بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(237)
ب- الحظر الظاهري (نسبته مع حسن العقاب ببيان واصل إجمالاً)([1])
ثانياً: إذا أريد بالحظر والإباحة في أصالة الحظر أو الإباحة، الحظر الظاهري أو الإباحة الظاهرية، مما كان موضوعه الشك، فان نسبته مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو نقيضها ([2]) هي نسبة المدَّعى ([3]) إلى الدليل لا نسبة دليل إلى دليل آخر أو أمارة أو أصل إلى أمارة أو أصل آخر فان (قبح العقاب بلا بيان) هو الدليل على البراءة أو الإباحة الظاهرية، وحسن ([4]) العقاب مع البيان الواصل ولو وصولاً احتمالياً (أي ما كان محتمل الصدور أو الوصول) ([5]) هو الدليل على الحظر الظاهري، ولا يعقل في المدعى ودليله ان يقال بان النسبة هي الورود أو الحكومة أو التخصيص أو غيرها فان مقسم هذه قسيم لمثل المدَّعى مع دليله.
الاستدلال على البراءة بقبح التكليف بما لا يطاق
ويوضح ذلك أكثر: ان أصالة الإباحة أو البراءة الظاهرية قد يستدل عليها بغير قاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما استدل عليها بعض أعاظم القدماء، كالسيد ابن زهرة، بقاعدة (قبح التكليف بما لا يطاق) بدعوى ان ما لا يعلم من الشرع لا يمكن امتثاله؛ ألا ترى ان الصلاة مثلاً لو لم يَرِد من الشرع بيان أركانها وأجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها.. الخ لما أمكن الإتيان بها؛ إذ المحتملات في مثل هذا المركب تتجاوز الملايين بل الأكثر، فدليل البراءة أو الإباحة لدى هؤلاء هو انه لولا الإباحة، أي لو حكم بوجوب فعلِ كلِّ محتمل الوجوب كالصلاة والحج وبحرمة كل محتمل الحرمة كحرمة مقاربة الزوجة في الحيض مثلاً، للزم تكليف ما لا يطاق.
وليس الكلام عن صحة استدلاله إذ لا يخفى ضعفه لأنه أخص من المدعى ولغيره، بل الكلام عن ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي من الأدلة، إن تمت، على أصالة الإباحة أو البراءة وليست هي هي ولا هي مدّعىً قسيم بشهادة وجود دليل آخر قسيم لها على المدعى نفسه فتدبر.
نسبة أصالة الإباحة مع البراءة
هذا كله لو لاحظنا نسبة أصالة الحظر أو الإباحة مع قبح العقاب بلا بيان، أما لو لاحظنا نسبتها مع أصالة البراءة فكلاهما مدّعى وكلٌ منهما قسيم الآخر، وليست البراءة الظاهرية هي عين الإباحة الظاهرية ولا الحظر الظاهري هو عين الاشتغال الظاهري؛ وذلك لأن الإباحة هي صفة الفعل إذ يقال هذا الفعل مباح، والبراءة صفة الذمة إذ يقال ذمته غير مشتغلة بكذا.
وبعبارة أخرى الإباحة صفة الشيء أو الفعل والبراءة صفة الفاعل فيقال هذا الفاعل بريء ([6]).
وبعبارة ثالثة أدق: الإباحة صفة الفعل بلحاظ نسبته إلى الفاعل والبراءة صفة الذمة منسوبةً إلى الفعل.
وبعبارة رابعة: الإباحة هي الوجه الذي يلي الفعل وان لازم ([7]) النسبة للفاعل، والبراءة هي الوجه الذي يلي الفاعل وان لازم النسبة إلى الفعل.
وبذلك يظهر ان الإباحة الظاهرية سابقةٌ رتبةً على البراءة الظاهرية، غاية الأمر دعوى التلازم بينهما.
تنبيه: قاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعها (العقاب بلا بيان) وليس (التكليف بلا بيان) فان التكليف سابق رتبة على البيان والتكليف من عالم الثبوت (بوجوده الإنشائي والفعلي) والبيان من عالم الإثبات ولا يعقل توقف عالم الثبوت على عالم الإثبات، وتسلسل الثلاثة هكذا (التكليف، فالبيان، فالعقاب) فتأمل
ج- الحظر المرآتي (ونسبته مع البراءة الظاهرية)
ثالثاً: إذا أريد بالحظر أو الإباحة المرآتي منهما على أن يكون كل منهما (إذا صرنا إليه) أمارة على الواقع وكاشفاً نوعياً عنه كما سبق بيانه، فان نسبتها مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي الحكومة أو الورود على حسب تحديد المقصود من البيان في القاعدة.
