بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(226)
مزيد إيضاح وإضافة للمناقشة مع الشيخ حول ثبوت المرتبة الوسطى
ومما سبق ظهر وجه النقاش في قوله قدس سره: (اعلم: أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن. فإن حصل له الشك فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل، وتسمى بـ " الأصول العملية "، وهي منحصرة في أربعة) ([1]) وان الأصح، بناء على ما مضى من ضرورة تخميس الأقسام، هو ان يقال: (فان حصل له الشك فالمرجع فيه هو الظنون النوعية المتوسطة بين الامارات وبين الأصول العملية الصرفة (التي موضوعها الشك الصِرف) وهي الاستصحاب الذي موضوعه ما كان، والاحتياط الذي موضوعه العلم الإجمالي، والتخيير الذي موضوعه الحجتان المتعارضتان كما سيأتي إيضاح هذا الأخير وقد سبق إيضاح سابقيه، فان فقدت فالمرجع البراءة).
كما ظهر وجه التأمل في قوله: (وأما الشك، فلما لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل أن يعتبر، فلو ورد في مورده حكم شرعي - كأن يقول: الواقعة المشكوكة حكمها كذا - كان حكما ظاهريا، لكونه مقابلا للحكم الواقعي المشكوك بالفرض) ([2]) فان وجه التأمل:
أولاً: ان الشك المطلق لا كاشفية فيه، عكس الشك المقيد ولذا أمكن وصح ان يعتبر الأخير بل قد وقع.
مؤدى الاحتياط ليس حكماً ظاهرياً
وثانياً: ليس مؤدى الاستصحاب والاحتياط هو الحكم الظاهري:
اما الاستصحاب فليس حكماً ظاهرياً على مبنى المشهور، وسيأتي.
واما الاحتياط فليس حكماً ظاهرياً مقابلاً للحكم الواقعي؛ إذ الحكم الظاهري هو ما لم يكن لمجراه وموضوعه كشف أصلاً وكان حكماً ثانياً آخر بديلاً عن الحكم الواقعي مماثلاً أو مضاداً وكان حكماً في عالم الإثبات بعد عدم الوصول إلى الحكم الواقعي في عالم الثبوت، اما الاحتياط فقد ظهر مما سبق انه ليس حكماً آخر ولا هو من عالم الإثبات بل هو من عالم الثبوت ولا ان مجراه وموضوعه هو ما لا كاشفية فيه أصلاً إذ موضوعه العلم الإجمالي وهو كاشف في الجملة وكاشفيته في الجملة إنما هي عن الحكم الواقعي لا عن الحكم الظاهري فيجب إتباعه لأن مؤداه هو ان الواقع ههنا وإن كان مردداً بين أمرين، عكس البراءة التي مفادها انه حيث لا يعلم الواقع أبداً فقد رفع.
والحاصل: ان العلم الإجمالي، وهو موضوع الاحتياط ومجراه، كخبر الثقة من جهة الكاشفية إلا ان خبر الثقة كاشف ظني عن الحكم الواقعي والعلم الإجمالي كاشف إجمالي عنه.
ولا يتوهم إذ الاحتياط عمل إذ هو الجمع بين المحتملين أو تركهما ([3]) فكيف يكون كاشفاً؟ إذ يجاب نقضاً: بان الامتثال لخبر الثقة عمل أيضاً فليس بكاشف كذلك، وحلاً: بما سبق من أن المراد ان مجراه وموضوعه هو الكاشف لا نفسه بما هو عمل او انه بلحاظ مجراه وموضوعه كان كاشفاً ظنياً فوق الأصل وتحت الامارة، كما ان الاستصحاب كذلك إذ لا يراد ان نفس اصطحاب الحالة الماضية وسحبها إلى الحاضر، هو الكاشف الظني.
ويرشد إلى ما ذكرناه ([4])، قول الشيخ: (ويسمى الدليل الدالّ على هذا الحكم الظاهري أصلاً. وأما ما دلّ على الحكم الأول علماً أو ظناً معتبراً، فيختصّ باسم الدليل، وقد يقيّد بالاجتهادي. كما أنّ الأوّل قد يسمى بالدليل مقيّداً بالفقاهتي) ([5]).
