هل أن (لَهْوَ الْحَدِيثِ ) في قوله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [4]  يشمل حرمة بناء مدرسة  ضلال ، أو تأسيس حزب ضلال، أو نشر كتب ضلال ، أوغير ذلك من الموارد التي لا يطلق عليها ( لهو الحديث ) ؟ ، فهنا يوجد عدة طرق لتوسعة المتعلَق ليكون عاماً :
الطريق الأول : التمسك بعموم التعليل الوارد في الآية (ليضل عن سبيل الله بغير علم)؛فبعموم العلة يكون  ( لهو الحديث ) شاملا ً للمدرسة أو الحزب أو الكتب  .
الطريق الثاني : بحمل ( اللهو ) على المعنى الأعم [5]،  فتكون الآية ناهية عن كل ما يلهي عن سبيل الله  ، لا بحمل ( اللهو ) على المعنى العرفي الأضيق لتكون  الآية خاصة باللهو والعبث.
الطريق الثالث: أن نقول : إن إضافة الحديث في كلمة (لَهْوَ الْحَدِيثِ ) هو بلحاظ كونه مصداقاً وليس  قيداً، وأن المذكور في المقام هو المصداق الأظهر ، فيكون (الْحَدِيثِ  ) مورداً  وليس قيداً [6].

الفائدة الخامس عشر : استدل على عدم حجية قول اللغوي بأنه مهمته تحديد موارد الاستعمال دون تعيين الموضوع له ؛ وأنه ليس من أهل الخبرة بالوضع؛ وأن كتب اللغة  وضعت لبيان ما يستمل فيه اللفظ لا بيان الموضوع له ، ولكن كل هذه الأدلة قابلة للنقاش .
استدل على عدم حجية قول اللغوي بأدلة ثلاث[7]:
الدليل الأول: إن اللغوي ليس من شأنه تعيين الموضوع له، وإنما شأنه تحديد موارد الاستعمال لا غير، والاستعمال أعم من الحقيقة [8].
وهذا ما أكده في المصباح بقوله: لا يصح الرجوع إلى كتب اللغة؛ لأنها لم توضع لبيان الموضوع له، بل لبيان ما يستعمل فيه اللفظ حقيقة كان أو مجازاً[9].
أي: إنّ اللغة وضعت لكي تشخص موارد الاستعمال فقط، الأعم من الحقيقة والمجاز، وهذا الإشكال هو إشكال صغروي، وعليه فالرجوع إلى اللغة لتشخيص الموضوع له
رجوع في غير محله، وأمر لغو.
وفيه: أن تشخيص الصغروي الذي ذكره محل نظر، بل الأمر بعكس ما ذكره، فإن اللغويين عامة قد تصدوا تمام التصدي لتحديد الموضوع له، كما أن من شأن اللغوي تحديد الموضوع له، ويظهر ذلك جلياً بتتبع كتب اللغة، فإننا نجد عموماً ـ إلا النادر ـ وباستقراء شبه تام ما يدل على مدعانا؛ فإن اللغويين لا يفسرون بالمجازات، ولا يذكرونها كمعانٍ للألفاظ، بل يذكرون المعاني الحقيقية فقط، ويكفي في هذه العجالة أن تلاحظوا الكلمات التالية، فمثلاً: القمر يذكره اللغويون بمعناه الحقيقي، وهو القرص المعروف، ولا نجد في كتب اللغة أن من معانيه (مضيء الوجه) مع أنّه مجاز مشهور فيه، وكذلك (البحر) إذ نقول: بحر في علمه، ولا نجد في كتب اللغة تفسير البحر بالعلم، وكذلك لفظ الأسد؛ إذ لا نجد الرجل الشجاع مذكوراً في جملة معانيه في كتب اللغة.. وهكذا سائر الألفاظ المجازية المعروفة، ولذا فإن تلك الدعوى غير تامة؛ فإن اللغوي في كتابه يذكر المعنى الحقيقي فقط.
كما أن السيد الوالد (قدس سره)صرح بذلك أيضاً فقال: واللغوي لا يذكر المجازات إلا مع الإشارة إليها [10]، أي: مع الإشارة إلى أن هذا المعنى مجازي.
الدليل الثاني: إنّ اللغوي ليس من أهل الخبرة في الوضع؛ وإنما هو من أهل الخبرة في المستعمل فيه، وهذا إشكال صغروي أيضاً، ويختلف عن الأول بأنه حتى لو فرض كون اللغوي أهل خبرة فإنه لم يتصدّ في كتابه اللغوي لبيان الموضوع له، بل تصدى لبيان موارد الاستعمال فقط.
