بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(216)
الورود والتخصّص
بعد الفراغ عن ما تيسر من معظم أبحاث الحكومة، نشرع في البحث عن الورود، ثم بعد الانتهاء منه سيدور الحديث حول نسبة الامارات للأصول وانها الورود أو الحكومة إذ المحتملات فيها بدواً خمسة، وحيث ان تحقيقها متفرع على معرفة الحكومة والورود معاً أخّرناها عن مبحثها، فنقول: يقع البحث عن تعريف الورود وعن فرقه عن كل من التخصّص والتخصيص والحكومة، وعن أنواعه، وعن خصائص الدليل الوارد ومميزاته، وعن بعض أحكامه، وعن بعض التطبيقات، هذا.
وقد عقد الأصوليون مباحث خاصة بكل من التخصيص والتقييد والحكومة، لكن كثيراً منهم لم يبحث عن الورود إلا إشارة واستطراداً في ضمن بحث الحكومة أو غيره، كما لم يبحثوا عن التخصص أصلاً إلا كتمهيد للإشارة إلى أن الورود من أنواع التخصص أو شبه ذلك ولعل الوجه في ذلك هو وضوح ان الحكم لا ينطبق إلا على موضوعه فلو خرج فرد أو صنف عن الموضوع ذاتاً كان خروجه عن الحكم تخصصاً كالقول بان أكرم العلماء يخرج عنه زيد الجاهل بالخروج الموضوعي تخصصاً، وهذا كما ترى لا كثير بحث فيه.
أهمية بحث التخصّص وكثرة صغرياته في الفقه والأصول
لكن الحق هو ان (التخصّص) ينبغي أن يعقد له بحث خاص وذلك لكثرة مباحثه المنتشرة في طول الفقه وعرضه؛ فان الفقهاء في المئات من المسائل والأصوليين في العديد من مسائل الأصول توقفوا طويلاً عند بحث الدخول الموضوعي أو الخروج التخصصي وافاضوا في الأخذ والرد في ذلك ولربما كانت بعض تلك البحوث من أدق وأعمق بحوث الفقه أو الأصول فاقتضى ذلك عقد بحث كبروي أصولي يتكفل بالأحكام المشتركة لكل تلك المباحث أو بما يقع في طريق الاستنباط منها، إن وجدت أو نفيها، وعلى كلا التقديرين فهو بحث أصولي، وهذه اشارات لبعض المفردات:
فمنها: ما اسهبنا في البحث عنه في مباحث البيع عند الكلام حول حق الخلو: (السرقفلية) وانها داخلة في البيع موضوعاً أو خارجة عنه تخصصاً أو هي من الإجارة والجعالة معاً أو هي صلح أو عقد مستأنف أو قرض وشرط أو غير ذلك؟.
ومنها: ان النكاح المعاطاتي نكاح أو هو خارج عنه تخصصاً؟.
ومنها: ان البيع المعاطاتي بيع يفيد الملك المستقر؟ أو المتزلزل؟ أو لا ويفيد الإباحة فقط ولا تحصل الملكية إلا بعد تلف المال عند أحدهما أو انتقاله للغير ببيع ونحوه فتحصل الملكية قبل ذلك آناً ما؟.
ومنها: ان طلاق الثلاث طلاق يقع واحدةً أو انه خارج عنه تخصصاً وباطل؟.
ومنها: مطلق الإيقاعات المعاطاتية.
ومنها: ان الصلح فيما أفاد فائدة البيع أو الإجارة أو المزارعة ونظائرها، بيع أو إجارة أو مزارعة أو هو خارج عنها تخصصاً؟ ذهب إلى الأول الشيخ الطوسي وذهب للأخير المشهور وعلى الثاني: فان مفاد الصلح إذا وقع على مفاد الإيقاعات يكون عقداً، وعلى مثل مفاد البيع لا يكون موضوعاً لجريان الخيارات المختصة بالبيع كخيار المجلس والحيوان والتأخير.
ومنها: ان بيع الحق بيع أو لا؟ فقيل ([1]) لا لأنه يستلزم انقلاب المحقوق مملوكاً أو العكس واستدل بغير ذلك مما فصلناه في مبحث البيع.
ومنها: (الوطن) ومسائله الخلافية كثيرة مثل انه هل من جاء إلى بلدٍ ليسكن فيه خمس سنين للدراسة مثلاً يعدّ وطناً له من اليوم الأول؟ أو بعد مرور أشهر؟ وماذا لو قصد البقاء سنة واحدة؟ والمسائل كثيرة جداً، وكذا البحث عن (التوطّن) وهو العنوان الآخر المذكور في الروايات.
ومنها: الحيازة وانها تتوقف على قصدها أو لا؟ فلو حاز دون قصد الحيازة بل بقصد اللعب مثلاً فهل هو مالك أو حائز أو خارج عنهما موضوعاً، وهل مجرد التعليم ([2]) بالتخطيط أو بأشعة الليزر والأنوار، حيازة أو لا؟ وهكذا.
وأما أصولياً: فان مبحث الصحيحي والأعمي يبتني عليه بحث التخصص والخروج أو الدخول موضوعاً إذ لو كانت أسماء المعاملات أو العبادات موضوعة للصحيح لخرج عنها الفاسد منها تخصصاً وإلا فتخصيصاً.
