• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التعارض - التعادل والترجيح (1437-1438هـ) .
              • الموضوع : 207- وجوه الحكمة في تأخير البيان والهداية والتصرف عن وقت الحاجة: 3ـ التربية الولوية 4ـ تكريس علاقة الامة بالامامة و الأئمة (عليهم السلام) .

207- وجوه الحكمة في تأخير البيان والهداية والتصرف عن وقت الحاجة: 3ـ التربية الولوية 4ـ تكريس علاقة الامة بالامامة و الأئمة (عليهم السلام)

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(207)
 
الوجه الثالث: تأخير البيان أو بيان العدم من باب التربية الولوية
 
أما الوجه الثالث الذي يمكن أن نعلل به تأخير البيان عن وقت الحاجة بل بيانهم للعدم على خلاف الحكم الواقعي (كما لو كان الحكم الواقعي استحباب زكاة التجارة فاطلق الإمام (عليه السلام) القول بوجوب الزكاة الشامل لها وللأصناف التسعة فجرى عليه الناس زمناً طويلاً أو قصيراً ثم بيّن لهم هو (عليه السلام) أو الإمام اللاحق (عليه السلام) أنه في خصوص مال التجارة كان مستحباً، وكما لو كان الحكم الواقعي طهارة أهل الكتاب فيصدر عنه ما ظاهره أو نصه النجاسة ثم بعد فترة من العمل (بالاجتناب لزوماً) يأتي عنه ما يفيد الطهارة) فهو التربية الولوية. بيان ذلك:
 
مقامان للمعصومين: بيان الأحكام وولاية أمر تربية الناس
 
أن للرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) مقامان: مقام المبين للأحكام ومقام المتولي لتربية الناس، قال الله تعالى: ( وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)([1]) و( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)([2]) و( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([3]) فقد يكون الحكم في حد ذاته مستحباً أو مباحاً إلا أنه يوجبه فترة ما لإقتضاء ضرورات التربية ذلك؛ وعلى ذلك جرت سيرة العقلاء ألا ترى ان المعلم قد يوجب على الطلاب وظيفة ما مما لا وجوب لها في حد ذاتها لكنه بما هو ولي التعليم يوجب ومن ثمّ يعاقب على المخالفة؟ وألا ترى كذلك الآباء والرؤساء؟ فلاحظ الجيش مثلاً وإصدار الأوامر للجنود بالتدريبات المختلفة ثم المعاقبة على مخالفتها الكاشفة عن أنهم يعتبرون الأمر أو النهي إلزامياً يستحق مخالفه العقوبة.
 
من وجوه الجمع بين الروايات: صدور بعضها في مقام التربية
 
وبذلك ينفتح باب جديد للجمع بين الروايات المتعارضة إذ قد يكون بعضها لبيان الحكم الواقعي وبعضها الآخر لبيان الحكم الولوي فتكون الأولى بنحو القضية الحقيقية والثانية بنحو القضية الخارجية.
 
وجوه الجمع بين روايات نجاسة أهل الكتاب وطهارتهم
 
ومما يمكن أن يمثل له الروايات المتضادة، ظاهراً، الواردة في نجاسة أهل الكتاب: فقد وردت طائفتان من الروايات:
الطائفة الأولى: ظاهرة أو صريحة في نجاستهم.
الطائفة الثانية: ظاهرة أو صريحة في طهارتهم.
فمن الطائفة الأولى: "صحيحة سعيد الأعرج: أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عَنْ سُؤْرِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، أَيُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ؟ قَالَ: لَا"([4])
و"صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي رَجُلٍ صَافَحَ رَجُلًا مَجُوسِيّاً، قَالَ: يَغْسِلُ يَدَهُ، وَلَا يَتَوَضَّأُ"([5]).
و "عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) فِي مُصَافَحَةِ الْمُسْلِمِ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ؟ قَالَ: مِنْ وَرَاءِ الثَّوْبِ، فَإِنْ صَافَحَكَ بِيَدِهِ فَاغْسِلْ يَدَكَ"([6]).
وصحيحة علي بن جعفر "عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ فِرَاشِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ يُنَامُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، وَلَا يُصَلَّى فِي ثِيَابِهِمَا – وَقَالَ: - لَا يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ مَعَ الْمَجُوسِيِّ فِي قَصْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُقْعِدُهُ عَلَى فِرَاشِهِ وَلَا مَسْجِدِهِ وَلَا يُصَافِحُهُ.
قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى ثَوْباً مِنَ السُّوقِ لِلُّبْسِ، لَا يَدْرِي لِمَنْ كَانَ، هَلْ يَصْلُحُ الصَّلَاةُ فِيهِ؟ قَالَ: إِنِ اشْتَرَاهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَلْيُصَلِّ فِيهِ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ فَلَا يُصَلِّي فِيهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ"([7]) وقد جُمِعَ فيها بين الحكم الاقتضائي واللااقتضائي المحمول على التنزيه مما يعلم بسائر الأدلة.
ومن الطائفة الثانية: صحيحة الْعِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ: أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام): "عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ مِنْ طَعَامِكَ، وَسَأَلَهُ عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْمَجُوسِيِّ؟ فَقَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ فَلَا بَأْس"‏([8]).
وموثقة عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: "سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ هَلْ يَتَوَضَّأُ مِنْ كُوزِ أَوْ إِنَاءِ غَيْرِهِ، إِذَا شَرِبَ عَلَى أَنَّهُ يَهُودِيٌّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمِنْ ذَاكَ الْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ"([9]).
وقد جمع الفقهاء: أما بحمل روايات الطهارة على التقية، ولذا كان المشهور شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعاً سابقاً على نجاستهم، وأما بحمل روايات النجاسة على التنزيه أو الكراهة وهو ما صار إليه السيد الحكيم([10]) والسيد الوالد([11]) والكثير من  المتأخرين.
ولكن يوجد وجه ثالث للجمع وهو حمل روايات الطهارة على بيان الحكم الواقعي وروايات النجاسة على الحكم الولوي وانها كانت أحكاماً صدرت منهم (عليهم السلام) لتحصين الشيعة أو قطاعات واسعة منهم في تلك الفترة من التأثر باليهود أو النصارى أو لغير ذلك([12]) فحكموا بنجاستهم كي يتجنبوهم ولا يعاشروهم فلا يتأثروا بهم، فهي قضية ولوية تربوية خاصة بظروفها.
ولا يخفى أن هذا مجرد إبداء وجه جمع احتمالي، أما المصير إليه أو إلى غيره فمرتهن بقيام شاهد معتبر على الجمع وإلا كان جمعاً تبرعياً لا حجية فيه أبداً.
وربما استدل على أن روايات النجاسة تنزيهية بما ورد في: "صحيحة إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): مَا تَقُولُ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا تَأْكُلْهُ، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْئَةً ثُمَّ قَالَ: لَا تَأْكُلْهُ، وَلَا تَتْرُكْهُ تَقُولُ إِنَّهُ حَرَامٌ، وَلَكِنْ تَتْرُكُهُ تَتَنَزَّهُ عَنْهُ، إِنَّ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ"([13]).
لكنه غير تام إذ أن ظاهرها أن الأمر كله من حيث الحرمة لا من حيث النجاسة فتأمل وعلى أي فتنقيحه في محله.
 
