بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(200)
4- عدم انعقاد الإرادتين، وحكومة المخصصات على العمومات
الوجه الرابع([1]): ويمكن الذهاب إلى وجه آخر مغاير لما ذهب إليه المشهور من الحكم الظاهري وغير المشهور من النسخ أو غيره مما سبق، وهو: أن كافة المخصصات الواردة في لسان الشارع هي حواكم، أي أن كلاً منها هو حاكم على العام الصادر سابقاً، وحيث أن دعوى إدخال المخصص في دائرة الحاكم غريبة لوضوح أنهما بابان: باب التخصيص المذكور في مباحث الألفاظ وباب الحكومة المذكورة في مبحث التعادل والترجيح في آخر الأصول، لذا احتاج ذلك إلى التوضيح وذلك في ضمن بيان مطلبين:
تعريفان للحكومة
المطلب الأول: أن الحكومة هي (أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر) حسب المنصور، وأما حسب الشيخ فهو (أن يكون أحدهما ناظراً بمدلوله اللفظي إلى الآخر) ([2]) وقد سبق الإشكال عليه بأنه يستلزم إخراج أدلة العناوين الثانوية – كلا ضرر – من دائرة الحكومة على أدلة العناوين الأولية وذلك لوضوح أن (لا ضرر) غير ناظر بلفظه إلى العناوين الأولية بل حاله حال المخصصات التي لم يعدُّوها من الحكومة لإخراجها بهذا القيد عنها إذ ليست ناظرة بلفظها.
والحاصل: انه يتهافت هذا المبنى في التعريف مع التزام الشيخ بأن لا ضرر حاكمة على أدلة العناوين الأولية، ويلزم منه ([3]) تخصيص الحكومة بالتنزيليات توسعةً كـ"الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ" ([4]) أو تضييقاً كـ"لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ رِباً" ([5]).
وعلى أي حال وعلى كلا القولين فانه يتم المقصود من حكومة المخصصات الشارعية على عموماته كما سيظهر.
مخصصات الشارع حاكمة على عموماته لاحتفافها بقرينة عامة مفيدة للناظرية
المطلب الثاني: إن عمومات الشارع حيث اقترنت بقرينة مقامية عامة هي أن دأبه جرى على تخصيصها بمنفصلات، سواء بعد وقت العمل وقبله، لذلك كانت مخصصاته ناظرة، ببركة هذه القرينة العامة المتصلة، إلى تلك العمومات السابقة، ويظهر ذلك بما لو قرن عامَّهُ بقرينةٍ لفظيةٍ متصلةٍ كقوله بأنه مخصَّص وانه سيأتي مخصصه فإن الخاص حينئذٍ يكون ناظراً إلى ذلك العام، فكذلك ما لو اقترنت العمومات بقرينة عامة دالة على ذلك.
والحكومة، حسب ما اخترناه من التعريف، واضحة لوضوح تحقق النظر إذا لم نقيده بـ(أن يكون بمدلوله اللفظي ناظراً..) وأما على تعريف الشيخ فكذلك إذ يكون المخصص بعد احتفافه والعام من قبل بقرينة الدأب ناظراً بمدلوله اللفظي وإن كان تبعياً؛ فإن العرف يرى أن هذا اللفظ ناظر إلى تفسير ذلك اللفظ الآخر وانه شارح له بعد ملاحظته القرينة العامة المحتفّة، عكس الخاص الذي لم تقترن به مثل هذه القرينة. فتأمل
مختار البعض: الخاص مخصص للعام وحاكم على دليل حجيته
وما ذكرناه نظير ما ذكره بعض الأصوليين ([6]) من أن الخاص وإن كان مخصصاً للعام بنفسه باعتباره أخص منه مطلقاً ([7]) إلا أنه – أي الخاص – حاكم على دليل حجية العام لأن موضوع حجية العام هو الشك والخاص رافع للشك لا حقيقةً بعناية التعبد ليكون وروداً بل تعبداً وبالناظرية فهو حاكم، وذلك لأن العام لا يكون حجة إلا وموضوعه الشك (حسب رأيه، أو إلا وظرفه الشك حسبما نرى) والخاص لأنه كالنص بالنسبة إليه رافع لموضوعه حكومةً لا وروداً لبقائه وجداناً.
