بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(245)
تعليل نفوذ حكم الفقيه حتى إذا علم خطأه، بانه صانع للواقع
كما علل البعض التفصيل السابق بان الفقيه تارة يقصد من حكمه تنجيز الواقع والإيصال إليه ولا غرض آخر له، كما في الحكم بالهلال، لذلك لا ينفذ حكمه لو عُلِم خطأه أو خطأ مستنده.
وتارة يقصد إيجاد الواقع وصنعه عبر إنشاء الحكم، كتوحيد كلمة المسلمين بحكمه مثلاً أو كإيجاد تسعير معين للبضائع حيث لا وجود له وإنما الفقيه بحكمه يوجده، فينفد حكمه هنا حتى إذا علم خطأ مستنده إذ الفقيه حينئذٍ ليس حاكياً عن الواقع ليكون القطع بخطأه مانعاً عن نفوذ حكمه بل هو موجد لواقع جديد فيجب إتباعه.
المناقشات
لكن هذا التفصيل باطل؛ إذ يرد عليه:
أولاً: انه خلط بين باب التزاحم وباب الولاية
أولاً: انه خلط بين باب التزاحم أو وجود ملاك معين فقط، وبين باب الولاية، والكلام إنما هو عن كون نفوذ حكم الفقيه إذا علم خطأه أو خطأ مستنده في كلا القسمين، من باب الولاية لا ألتزاحم والأهم والمهم. توضيحه:
ان حاصل كلامه هو: ان الحاكم الشرعي لو أصدر حكماً بالجهاد مثلاً مستنداً إلى قراءة خاطئة للواقع كتقارير رفعت إليه واطمأن بها بان العدو المجاور بيّت نية الهجوم المباغت فأصدر حكماً بالجهاد، وعلم الفقيه الآخر أو المقلد بان التقارير خاطئة قطعاً أو كاذبة عمداً فان مخالفة الفقيه الآخر أو المقلد لا تصح إذ في تجويزها ضرر أعظم – حسب ما قاله – إذ يلزم منه – فرضاً – انكسار الجيش الإسلامي وهزيمته أمام الأعداء مما يسبب قتل مليون مسلم مثلاً أما الالتزام بحكمه فيستوجب شهادة مائة ألف مسلم مثلاً فيجب الامتثال له.
وفيه: إضافة إلى انه أخص من المدعى إذ قد يكون العكس فعليه الالتزام بعدم نفوذ حكم الفقيه حينئذٍ، ان السبب في وجوب الالتزام بحكمه حينئذٍ هو وجود المزاحم الأهم والمفسدة الأعظم بترك الجهاد لا ولايته؛ ولذلك يجب الجهاد في مثل هذه الصورة حتى لو أصدر الحكمَ حاكمٌ فاسق قطعي أو كافر أو ناصبي كصدام مثلاً، وهل يعقل القول بولايته؟ فوجوب الالتزام بقتال العدو إذا لزمت من المخالفة انكسار الجيش الإسلامي وقتل الأضعاف حينئذٍ ولزم من الموافقة والامتثال قتل الأقل الأقل مثلاً، لو تمّ فإنما هو للمزاحم الأهم ومن باب دفع الأفسد بالفاسد.
ثلاثة أنواع لحكم الفقيه وأحكامها
والتحقيق ان حكم الفقيه قد يكون بلا ملاك أصلاً، وقد يكون بملاك مرجوح مزاحَم بالأهم، وقد يكون بهلاك أهم.
فالأول: كما لو قطع الفقيه بكون فئة مسلمة مسالمة فئة باغية فحكم بالجهاد وقتالهم.
والثاني: كالمثال السابق([1]) لو فرض ان العدو كان ممن يصح جهادهم وكانت مفسدة القتال معه أعظم من مفسدة تركه (ومخالفة الفقيه الحاكم) أي كانت مفسدة العمل بحكم الفقيه أعظم من مفسدة مخالفته.
والثالث: كما لو قطع بوجوب جهاد عدو وكان في ترك الالتزام بحكمه مفسدة أعظم فانه يجب الالتزام حينئذٍ حتى على الفقيه الآخر، لا لولاية الأول بل للتزاحم كما سبق؛ ولذا لو أصدر هذا الحكم (من النوع الثالث) جائر أو كافر، لوجب العمل والانقياد.
ثانياً: النقض بالهلال والحل بان الوحدة على الباطل باطل([2])
ثانياً: النقض بان الهلال كذلك (أي كالشق الثاني من كلامه([3])) فلو حكم بالهلال (الذي عدّه من القسم الأول) لتوحيد كلمة المسلمين وجب على الفقيه الآخر القاطع بخطأه أو خطأ مستنده الالتزام به حفظاً للوحدة، مع انه لا يلتزم به، على انه لو التزم به أجيب بوجهين:
الأول: بان الوحدة على الباطل لا رجحان شرعاً لها ولا عقلاً بل هي مرجوحة، أرأيت لو ان الناس اتحدوا على سفك دم محقون الدم أو هتك عرض مؤمنة أو سرقة مال محترم فهل وحدتهم تقلب الباطل حقاً؟.