الوجه الرابع: تأخير البيان وإيداع الأحكام لديهم لتكريس الارتباط بالإمامة والأئمة (عليهم السلام)
 
ويمكن أن يعلل إيداع الرسول (صلى الله عليه وآله) كثيراً من المخصصات لديهم (عليهم السلام) وتأخير بيانها إلى حين بيانهم، بأنه كان لحكمة عظيمة وهي أن تحتاج الأمة إليهم ولا تحيد عنهم ولترتبط بهم برباط سماوي وهو أنهم إذا ارادوا شرع الله فهو لديهم لا غير إذ انهم الثقل الآخر المودع لديهم الأحكام والحجج كلها ولذا قال (صلى الله عليه وآله): "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي"‏([14]).
 
الحكمة الكبرى في إرسال الرسل بدل الاكتفاء بالكتب الوافية بالمرادات
 
ويوضحه: أن ذلك هو نفس الوجه في إرسال الخليفة قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)([15]) و"فبدأ عزّ وجل بالخليفة قبل الخليقة"([16]) فانه كان من الممكن أن يرسل الله تعالى للناس كتباً من السماء من دون رُسُلٍ كما كان من الممكن أن يكتفي الله تعالى بإنزاله القرآن الكريم بمجرده إلى الناس لكنه تعالى قرنه بالرسول وجعل موقعه كما قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)([17]) ولكن السؤال هو لماذا؟ إذ أليس كان من الممكن أن ينزّل الله تعالى القرآن مع شرح شافٍ له دقيق وافٍ بمقاصده([18]) أي أن ينزّل القرآن مع حديث قدسي شارح له فيغنينا بذلك عن اختلافات المفسرين والمتكلمين والفقهاء على مر التاريخ؟
لا ريب أنه كان من الممكن ذلك، إلا أن الله تعالى أراد تكريس حاجتنا للنبي والأنبياء عبر تحديد وصول شريعته إلى الناس عبره صلى الله عليه وآله (وعبر سائر الرسل) ثم عبر حصر شرحه للقرآن (أو التوراة أو الإنجيل الأصلي)  به أيضاً.
وكذلك فعل جل اسمه بالنسبة إلى الأوصياء وإذا قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([19])
ومن وجوه الحكمة في ذلك ما سبق من حاجة الناس إلى الأولياء في التربية والتزكية والتعليم فإن الناس لا تستقيم أمورهم بالعلم وحده بل بالولي الذي بيده الأمر والنهي والردع والزجر والزيادة والنقصان والمثوبة والعقوبة ولذا قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)([20]) وحيث علم الله تعالى أن الطغاة سيستأثرون بالحكم ويستبدون بالأمور ويكون بأيديهم كل شيء من السلاح والإرهاب والمال والإعلام والسجن والنفي وغيرها، لذلك أودع العلم والشريعة لديهم (عليهم السلام) لتحتاج الأمة إليهم ولتعلم أنها إذا أعرضت عنهم خسرت الشريعة والآخرة معاً ولترتبط بهم على امتداد الأزمان فكان ذلك من حِكم إيداع المخصصات والمقيدات لديهم. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
 
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عَلَيْكُمْ بِالْعَفْوِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إِلَّا عِزّاً، فَتَعَافَوْا يُعِزَّكُمُ اللَّهُ"
الكافي: ج2 ص108.
...........................................
 
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2568
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاربعاء 9 جمادى الاخرة 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14