بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(223)
الفوارق بين الامارة والأصل والمرتبة المتوسطة بينهما
سبق الكلام عن المرتبة الوسطى بين الامارات والأصول، ومزيد التحقيق والتدقيق يظهر ببيان الفوارق بين كل من خبر الثقة وهو من دائرة الامارة والظن المعتبر، وأصل البراءة وهو أصل محض، والاحتياط وهو المدعى انه لا هو بامارة ولا هو بأصل بل أمر بينهما:
فاما خبر الثقة، فهو أولاً: كاشف ظني غالبي عن الواقع، وهو ثانياً: موصِل إعدادي، فان العلم والعلمي من العلل الاعدادية لتحقق المعلوم فلا هو علة إذ العلم ليس علة لحصول المعلوم، ولا هو أجنبي بالمرة، وذلك نظير وضع السلم الذي هو علة إعدادية للكون على السطح، وأما ثالثاً: فان مجراه وظرفه هو الجهل بالحكم الواقعي (فان ظرف الامارة الشك والجهل كما ان موضوع الأصل الشك والجهل) وواضح انه ليس بكاشف ولا هو بموصل.
وأما أصالة البراءة، فلا هي كاشفة ولا هي موصلة للواقع إذ تتكفل بالحكم الظاهري على فرض الجهل الواقع كما ان موضوعها وهو (لا يعلمون) لا هو كاشف ولا هو موصل كما لا يخفى.
وأما الاحتياط، فانه يقع بينهما فله بعض خواص هذا وبعض خواص ذاك، فانه موصل إلى الواقع (بل إيصاله إليه أقوى من إيصال الخبر الظني لأن بالاحتياط يحرز الواقع قطعاً وبخبر الثقة يحرز ظناً) لكنه غير كاشف عنه ([1])، واما مجراه (اي موضوعه الذي يترتب عليه وهو العلم الإجمالي) فانه كاشف عن الواقع إجمالاً كما هو موصل له كذلك.
ورود الإشكال على تقسيمي الشيخ الأوّلين
ثم ان ما ذكرناه من الإشكال على الأعلام وفي مقدمهم الشيخ من ان الاحتياط حيث عدّوا مجراه الشك في المكلف به، خرج عن كونه أصلاً وانهم لو عدوا مجراه الشك به في التكليف كان حينئذٍ أصلاً (بالبيان السابق) إنما يرد على التقسيمين الأوّلين المذكورين أول الرسائل ولكنه لا يرد على تقسيمه الثالث الذي طورّه في أواسط الرسائل والذي اختلف عن الأولين اختلافاً جذرياً فانه سالم عن الإشكال ([2]). بيان ذلك:
ان تقسيمي الشيخ الأولين هما – وكما سبق ([3]) – ((لأن الشك إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.
وعلى الثاني: فإما أن يمكن الاحتياط أم لا.
وعلى الأول: فإما أن يكون الشك في التكليف أو في المكلف به.
فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني مجرى أصالة البراءة، والثالث مجرى قاعدة الاحتياط والرابع مجرى قاعدة التخيير.
وبعبارة أخرى: الشك إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني: إما أن يكون الشك فيه في التكليف أو لا، فالأول مجرى أصالة البراءة، والثاني: إما أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط، والثاني مجرى قاعدة التخيير) ([4]) فعلى كلا التقسيمين جعل مجرى الاحتياط هو الشك في المكلف به.
والملاحظ انهما يشتركان في ان الاحتياط مجراه هو الشك في المكلف به والبراءة مجراها الشك في التكليف، وهو ما أوردنا عليه الإشكال بان الشك في المكلف به إذا كان هو المجرى للاحتياط فهو أمر ثالث متوسط بين الأصل والامارة.
وعدم وروده على النحو الثالث من تقسيمه
لكنه (قدس سره) في تقسيمه الثالث المذكور أول المقصد الثالث عدل إلى تقسيم ثالث أدق من سابقيه فقال: (ثم إن انحصار موارد الاشتباه في الأصول الأربعة عقلي، لأن حكم الشك إما أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه، وإما أن لا يكون سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ، والأول هو مورد الاستصحاب، والثاني إما أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا، والثاني مورد التخيير، والأول إما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإما أن لا يدل، والأول مورد الاحتياط، والثاني مورد البراءة) ([5]) والملاحظ في هذا التقسيم انه لم يذكر الشك في التكليف والمكلف به ولم يجعلهما المدار بل قال: (والأول – أي إذا كان الاحتياط ممكناً - إما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإما أن لا يدل، والأول مورد الاحتياط، والثاني مورد البراءة).
اندراج الأقوال والوجوه الأربع في التقسيم الثالث
وبهذا النحو من التقسيم الأصولي لمجاري الأصول أمكن أن يشمل تقسيمه كافة الأقوال والخلافات المبنوية فيدخل فيه الاحتياط الأخباري في الشبهة التحريمية كما يدخل فيه من يرى الاحتياط مطلقاً لمسلك حق الطاعة كما يدخل فيه غيرهما من الأقوال والاحتمالات إذ لم يخصص الاحتياط بالشك بالمكلف به بل أداره مدار دلالة دليل عقلي أو نقلي على لزوم الاحتياط (إذ قال: على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول) وحينئذٍ أمكن اندراج الأقوال التالية فيه:
1- القول بان الاحتياط في الشبهات التحريمية لدى الشك في التكليف، واجب نقلاً كما ذهب إليه الاخباريون، بل واجب مطلقاً على ما هو مقتضى بعض أدلتهم، استناداً إلى الأدلة النقلية كـ (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)([6]) و (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)([7]) و"فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ" ([8]) فانها، كما ترى، لو تمت دلالتها لأفادت الأعم.
2- القول بان الاحتياط في الشك في التكليف واجب عقلاً على حسب مسلك حق الطاعة.
3- القول بانه واجب حسب برهان الغرض وانه كما ان أوامر المولى واجبة الإطاعة كذلك اغراضه الملزمة لازمة التحقيق ([9])، وكما ان اغراضه الملزمة واجب تحصيلها كذلك اغراضه الحتمية المحتملة، كما لو احتمل سقوط ابن المولى في البئر فان عليه وجوباً الاحتياط باخراج ما سقط ولعله كان حيواناً أو حجارة أو لعله لم يكن شيء بل سمع صوتاً فاحتمل ان ابن المولى سقط فان عليه عقلاً الاحتياط بإخراج ما يحتمل انه الساقط فيه احتياطاً.
وبرهان الغرض، كما ترى، جارٍ في الشك في التكليف كما يجري في الشك في المكلف به.
4- القول بانه واجب في الشك في المكلف به (بشروطه ككونه في الشبهة المحصورة إذا كان أطرافها محل الابتلاء... الخ) وهذا بالذات هو الذي عُدّ مجرى الاحتياط كأصل من الأصول الأربعة، حسب التقسيمين الأوّلين. فتدبر جيداً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
======================
عن الإمام الرضا (عليه السلام): "قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الْعُجْبِ الَّذِي يُفْسِدُ الْعَمَلَ، فَقَالَ: الْعُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْهَا أَنْ يُزَيَّنَ لِلْعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَرَاهُ حَسَناً فَيُعْجِبَهُ وَيَحْسَبَ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعاً، وَمِنْهَا أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ فَيَمُنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَنُّ" الكافي: ج2 ص313.
..................................................
|