وعليه: فالإباحة المرآتية حاكمة (لا واردة) على البراءة الظاهرية لو كان موضوع البراءة الظاهرية هو الشك ([8]) لأن الإباحة المرآتية تزيله تنزيلاً فهي حاكمة إذ لا تزيل الشك حقيقة بعناية التعبد كي تكون واردة ولا انها تزيله حقيقة تكويناً لا بعناية التعبد كي تكون من الخروج التخصصي أو مما اسميناه بـ(التخريج) ([9]).
نعم لو عُمِّم البيان إلى الحجة الشرعية أو العقلية والشرعية لكانت الإباحة المرآتية واردةً؛ إذ تزيل الإباحةُ المرآتية اللابيانَ حقيقةً لكن بعناية التعبد إذ الإباحة المرآتية أمارة وقد تعبدنا بحجيتها.
إلا أن يقال: بان مدار البحث على الإباحة المرآتية بحكم العقل لا بحكم الشرع، ولا مجال في أحكام العقل للتعبد فالمرآتية متقدمة على البراءة العقلية بالتخصص (والأصح التخريج) ([10]) لا بالورود إذ لا تعبد فيها فقد أزالت موضوع البراءة حقيقةً لا بعناية التعبد.
جريان التعبد في العقليات
وفيه: ان ذلك قد يصح على مسلك المشهور من انه لا تعبد في العقليات، لا المنصور فان المختار هو جريان التعبد في العقليات كالشرعيات.
توضيحه: ان العقل إذا انكشف له الواقع انكشافاً تاماً حكم حكماً قطعياً ولا مجال حينئذٍ للتعبد، لكنه إذا انكشف له الواقع انكشافاً ناقصاً ظنياً بظن قوي أو مطلقاً فانه يحكم حكماً ظنياً استناداً إلى قبح ترجيح المرجوح وحسن ترجيح الراجح، ولا يحكم بالظني إلا مع تتميمه الكشف فلا مناص من التعبد إذا كان الحكم بإتباع الظن إلزامياً رغم نقض كشفه. فتأمل ([11])
للعقل أحكام ظنية، وهي مسرح التعبد
ومبنى البحث هو مسألة اختلفنا فيها مع المشهور إذ انهم ذهبوا إلى ان أحكام العقل كلها قطعية وانه إذا انكشف له الواقع أو وجه الحكم انكشافاً تامة حكم وإلا سكت، ونحن نرى انه إذا انكشف له وجه الحكم أو الواقع انكشافاً تاماً حكم حكماً قطعياً وان انكشف له انكشافاً ظنياً حكم حكماً ظنياً وذلك استناداً إلى الوجدان وإلى قاعدة حسن (أو وجوب) ترجيح الراجح وغيره مما فصلناه في بعض المباحث مع بعض مناقشاته، وإن لم ينكشف له أبداً تحير وسكت على اننا ذكرنا في بحث حجية الاحتمال الضعيف انه مما تترتب عليه بعض الآثار والأحكام العقلية فراجع كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها) وغيره والله العالم الهادي.
توقف الاجتهاد على الاجتهاد في مبادئ الاستنباط
إلفات: ذكرنا في كتاب (مبادئ الاستنباط) ان المنطق من مبادئ الاستنباط وبحثنا هناك عن توقف الاجتهاد ([12]) في الفقه والأصول على الاجتهاد في مبادئ الاستنباط القريبة أو البعيدة (كالاجتهاد في النحو والصرف والمنطق والكلام مما يقع طولياً في طريق استنباط الحكم الأصولي أو الفقهي) وعدمه فراجع، والشاهد هنا ان المستظهر ان بعض الأصوليين أخذ قاعدة أن أحكام العقل كلها قطعية وانه لا يوجد له حكم ظني من بعض كلمات الفلاسفة والمناطقة، من غير ان يجتهد في المسألة، ثم سرت إلى الكتب الدراسية فتلقيت كأصل مسلّم، مع ان مقتضى القاعدة (سواء أقلنا بمدخلية ذلك في أصل الاجتهاد أم في الأعلمية أم العدم) هو الاجتهاد في أية قاعدة منطقية أو فلسفية أو نحوية أو غيرها إذا ابتنى عليها طولياً استنباط الحكم الفقهي أو الأصولي.
والذي بدا لنا أن القليل من الفقهاء والأصوليين هو مجتهد في مبادئ الاستنباط تلك، نعم هم عالمون بتلك العلوم لكن أين المعرفة بالعلم عن الاجتهاد فيه؟ ألا ترى ان من درس اللمعة او الشرائع أو حتى المكاسب عالم بما فيه لكنه أعم من كونه مجتهداً ذا ملكة. والبحث في هذا الحقل طويل الذيل فلنكتف منه بهذا القدر والله المستعان.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "ثَلَاثَةٌ هُمْ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَةٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَى أَنْ يَحِيفَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ وَ رَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَعِيرَةٍ وَ رَجُلٌ قَالَ بِالْحَقِّ فِيمَا لَهُ وَ عَلَيْهِ"
الكافي: ج2 ص145.
...............................................
|