بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(253)
إذا كان موضوع أصل التخيير عدم الرجحان
سبق البحث عن النسبة بين الأمارة وأصل التخيير لو كان موضوعه (التحيّر) بصوره المختلفة، وأما لو قلنا بأن موضوع أصالة التخيير هو (عدم الرجحان) والذي يساوي التكافؤ، فإن الأمارة تارة تكون واردة عليه وأخرى حاكمة ، وذلك مبنيٌ على تحديد المعنى المراد من (عدم الرجحان) اذ هناك احتمالان:
الأول : أن يكون المراد من عدم الرجحان عدم (الرجحان الواقعي)، أي التكافؤ الحقيقي الثبوتي بين الخبرين.
الثاني : أن يكون المراد منه (عدم الرجحان الشرعي)، أي تكافؤهما شرعاً.
أ- إذا أريد (عدم الرجحان الواقعي) فالأمارة حاكمة
فعلى الأول: تكون الأمارة حاكمة، وذلك لأن الأمارة الظنية لا تثبت الرجحان الواقعي تكويناً حقيقة، كما انها لا تنفيه حقيقة اي لا تثبت التكافؤ الواقعي حقيقة، بل تثبت الرجحان او التكافؤ أو تنفيهما تنزيلاً بمتمم الجعل و الكشف أو بإلغاء احتمال الخلاف، على الخلاف، فلو دلت الأمارة على أن هذا هو خبر الأوثق الأعدل أو إنه الخبر المشهوراو دلت على ان الاوثقية والشهرة مرجحة واقعاً، لم يتحول ثبوتاً الخبر إلى خبر الأوثق أو الأشهر والمشهور ولم يتحول إلى الأرجح ثبوتاً وواقعاً ولم تتحول الشهرة والاوثقية إلى مرجح واقعي بقيام الأمارة على كونها مرجحة واقعا، كما لو دلت على أنهما في الوثاقة سيان أو في الشهرة متساويان أو ان الاوثقية والشهرة غير مفيدة للترجيح، لم يتحولا تكويناً كذلك (كما كان اللابيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان، يرتفع حقيقة بمجئ الامارة؛ لأنها بيان) بل غاية الأمر أن الأمارة أفادت ذلك وكشفت عنه وحيث كان كشفها ناقصاً؛ لفرض كونها ظنية، فإنها تثبت التكافؤ الذي هو موضوع التخيير أو الترجيح الذي هو موضوع التعيين تنزيلاً وهو معنى الحكومة.
ب - وإذا أريد عدم الرجحان الشرعي فالأمارة واردة
وعلى الثاني: تكون الأمارة واردة على أصل التخيير؛ لوضوح أنه لو أريد به الشرعي، بأن كان حقيقة شرعية، فإن أمره بيد الشارع فلو دلت الأمارة على الترجيح أو التكافؤ (اي ان كذا مرجح او غير مرجح) لدلت على أمر شرعي فيتحقق تكويناً قهراً ببركة الأمارة وهو معنى الورود الذي سبق أنه (أن يزيل أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقةً، بعناية التعبد) وقد أزالت الأمارة الدالة على الترجيح الشرعي أي على عدم التكافؤ موضوع أصالة التخيير الذي هو عدم الترجيح الشرعي، حقيقةً.
والمستظهر انه لا حقيقة شرعية للترجيح والتكافؤ وليست المرجحات شرعية، بل هي مرجحات واقعية عقلائية كشف عنها وامضاها الشارع.
وإن كان المرجح قطعياً، فالتخريج
نعم، لو كان المرجح من المستقلات العقلية كما لو قيل بأن الترجيح بالأوثقية[1] مما يستقل به العقل، أو كان المرجح مما ثبت بدليل نقلي قطعي كنصٍ متواتر فرضاً، فإنه يكون متقدماً على أصالة التخيير بالتخريج لا بالورود ولا بالحكومة؛ لأنه يزيل عدم الرجحان حقيقة تكويناً لا بعناية التعبد؟ لفرض أن المستقل العقلي حكم عقلي قطعي لا مجال لجعل حجيته بل حجيته ذاتية فلا مجال للتعبد فيه.
التحقيق: موضوع التخيير عدم الرجحان لا التحيّر
ثم إن التحقيق يقتضي الذهاب إلى أن موضوع أصالة التخيير هو (عدم الرجحان) أي عدم رجحان أحد الخبرين أو مطلق المتعارضين على الآخر ، او فقل: موضوعها التكافؤ بين الخبرين، وأن (التحير) ليس هو الموضوع بل هو ظرف، من غير فرق بين أصالة التخيير العقلية أو النقلية:
أما العقلية: فلوضوح أن السبب الداعي إلى الحكم بالتخيير، عقلاً هو تكافؤ الدليلين وعدم رجحان أحدهما على الآخر، فإنه إذا رجح على الآخر كان اللازم تعينه للعمل به، و كونه هو المتعين للحجية، وأما اذا لم يرجح احدهما على الآخر فلا مناص من حكم العقل لذلك بالتخيير بين الخبرين اذا لم نقل بالتساقط (كما هو المنصور من ان العقل مستقل بالتخيير لدى التعارض والتكافؤ وانه الاصل الاولي، لا بالتساقط) لا لاجل التحير؛ ولذا لو فرض الانفكاك بينهما وجدنا حكم العقل بالتخيير يدور مدار وجود المرجح وعدمه، لا مدار التحير وعدمه.