الثاني: سلمنا لكن الوحدة إحدى الملاكات([4]) فيجب لدى تزاحمها مع ملاكات أخرى كالعدالة والإيمان وغيرها ملاحظة الأهم فعاد الأمر إلى باب التزاحم والأهم والمهم، مما يعم حتى الحاكم الجائر بل الكافر، فلم يكن من باب الولاية في شيء.
ثالثاً: أدلة ولاية الفقيه لا تشمل صورة العلم بخطأه
ثالثاً: إن أدلة ولاية الفقيه، على فرض تماميتها، قاصرة عن الدلالة على شمول ولايته حتى لما لو قطع الناس أو الفقيه الآخر بخطأه فان القطع حجيته ذاتية وأدلة الولاية ظنية، بل حتى لو كانت قطعية فان القاطع بالخلاف لا يعقل تكليفه بخلاف قطعه، فتأمل.
ثم ان دعوى موضوعية حكمه في الصورة الثانية وكونه صانعاً للواقع دعوى بلا دليل، بل على خلافها العقل ومرتكز المتشرعة؛ ألا ترى ان الفقيه لو حكم بقتل مؤمن محقون الدم كسلمان مثلاً متوهماً انه كافر حربي وتوهّم ان به الوحدة الإسلامية وقطع الفقيه الآخر بانه مخطئ وان هذا الرجل من الأولياء وليس كافراً حربياً وان بقتله سوف تنهار دعائم الوحدة ويشتد الخلاف بين المسلمين مثلاً فهل يجوز امتثال أمره وقتل ذلك الولي بدعوى موضوعية حكم الفقيه وانه صانع للواقع؟ بل حتى لو فرض ان بقتله كانت تتحقق الوحدة فانه يدخل – كما سبق – في باب التزاحم بين قتل المؤمن والوحدة فيرجّح الأهم منهما، وليس ذلك خاصاً بحكم الفقيه بل حتى لو صدر ذلك من الحاكم الكافر أو من المستعمر الجائر كان كذلك كما سبق، على ان قتل المؤمن مفسدته أعظم من مصلحة الوحدة في حد ذاتها (مع قطع النظر عن طريقيتها لما قد يرجح على القتل كما لو سبّب الخلاف والاختلاف قتل الألوف وكان بها حفظهم، وتوقف ذلك فرضاً على قتل مؤمن – لو سلمنا صحة ذلك) قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)([5]) واللسان مما يأبى عن التخصيص بالوحدة بما هي هي.
والحاصل: ان أدلة ولاية الفقيه على فرض تماميتها لا تدل على أكثر من ولايته على مقلديه لا على مقلدي سائر المراجع ولا على سائر المراجع([6])، وولايته على مقلديه أيضاً لا تشمل صورة علمهم بخطأه فان العلم حجيته ذاتية وحديث الموضوعية وهمٌ لا يساعده نقل ولا عقل.
وكذلك الحال لو سعّر الفقيه فانه لو علم المكلف ان تسعيره مضر بالمآل فرضاً بالفقراء وباقتصاد البلد وجب عليه ان لا يعتني به بل عليه ان يكسر أمره ويجبره على تغييره، اللهم إلا لو لزم الهرج والمرج فانه ملاك مزاحم أقوى وكما سبق فانه أولاً أخص من المدعى وهو ثانياً غير خاص بالفقيه الولي بل عام حتى لفساق الحكام. إضافة إلى ان حكم الفقيه لو لزم منه الهرج والمرج لزم عصيانه.
رابعاً: الحكم لأكثرية الفقهاء لا للفقيه الحاكم
رابعاً: سلمنا: لكن مقتضى القاعدة هو ان الرأي حينئذٍ لأكثرية شورى الفقهاء لا للفقيه الحاكم أو غيره وذلك لأدلة الشورى كقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([7]) لكونها حاكمة على أدلة التقليد وعلى أدلة الحكم في الشؤون العامة، كما فصلنا وجه الحكومة في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية)([8]) فراجع وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وسيأتي البحث عن انه على هذا التفصيل وغيره فهل أدلة ولاية الفقيه حاكمة على الأدلة الأولية والثانوية أو هي واردة أو مخصصة أو نقول بالتخريج أو بالتخصص؟ فهذه احتمالات خمسة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
===================
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا وَفَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وَبَصَّرَهُ عُيُوبَهَا، وَمَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"
الكافي: ج2 ص130.
......................................................................
([1]) العدو الذي قطع بتبييته نيه الهجوم.
([2]) إضافة إلى ان الوحدة احدى الملاكات فقط كما سيأتي.
([3]) الحكم الوَلَوِي الصانع للواقع.
([4]) فصلنا الكلام عن ذلك في بعض البحوث.
([5]) سورة النساء: آية 93.
([6]) فصلنا ذلك في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع.
([7]) سورة الشورى: آية 38.
([8]) (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) مؤسسة البلاغ – ط 4، 1438هـ ص479-492 (في ملخص النسبة بين أدلة الشورى والحكومة وأدلة التقليد) وراجع ص47-76 (الاستدلال ببرهان الدوران والترديد).
|