بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(217)
أقسام الورود:
ثم ان الورود يمكن تقسيمه بأنحاء:
الورود بجعلٍ من الشارع أو لا بجعل منه
فمنها: ما ذكره المحقق اليزدي بقوله: (ثمَّ إنَّ ورود أحد الدليلين على الآخر قد لا يكون بجعل من الشارع كما إذا ارتفع الشك الذي هو موضوع الأصول بسبب الدليل المفيد للعلم بالواقع؛ فإنَّ العلم لا يحتاج إلى الجعل، وقد يكون بجعل الشارع كما إذا كان موضوع الأصل الحيرة، وكان هناك دليل ظنِّي مثبتٌ للحكم الواقعي، فإنَّه - مع قطع النظر عن جعل الشارع وحكمه باعتبار ذلك الدليل - لا يرتفع التحير الذي هو موضوع الأصل، لكن بعد جعله إيَّاه حجَّة يرتفع حقيقة؛ إذ لا تبقى حيرةٌ بعد وجود ما جعله الشارع طريقا للواقع) ([1]).
أقول: لا بد من التدبر في القول بـ(إنَّ ورود أحد الدليلين على الآخر قد لا يكون بجعل من الشارع) وفي (إنَّ العلم لا يحتاج إلى الجعل) فان المحتملات بدواً في مثل هذا التعبير ([2]) في مثل المقام ثلاثة: فهل المراد ان العلم بذاته لا يحتاج إلى الجعل؟ أو المراد ان حجيته لا تحتاج إلى جعل؟ أو المراد ان وروده لا يحتاج إلى الجعل؟
عدم جعل الشارع بما هو شارع، للعلم
أ- أما العلم فانه ليس بمجعول للشارع بما هو شارع بل هو مجعول بأسبابه فانه حادث فلا بد له من علة وعلة وجوده ليست هي الشارع بما هو مشرّع وإن كان قد يكون هو الشارع بما هو مكوِّن.
ولا لحجيته
ب- وأما حجيته فانها ذاتية له ولا يمكن جعلها له وإلا لزم تحصيل الحاصل وذلك سواء أقلنا بان الحجية تعني الكاشفية فانها ذاتية للعلم إذ هو بذاته تمام الكاشف وإلا لم يكن علماً هذا خلف، أم قلنا بانها تعني المنجزية فانه تمام العلة لاستحقاق العقاب مادام قد تعلق بالواجب الفعلي أو الحرام الفعلي أو فقل مادام قد تعلّق بالحكم الإلزامي، أم قلنا بانها تعني لزوم الإتباع فانه كذلك إذ مادام الحكم إلزامياً قد توفرت فيه كافة الشرائط وانتفت كافة الموانع فإذا وصل للمكلف بوصول تام وهو العلم فلا يعقل ان لا يلزم اتباعه وإلا للزم الخلف أو التناقض.
ولا لوروده على الدليل الآخر
ج- وأما الورود فانه ذاتي أيضاً للعلم يوجد بوجوده ووجود ما موضوعه الشك أو الجهل؛ فانه إذا فرض ان موضوع الدليل الآخر هو الشك فان ورود العلم عليه قهري أي ان رفعه لموضوعه مما لا ينفك عنه، فالمقصود بالذاتي هنا عدم الانفكاك لا ذاتي باب البرهان عكس الكاشفية للعلم فانها ذاتية له بذاتي باب البرهان.
وبما سبق تظهر محتملات قوله: (ثمَّ إنَّ ورود...) فهل المراد الوارد نفسه؟ أو حجيته أو وروده؟ والأخير هو ظاهر العبارة؛ فان وروده (أي العلم) لازم لكاشفيته اللازمة لوجوده فإيجاد الأخير إيجاد طولي لهما بالتبع.
وقال المحقق اليزدي: (وقد يكون بجعل الشارع كما إذا كان موضوع الأصل الحيرة، وكان هناك دليل ظنِّي مثبتٌ للحكم الواقعي، فإنَّه- مع قطع النظر عن جعل الشارع وحكمه باعتبار ذلك الدليل - لا يرتفع التحير الذي هو موضوع الأصل، لكن بعد جعله إيَّاه حجَّة يرتفع حقيقة، إذ لا تبقى حيرةٌ بعد وجود ما جعله الشارع طريقا للواقع).