الدليل على أن موضوع التخيير الشرعي هو عدم الترجيح
وأما النقلية: فقد يتوهم في بادئ النظر صلاحية روايات التخيير للانطباق على كلا الاحتمالين، مثل سؤال السائل عن الإمام الرضا (عليه السلام): (تَجِيئُنَا الْأَحَادِيثُ عَنْكُمْ مُخْتَلِفَةً)[2] وسؤاله من الإمام الصادق (عليه السلام): (يَرِدُ عَلَيْنَا حَدِيثَانِ وَاحِدٌ يَأْمُرُنَا بِالْأَخْذِ بِهِ وَ الْآخَرُ يَنْهَانَا عَنْهُ)[3] وفي المقبولة (َأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ)[4] وغيرهما فإنه يحتمل أن يكون السؤال لتحير السائل، فحيث تحيّر تخيّر، ويحتمل أن يكون لتكافؤهما، إذ لو كان أحدهما أرجح لما كان مجال للسؤال، فأجاب الإمام بأنه يتخير حينئذٍ، وإن كان يمكن الجواب بأن السائل بدواً لعله تحير حتى في المتراجحين وما هو حكمهما فكان السؤال أعم من صورة التكافؤ (فعاد المحور للتحير) أو أنه غفل عن وجود الاحتمالين فسأل، فتأمل.
وعلى أية حال فإن في جواب الإمام عليه السلام غنىً فإن ظاهر أجوبة الإمام (عليه السلام) أنه أناط التخيير سلباً وإيجاباً بوجود المرجح وعدمه، فإذا وُجِد فعَليهِ العمل بالراجح وإن انتفى تخيّر، فالمدار في كلامه عليه السلام على خصوصيات الراوي[5] والرواية من التكافؤ أو التراجح، لا على صفة السامع النفسية من أنه متحير أو لا.
ألا ترى كافة مقاطع المقبولة وأنها بنيت على ذلك كقوله (عليه السلام) (الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَ أَفْقَهُهُمَا وَ أَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أَوْرَعُهُمَا، وَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ)[6] فما لحقه من الارجاع لمرجح آخر (كالشهرة) عند تكافؤ الروايتين في المرجحات السابقة، بل حتى السائل، فإنه فهم من جواب الإمام (عليه السلام) أن المدار على صفات الرواية وخصوصيتها لا على حالته النفسية؛ ولذا سأل مثلاً (قلت: فانها عدلان مرضيان عند اصحابنا ليس يفضل واحد منهما على صاحبه) و (فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم...) أي ماذا لو تكافئا من هذه الجهة أيضاً ؟ فأجابه الإمام بمرجح آخر[7] وهكذا وصولاً إلى صورة فقد المرجحات كلها فالارجاء كما في المقبولة والتخيير كما في المرفوعة (إذاً فتخير احدهما فتأخذ به وتدع الآخر)
وتمام تحقيق الكلام في ذلك موكول إلى مبحث أصالة التخيير بإذن الله تعالى.
وللحديث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قَالَ الإمام السجاد (عليه السلام) : (مَنْ ثَبَتَ عَلَى وَلَايَتِنَا فِي غَيْبَةِ قَائِمِنَا، أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ أَلْفِ شَهِيدٍ مِثْلِ شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَ أُحُدٍ)[8].
[1] - أو ببعض درجاتها والظاهر الترجيح تعيينا ببعض درجاتها وترجيحاً ببعضها الآخر.
[2] - وسائل الشيعة (ج : 27 ، ص : 121، حديث رقم 33373) اصدارات نور النسخة الليزرية
[3] - وسائل الشيعة (ج : 27 ، ص : 122، حديث رقم 33375) اصدارات نور النسخة الليزرية
[4] - مستدرك الوسائل (ج : 17 ص : 303) اصدارات نور النسخة الليزرية
[5] - بناء على ارجاع صفات الحكم في المقبولة الى صفات الراوي لاستناد الحاكم الى الرواية.
[6] - تهذيب الأحكام (ج : 6 ص : 302) اصدارات نور النسخة الليزرية
[7] - موافقة الكتاب ومخالفة العامة.
[8] - بحارالأنوار (ج : 52 ص : 125) اصدارات نور النسخة الليزرية
|