بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(203)
التفصيل بين مقام الفتوى ومقام التعليم:
وقد يقال بوجود وجه سابع للجواب عن الإشكالين (لزوم الإغراء بالجهل وتأخير البيان عن وقت الحاجة، القبيح لدى العقلاء) وهو التفصيل بين مقام الفتوى ومقام التعليم بأن يقال: إن الإشكالين إنما يلزمان لو كان الشارع الأقدس في مقام الفتوى إذ كيف يؤخر في هذا المقام ذكر المخصِّصات والمقيدات والشروط ونظائرها عن وقت الحاجة (إذ المفروض أن العام صادر من معصوم والخاص صادر من معصوم آخر أو منه بعد وقت الحاجة) فيلزم المحذوران، أما لو كان (عليه السلام) في مقام التعليم لا الفتوى فانه لا يلزم شيء منهما إذ بناء مقام التعليم على التدرج في بيان الأحكام بقيودها وشروطها ومخصصاتها.. الخ، كما سبق تفصيله في بحوث الاجتهاد والتقليد ([1]).
هذا التفصيل يحل مشكلة الإغراء بالجهل (في العمومات المنفصلة عنها مخصصاتها)
ولكن يرد عليه: أنه لا يحل مشكلة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بل انه يحل فقط مشكلة الإغراء بالجهل ([2]):
أما أنه يحل الإشكال الأخير فلأن الفرض أن المولى إذا كان في مقام التعليم فانه ليس حينئذٍ في مقام البيان من هذه الجهة أو تلك فلا ينعقد الإطلاق فلا يلزم الإغراء بالجهل إذ مع عدم انعقاد الإطلاق لا يوجد بعثٌ نحو مورد الخاص المستثنى لاحقاً بمخصص ومع عدم انعقاده يُقتصر على القدر المتيقن فقط فلا إغراء بالجهل حينئذٍ، ففي قوله مثلاً: (أكرم العالم) إذا كان سيلحقه – بعد وقت العمل - مقيد وهو (لا تكرم العام الفاسق أو علماء السوء) فإنه إنما يلزم الإغراء بالجهل لو انعقد لإكرام العالم إطلاق فانبعث الناس من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) حتى زمن الإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً الوارد عنه النهي عن إكرام العالم الفاسق، أما لو لم ينعقد له إطلاق (لوجود القرينة العامة على أن دأب هذا المولى الاعتماد على المنفصلات في بيان أحكامه، وذلك لا يكون إلا في مقام التعليم) فلا يجب إلا إكرام القدر المتيقن وهو العالم العادل مثلاً فلا يلزم إذاً من فصل المخصصات والمقيدات الإغراء بالجهل.
ولكنه لا يحل مشكلة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، بل حتى مشكلة الإغراء
وأما انه لا يحل الإشكال الأول، بل حتى الإشكال الثاني ([3]) في الجملة، فلأنه عندما يأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بأمر عام أو مطلق فالأمر دائر حينئذٍ بنحو المنفصلة الحقيقية بين أن تكون له واقعاً شروط وقيود ومخصصات ومقيدات (وقد أودعها (صلى الله عليه وآله) لدى الإمام الباقر (عليه السلام) مثلاً) أو لا.
أ- إذا كانت للعام قيود وشروط ومخصصات واقعاً
فإن كان الأول: لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة بل لزم الإغراء بالجهل أيضاً إذ الفرض أن صحة العمل كان مشروطاً بهذا (في الموارد التي تتوقف فيها الصحة على تحقق الشرط الواقعي دون ما اكتفى فيها بالظاهري) فمثلاً ورد في الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): "لَا يَضُرُّ الصَّائِمَ مَا صَنَعَ إِذَا اجْتَنَبَ أَرْبَعَ خِصَالٍ: الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنِّسَاءَ وَالِارْتِمَاسَ فِي الْمَاءِ" ([4]) فلو فرض أن هناك مبطلات أخرى للصوم هي تمام العشرة ولم يذكرها المعصوم (عليه السلام) فارتكبها الناس ثم ذكرها المعصوم اللاحق فقد اوقعهم قوله "لَا يَضُرُّ..." في ارتكاب المفطر الواقعي فعليهم القضاء مثلاً أو على وليِّهم بعد موتهم ذلك فهذا إغراء بالجهل وتأخير للبيان عن وقت الحاجة. فتأمل ([5]).