المحتملات في (الشك) في (الاستصحاب) تسعة بل ضعفاها
أقول: المحتملات في (الشك) الذي هو ركن الاستصحاب وأحد جزئي موضوعه في مثل قوله (عليه السلام): "فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَدا"([3]) وفي (لا يَعْلَمُونَ) الذي هو موضوع أصل البراءة "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعٌ... وَمَا لَا يَعْلَمُونَ"([4]) هي ثلاثة والمحتملات في كل منها ثلاثة فالمجموع تسعة فيما إذا كان المتعلق أو متعلق المتعلق هو الحكم، كما انها تسعة أيضاً إذا كان المتعلق هو الموضوع:
1- الحيرة بأقسامها الست
الأول: ان المراد بـ(الشك) هو (الحيرة) كما ذكره الشيخ نقلاً عن بعضهم ولم يردّه مما ظاهره قبوله، وذلك في بحث سرّ تقدم الأدلة الاجتهادية على الاستصحاب.
والمحتملات في (الحيرة) ثلاثة:
أ- الحيرة في الحكم الواقعي. ب- الحيرة في الطريق إليه أو الحجة عليه. ج- الحيرة في الوظيفة العملية.
ومن الواضح ان الحيرة في الحكم الواقعي قد تبقى مع القطع بالطريق أي مع ارتفاع الحيرة في وجود الحجة فانها أعم من الواقعية والظاهرية، وبذلك سيفرّق بين الحكومة والورود على الوجهين، وسيأتي بحثه.
هذا كله إذا كان متعلق الحيرة هو الحكم أو كان متعلق المتعلق، أما إذا كان الموضوع فالأقسام ثلاثة أيضاً.
2- الشك نفسه بأقسامه الست
الثاني: ان المراد من (الشك) هو (الشك) بنفسه من غير حاجة بل ولا وجه لتفسيره بغيره ثم الدوران مداره؛
المدار لفظ الرواية لا المساوي ولا المرادف
فان الملاك هو اللفظ الوارد في الرواية فيلزم البحث عن دلالاته وعن صدقه بالحمل الشائع وعدمه لا أي لفظ آخر وإن صح الإتيان به للتفسير أو للتقريب إلى الذهن إلا أن اللازم بعد ذلك اتخاذ نفس اللفظ والمصطلح الوارد في الرواية مداراً للبحث لا تكلف إثبات التساوي بل حتى الترادف بينه وبين لفظ آخر ثم الدوران مداره فانه بلا وجه، على انه خاضع لمناقشات بنائية ومبنوية متعددة ومنها انه لا ترادف حقيقي في اللغة ومنها غير ذلك مما ليس البحث منعقداً لأجله.
إضافة إلى ان (الشك) لفظ عرفي لا لبس فيه فلا حاجة لتفسيره بغيره، على ان الحيرة ليست بأوضح منه.
إضافة إلى ان الشك قد يطلق على ما يقابل العلم مما يُعد من حالات العقل أما الحيرة فتطلق على الصفة النفسية وإن صح وصف كل منهما بالآخر ([5]) إلا ان الكلام في المصب، أو يقال بان الحيرة تطلق إذا كان الشخص في مقام العقل العملي والشك يطلق إذا كان في مقام العقل النظري.
ويغني عن ذلك كله، سواء أقبلنا الترادف الحقيقي أو لا، الدوران مدار لفظ الشك الوارد في الرواية من غير حاجة إلى الدخول في متاهة النسبة بينه وبين الحيرة.
وعلى أي فان الشك أيضاً تحتمل فيه الاحتمالات الثلاث السابقة وهي:
أ- الشك في الحكم الواقعي. ب- الشك في الحجة عليه. ج- الشك في الوظيفة العملية.
كما ان الموضوع تحتمل فيه احتمالات ثلاثة أيضاً، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أَرْبَعَةٌ تَلْزَمُ كُلَّ ذِي حِجًى وَعَقْلٍ مِنْ أُمَّتِي، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هُنَّ؟ قَالَ: اسْتِمَاعُ الْعِلْمِ وَحِفْظُهُ وَنَشْرُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ" تحف العقول: ص57.
.............................................
|