هذا كله صغرى، وأما كبرى فينبغي البحث عن انه هل توجد ضوابط نوعية أو علامات مميزة عامة تتكفل بالخروج التخصصي الموضوعي من عدمه في مواطن الشك، أو لا؟ وعلى تقدير وجودها فما هي؟ وهذا مما لم يبحثوه وسنتطرق له بإذن الله تعالى بعد الانتهاء من بحث الورود.
تعريف الورود
وأما تعريف الورود فهو: (ان يزيل أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقةً لكن بعناية التعبد) فخرج بقيد أحد الدليلين ما لو أزال شيء آخر غير الدليل موضوع الدليل الآخر فانه ليس من الورود في شيء كما سيأتي.
وخرج بـ(موضوع) ما لو أزال حكمه مع بقاء موضوعه فانه تخصيص أو حكومة.
وخرج بـ(حقيقةً) ما لو أزال موضوعه تعبداً فانه حكومة تنزيلية.
وخرج بـ(بعناية التعبد) ما لو أزاله حقيقة تكويناً فانه (تخريج) على ما اصطلحنا عليه في بحث سابق، وسيأتي تفصيل الكلام عن ذلك كله بإذن الله تعالى.
أنواع التخصّص
ثم ان التخصّص على قسمين وهما ما أشار إليها المحقق اليزدي بقوله: (فإنَّ التخصص قد يطلق على ما إذا كان موضوع كل من الدليلين مغايراً لموضوع الآخر وكان خارجاً عنه من الأول كما إذا قال: أكرم العدول ولا تكرم الفساق، فإنَّ خروج الفسَّاق من الأول والعدول من الثاني من باب التخصص، ولا يطلق عليه الورود.
وقد يطلق أيضا على ما إذا كان ارتفاع موضوع الدليل العام الخارجي لغير المستفاد من الدليل، كما إذا قال: إذا شككت فاْبنِ على كذا، فزال شكُّه من الخارج لا بسبب ورود الدليل فلا يكون دليل هناك يطلق عليه اسم الوارد) ([3]).
أمثلة لما لو أزال غيرُ الدليل الشكَّ
وقد يتوّهم ان القسم الثاني لا مصداق له إذ كيف يزول الشك من الخارج لا بسبب ورود الدليل؟ ولكنه فاسد إذ يمكن تصويره في فروض عديدة:
منها: ما لو أزال الدواء مثلاً شكه وذلك كالمبتلى بمرض الوسواس الذي يشك في كل شيء فان الدواء قد يزيل شكه فإذا أزاله انتفى موضوع الأصل في الاستصحاب مثلاً إذ ركناه اليقين السابق والشك اللاحق، هذا لو قلنا بعدم انصراف الشك في موضوع الاستصحاب عن مثل شكه بل قلنا بانه منه بل انه أولى أفراده، فتدبر ([4]).
وكذا لو أزالت السباحة وركوب الخيل وما أشبه ذلك مما استحب شرعاً، شكَّه؛ وذلك لما ثبت في العلم الحديث من ان مرض الوسوسة يعود في غالب حالاته إلى الضغط العصبي وإلى الصدمات النفسية فيرتفع بأنواع من الرياضة أو الدواء أو الأطعمة.
ومنها: ما لو زال شكّه بالدعاء، أو زال بالإيحاء النفسي وشبه ذلك.
ومنها: ما لو زال شكه بالإلهام مما لا يطلق عليه الدليل، هذا. وللبحث صلة.
فائدة: الضوابط والمقدمات الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية
فائدة: أشرنا في كتاب (الضوابط والمقدمات الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) إلى ان علم المنطق يتطرق لضمان عدم الوقوع في الخطأ من حيث العلة الصورية، وإلى انه لا يوجد علم يتكفل بضمان عدم الوقوع في الخطأ من حيث العلة المادية، فكان البحث في ذلك الكتاب محاولة لاستكشاف الضوابط والمقدمات الكلية لضمان الاحتراز عن الوقوع في الخطأ من حيث العلة المادية، وذلك استناداً إلى التدبر في القرآن الكريم وإلى فقه السنة المطهرة والعقل، وقد ذكرنا هنالك ثلاثين ضابطاً أو علة مُعدّة.
لا يقال: الصناعات الخمس تتكفل بذلك؟.
إذ يقال: كلا فانها تقع في المنطقة الوسطى بين علم المنطق ([5]) وعلم الضوابط إذ انها تقسم الصناعة إلى (خطابة) موضوعها مثلاً الاقناعيات و(برهان) موضوعه اليقينيات ([6]) و(جدل) يعتمد على المسلمات العامة أو الخاصة بما هي مسلمات كذلك، و(مغالطة) موضوعها أشباه البراهين والمشاغبات، وهكذا، لكن ما هو الضابط العام الذي يميز كون هذه القضية من المشهورات أو من البراهين أو من أشباهها أو من الحدسيات اليقينية أو من غيرها وعلى فرض كونها من الحدسيات فهل هي من الحدسيات المطابقة أو الموصلة أو لا؟ فتأمل.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
======================
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَمَحَلَّ الْكِتْمَانِ تَفَكَّرُوا وَتَذَكَّرُوا عِنْدَ غَفَلَةِ السَّاهِينَ"
تحف العقول: ص 373.
...................................................
|