الجواب عن أن الحل بالاحتياط
لا يقال: عليهم الاحتياط؟
إذ يقال: أولاً: انه غير مقدور لجهات عديدة منها عدم خطور أن هذا قيد أو شرط أو مفطر أو شبه ذلك بالبال في كثير من القيود في الكثير من الأفراد بل كلهم في بعضها والاحتياط فرع الاحتمال والتصور.
ثانياً: مادام الاطلاق غير منعقد، حسب الفرض، فالمجرى مجرى البراءة، وأما لو كان في مقام الفتوى فنفس المقام ينفي القيود بدون حاجة لإجراء الأصل.
ب- إذا لم تكن للعام قيود و...
وإن كان الثاني: بان لم تكن له قيود وشروط ثبوتاً واقعاً، فيلزم الإغراء بالجهل أيضاً، إذ حيث لم ينعقد للعام مثلاً العموم، لأنه مقام التعليم وأنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة، فلا يجب على المكلفين إكرام كل العلماء في المثال السابق لأن الفرض أنه لم ينعقد له إطلاق مع أنه واقع مطلقاً لفرض عدم وجود مخصص أو شرط له ثبوتاً فكان إكرام جميعهم واجباً لكن الدليل عليه كان قاصراً فلزم تفويت مصلحة إكرام مورد الخاص الملزمة، وهو إغراء بالجهل وتأخير للبيان عن مورد الحاجة.
لا يقال: على المكلف الاحتياط.
إذ يجاب بما سبق فانه حيث لم ينعقد الإطلاق والعموم فالمجرى مجرى البراءة، إضافة إلى انه لم يقل المشهور بلزوم الاحتياط فيما لم ينعقد له إطلاق، بل هو مجمع عليه في الشبهة الوجوبية، كما أنه خلاف قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ)([6]).
ولا يخفى أن هذا الوجه – المتوهم كونه سابعاً – ليس بوجه جديد بل هو مكمِّل للوجه الأول من الوجه الثاني ([7]) فراجعه تعرف.
الإشكال بأنه لو كان دأب الشارع الاعتماد على المنفصلات لأوصل ذلك للعوام
ثم انه قد يورد على كافة الوجوه الستة الماضية حينئذٍ إلا الأول منها وهو النسخ، بانه وإن صح أن قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة والإغراء بالجهل يرتفع بإقامة الشارع قرينة عامة على أن دأبه الاعتماد على المنفصلات ([8]) لكن كان اللازم حينئذٍ أن يصرح الشارع بذلك بحيث يصل للعوام ولم نجده يصرح بأن دأبه الاعتماد على المنفصلات وأنه يجيء بها كثيراً مّا بعد وقت العمل؟
الأجوبة:
والجواب من وجوه:
1- الإيصال للعوام أعم من الوصول إلى فقهائهم
أولاً: أن الوصول للعوام أعم من الوصول إليهم مباشرة ومن الوصول إلى رواة الحديث والفقهاء ومراجعهم والمفتين لهم، وقد وصل ذلك للفقهاء إذ كلهم عارف بأن دأب الشارع هو ذلك.
وبعبارة أخرى: يجب أن يصل المخصص المنفصل للعوام بنفس الكيفية التي وصل بها إليهم العام، وذلك بواسطة الفقيه فإن الواصل إليه كلاهما هو الفقيه، ويشهد له قوله تعالى: ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([9]) فهؤلاء هم المتفقهون في الدين الذين عليهم الاستماع للعام ثم الفحص عن مخصصاته المنفصلة وغيرها ([10]).
ولو فرض أن العامي كان قادراً على ذلك لكان مجتهداً متجزياً لا مقلداً وقد فصلنا في مبادئ الاجتهاد والتقليد أنه لا يمكن للعامي ذلك أبداً إذ كيف يميز الناسخ من المنسوخ والحاكم من المحكوم والوارد من المورود عليه وأبواب التعارض والتزاحم والمرجحات السندية... الخ ولو أمكنه كل ذلك كان مجتهداً مطلقاً أو متجزياً ولكان واصلاً إليه كل ذلك فلا يرد انه لم يصل، هذا خلف، وللبحث تتمة مهمة فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
======================
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ وَ لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا"
الكافي: ج2 ص362.
.................................................
|