وفيه أن اللغوي هو من أهل الخبرة [11]، بل هو الأكثر خبرة وخبروية من أي شخص آخر أو جهة أخرى؛ حيث إنّه قد صرف سِنيّ عمره الطويلة، ولعله كل عمره في تتبع اللغة ومفرداتها وجذورها  وتفريعاتها ومعانيها[12]، وإذا لم يكن أهل اللغة خبراء في الألفاظ وما وضعت له، فمَن هم أهل الخبرة بذلك؟
ومما يدل على ذلك الرجوع لأجل معرفة اللغات الأخرى إلى أهل اللغة عند إرادة التعرف على معاني الكلمات وما وضعت له[13].
الدليل الثالث: أن كتب اللغة لم توضع لبيان الموضوع له، بل لبيان ما يستعمل فيه اللفظ حقيقة كان أو مجازاً ؛وإلا لزم كون جميع الألفاظ المستعملة في اللغة العربية ـ إلا النادر ـ مشتركاً لفظياً؛ لأن اللغويين يذكرون للفظ واحد معاني كثيرة، وهو مقطوع البطلان[14].
وفيه :أن اللازم فيه أعم من التالي الفاسد المذكور[15]، حيث إنه لا يلزم من المقدَّم خصوص ما ذكره من اللازم؛ لأن اللازم - وهو الاشتراك-  أعم من كونه اشتراكاً لفظياً أو معنوياً، فلا يلزم خصوص الاشتراك اللفظي المدعى[16]، فالمقدم الذي ذكره السيد الخوئي لا ينتهي إلى خصوص الاشتراك اللفظي ليلزم من القطع ببطلان التالي بطلان المقدم.
بل الظاهر أن تعدد المعاني هو لكونها أصنافاً للموضوع له، وكونها بنحو الاشتراك المعنوي، أي: إن الوضع كان للجامع، وهذه المعاني المتعددة كلها فروع ومصاديق له، وقد بينا بأن ذلك هو مقتضى الحكمة، ومقتضى دأب الحكيم في الوضع، كما يدل على ذلك مراجعة الكتب اللغوية المتعددة، كمعجم مقاييس اللغة، وكتاب الفراهيدي[17] وغيرها[18].

------------
[1] سورة لقمان: 6.
[2] وهو الذي نصير إليه.
[3] والمقصود به خصوص اللهو واللعب.
[4] سورة لقمان آية 6.
[5] دون المعنى الأخص ،وهو اللهو المتعارف للعبث كالمزامير وما أشبه .
[6] كما في  قوله تعالى: ﴿ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾، فـ{اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} مورد وليس بقيد للربيبة؛ وإنما هو مورد أكثري، فإن الأكثر في زواج الإنسان من المرأة أن تنتقل بناتها غير المتزوجات معها إلى البيت الجديد، فكأنهن في حِجره.
[7] وهذه الأدلة ذكرها الميرزا النائيني والسيد الخوئي قدس سرهما.
[8] فوائد الأصول: ج3ص143 ونص عبارته: >لأن أهل اللغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي، بل هو من الأمور الحسية.
[9] مصباح الأصول2: 132.
[10] الأصول: 640.
[11] هذا رد لما جاء في المصباح في الدليل الثاني : بأن اللغوي  ليس من أهل الخبرة.
[12] لو أثبتنا أن اللغوي متصدّ للوضع, وقد أثبتنا ذلك فيما مضى.
[13] فقه الرشوة : ص 395 ، مع بعض الاختصار.
[14] انظر: مصباح الأصول : ج2ص 132.
[15] وإلا لزم أن تكون جميع الألفاظ المستعملة إلا النادر ـ مشتركاً لفظياً حيث ذكر اللغويون للألفاظ معاني كثيرة، وعليه ستكون هذه المعاني من المشتركات اللفظية وسيكون غالب لغة العرب هكذا، وهذا مقطوع البطلان .
[16] بل وقد بينا سابقاً أن الواضع الحكيم يضع بوضع واحد للجامع، وتعدد الوضع هو لغو.
[17] وهو معاصر للإمامين الصادق والكاظم ، وقد توفي عام 170 أو 175 هـ .
[18] المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول : ص 280.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2808
  • تاريخ إضافة الموضوع : 7 المحرم الحرام 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29