مزيد توضيح: لنفرض أن العام هو (أكرم العلماء) وأما دليل حجيته فهو مثلاً الدليل على حجية الظواهر وحجية خبر الثقة الضابط وما أشبه – ولولا دليل الحجية لما وجب امتثال (أكرم العلماء) أبداً فالعام أمر وحجيته أمر آخر والدليل على الحجية أمر ثالث وذلك سواء أكانت الحجية بمعنى لزوم الإتباع أم بمعنى الكاشفية فانها صفة للعام وحيث كانت ناقصة أحتجنا إلى دليل الحجية.
وعليه: فالخاص إذا لوحظ بالنسبة إلى نفس العام فهو مخصص له وإذا لوحظ بالنسبة إلى دليل حجيته كان حاكماً عليه.
وليس المقام مقام الجرح والتعديل إذ لنا على هذا الكلام إشكالات إلا أن الكلام هو تنظير ما صرنا إليه وتقريبه ببيان هذا المبنى.
ويبقى الفرق بينه وبين ما ذكرناه فانه من جهات:
الأول: اننا نقصُر الحكومة على خصوص من كان دأبه الاعتماد على المنفصلات كثيراً وأقام قرينة ولو مقامية على ذلك.
الثانية: أننا نرى حكومة الخاص على العام نفسه حينئذٍ.
الثالث: أن وجه الحكومة ليس هو أن الخاص يزيل موضوع حجية العام وهو الشك إذ لا تصح دعوى أن الشك موضوع حجيته بل هو ظرفه، بل وجهها هو ما ذُكر من احتفاف العام والخاص بقرينة الدأب العام فهي التي ببركتها يكون الخاص ناظراً للعام.
عدم انعقاد الإرادتين يدفع شبهة الإغراء بالجهل دون شبهة قبح تأخير البيان
بقي: أن هذا الوجه مبني على عدم انعقاد الإرادتين الجدية والاستعمالية وعلى الصيرورة إلى الحكومة، لكن هذا الوجه (عدم انعقادهما) يدفع شبهةً دون أخرى:
أما التي يدفعها فقبح الإغراء بالجهل إذ الإغراء بالجهل إنما يلزم على الوجه الثالث الذي صار إليه الشيخ من انعقاد الاستعمالية دون الجدية وأن الحكم الظاهري هو المجعول.
وأما التي لا يدفعها فهو قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ تعليق الإرادتين ثم الالتزام بالحكومة لا يجدي لدفع هذا الإشكال فلا بد من التفصي عنه ببعض الوجوه الآنفة أو الآتية فلنكمل وجوه التفصي فنقول:
جواب آخر للشيخ عن قبح تأخير البيان بأنه أخص من المدعى
أجاب الشيخ عن إشكال قبح تأخير البيان عن وجه الحاجة استناداً إلى انه إيقاع في الحرام أو ترك واجب، بانه أخص من المدعى إذ لا يلزم فيما لو أوجب بعمومِهِ المستحبَّ مع كون بعض أفراد العام مستحبة وبعضها واجباً إذ غاية الأمر حينئذٍ إيقاع العبد في مشقة فعل المستحب حيث تصوره واجباً بسبب عموم لفظ الشارع، لا إيقاعه في مفسدة ترك الواجب أو مفسدة فعل الحرام لو أوجب ما بعض أفراده محرمة وكان مخصصها سيأتي لاحقاً.
فهذا توضيح ما قاله الشيخ: (بل يجوز أن يكون مضمون العموم والإطلاق هو الحكم الإلزامي وإخفاء القرينة المتضمنة لنفي الإلزام، فيكون التكليف حينئذ لمصلحة فيه لا في المكلف به) ([8]).
فانه يحافظ بذلك على مصلحة المستحب لكنه يوقع العبد في المشقة إذ أطلق اللفظ فتوهم أنه واجب، وليس مفوّتاً لمصلحة الواجب الملزمة أو موقعاً في مفسدة الحرام. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال الإمام الباقر (عليه السلام): "اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَبَداً أَفْضَلُ، فَعَجِّلْ بِالْخَيْرِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا دَاوَمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ" الكافي: ج3 ص274.
............................................
|