فالأصل عنده إذاً ليس هو نفس البراءة أو الاستصحاب بل الدليل عليه، فمحط الكلام هو الدليل عليه والدليل على الاحتياط هو العلم الإجمالي أو فقل ([6]) هو اما العقل الحاكم به من باب العلم الإجمالي وهو كاشف، أو مثل (احتط لدينك) الكاشف أيضاً عن أن الواقع حيث كان ههنا ولو احتمالاً أو ولو منكشفاً إجمالاً وجب الجمع، ولكن الأدق التعبير بان المجرى والموضوع كاشف فتأمل.
وقال: (إذ المراد بالحكم الظاهري ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي الثابت له من دون مدخليّة العلم والجهل) ([7]) وقد اتضح ان الاحتياط لدى الشك في المكلف به ثابت بملاحظة العلم بحكمه الواقعي إجمالاً لا بملاحظة الجهل المطلق به وانه ثابت له مع مدخلية العلم والجهل لا من دون مدخليتهما.
وليس مؤدى الاستصحاب حكماً ظاهرياً، كذلك
واما الاستصحاب فقد قال فيه الشيخ: (أنّ عدّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم – نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال – مبنيٌّ على استفادته من الأخبار، وأمّا بناءً على كونه من أحكام العقل فهو دليلٌ ظنّيٌّ اجتهاديٌّ نظير القياس والاستقراء، على القول بهما.
وحيث إن المختار عندنا هو الأوّل، ذكرناه في الأصول العملية المقرَّرة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم، لكن ظاهر كلمات الأكثر – كالشيخ ([8]) والسيدين ([9]) والفاضلين ([10]) والشهيدين ([11]) وصاحب المعالم ([12]) كونه حكماً عقلياً؛ ولذا لم يتمسك أحد هؤلاء فيه بخبر من الأخبار) ([13]).
وهو صريح في ان مبنى الأكثر هو ان الاستصحاب دليل ظني اجتهادي وانه ليس عندهم من (الأصول العملية المقرَّرة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم) بل انه (والاحتياط كما سبق) من الأصول والقواعد المقررة للموضوعات بوصف كونها مظنونة الحكم (في الاستصحاب) ومنكشفة الحكم إجمالاً (في الاحتياط)، فليس حكماً ظاهرياً بل هو كاشف ظني عن الواقع.
نعم ينبغي إكماله بان الاحتياط والاستصحاب وإن كان امارة لكنها في رتبة أدون من الامارات المعهودة (كخبر الثقة والبيّنة والفتوى) لذا تتقدم تلك عليها، وهي في مرتبة أعلى من البراءة لذا تتقدم هي عليها (على البراءة).
تتميم: الاحتياط في الشك في التكليف أصل أو أمارة
سبق: ان الاحتياط إما أصل وإما أمارة وانه: أصل إن أريد ما لو كان مجراه الشك في التكليف، وأمارة لو أريد ما كان مجراه الشك في المكلف به، وتفصيل الأول:
ان الدليل على لزوم الاحتياط في الشبهات الحكمية في الشك في التكليف ان كان هو مسلك حق الطاعة، كان أصلاً؛ إذ لا يفيد هذا المسلك (الانطلاق من منطلق مقتضيات العبودية) إلا الجري العملي ولا كاشفية فيه عن الحكم الواقعي.
وكذلك لو كان الدليل هو برهان الغرض فانه كذلك فيما لو احتمل وجود غرض ملزم، فتدبر
واما لو كان الدليل النقل فان كان مثل "فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَات" ([14]) فكذلك إذ انه صريح في الوقوف وانه حيث لا يعرف الواقع أبداً فليقِفْ، فهو حكم ظاهري، وكذلك لو كان المدرك (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)([15]) فانه أصل، عكس ما لو كان المدرك (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)([16]) فان الاحتياط يكون، عليه، امارةً وذلك نظراً لتشخيص الآية للموضوع وانه تهلكة فهو مرآة للواقع إذاً ولو بنحو كلي إجمالي. فتأمل
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
======================
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "مَرَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليهما السلام) عَلَى قَوْمٍ يَبْكُونَ، فَقَالَ: عَلَى مَا يَبْكِي هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: يَبْكُونَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ، قَالَ فَلْيَدَعُوهَا يُغْفَرْ لَهُمْ"
الأمالي (للصدوق): ص495.
..................................................
|