بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(199)
رأي الشيخ: الأرجح هو تكليف المخاطبين بالعمومات، ظاهراً
قال الشيخ (فالأوجه هو الاحتمال الثالث ([1])، فكما أنّ رفع مقتضى البراءة العقلية ببيان التكليف كان على التدريج - كما يظهر من الأخبار والآثار - مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعية، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات، فيجوز أن يكون الحكم الظاهري للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات الذي يقتضيه العملُ بالعمومات، وإن كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك.
ودعوى: الفرق بين إخفاء التكليف الفعلي وإبقاء المكلف على ما كان عليه من الفعل والترك بمقتضى البراءة العقلية، وبين إنشاء الرخصة له في فعل الحرام وترك الواجب، ممنوعةٌ.
غاية الأمر أن الأوّل من قبيل عدم البيان، والثاني من قبيل بيان العدم، ولا قبح فيه بعد فرض المصلحة) ([2]).
وتوضيح كلامه بعبارة أخرى وإضافات:
توضيح كلام الشيخ مع إضافات
1- إن البراءة العقلية وهي (قبح العقاب بلا بيان) قد حكم بها العقل والعقل حجة من باطن كما أن الشرع حجة من ظاهر، فكما صح حكم المولى بمقتضى حجته الباطنة بالبراءة لدى عدم البيان والترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات مع كون السبب في عدم وصول الحكم هو الشارع نفسه بعدم بيانه، صح حكمه بمقتضى حجته الظاهرة وهو النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً كذلك.
2- بل إن البراءة العقلية ممضاة من قبله (صلى الله عليه وآله) أي من الحجة الظاهرة أيضاً فالإشكال الإشكال.
3- ودليل الإمضاء ليس السكوت فحسب بل هو القرينة العامة التي أقامها من تدرجية إنزاله للأحكام المفيد لعدم ثبوت حكم قبل إبلاغه.
4- بل وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ([3]).
لا فرق بين عدم البيان وبيان العدم من حيث جامع القبح
5- ودعوى الفرق بين الإخفاء وبين مجرد السكوت أو بين عدم البيان وبيان العدم، ممنوعة؛ وذلك لاشتراكهما في جامع القبح، لولا جواب وجود المزاحم الأهم، وإن كان بيان العدم أقبح، لكن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يرتكب القبيح قطعاً فإذا امتنع بيان العدم لأنه إغراء بالجهل امتنع عدم البيان والسكوت حتى لو لم نقل برجوعه للامضاء وبيان العدم لأنه إغراء بالجهل أيضاً وإن كان أقل قبحاً، والجواب الجواب.
ألا ترى أنه يقبح من الحكيم السكوت وعدم إلفات الأعمى الذي يمشي في طريق فيه بئر سيسقط فيها وهو لا يعلم ولم ينبهه، رغم قدرته، وسكت فسقط فكسرت رجله؟ نعم لو شجعه لكان أقبح، فإذا أمكن توجيه سكوته بوجود مزاحم أهم أمكن توجيه تشجيعه كذلك لو كان – وقد سبق.
دعوى الشيخ وجود بيان العدم بقوله (صلى الله عليه وآله) (ما من شيء يقربكم إلى الجنة...)
ثم قال الشيخ: (مع أن بيان العدم قد يدعى وجوده في الكل، بمثل قوله (صلى الله عليه وآله) في خطبة الغدير في حجة الوداع:
"معاشر الناس ما من شئ يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه" ([4])).
ولكن قد يورد عليه:
المناقشة: أ- الرواية صادرة آخر حياته (صلى الله عليه وآله) فلا تتكفل ببيان العدم قبل ذلك
أولاً: بأن هذا الكلام كان في آخر حياته (صلى الله عليه وآله) وقبل شهادته بشهرين وأيام أي بعد ثلاثة وعشرين سنة من البعثة والظاهر أن كل الأحكام كانت قد نزلت حينئذٍ، لولا معدود منها جداً، فلا يجديه قدس سره لإثباته دعواه من ثبوت بيان العدم في الكل إذ عمدة الإشكال هو تدرجية الأحكام طوال تلك الـ23 سنة لا بعدها قبل شهرين من وفاته (صلى الله عليه وآله) كي يقال أنه (صلى الله عليه وآله) كان قد بيّن العدم بقوله: (ما من شيء يقربكم...) نعم ذلك مجدٍ للأئمة اللاحقين ولما بعد حجة الوداع فقط.
ب- ظاهر الرواية الأحكام التكليفية دون الوضعية
ثانياً: أن ظاهر هذا الكلام أو منصرفه هو أمره (صلى الله عليه وآله) بالواجبات من الأحكام التكليفية ونهيه عن المحرمات منها، فهو أجنبي عن الأحكام الوضعية مع أن الكثير جداً من المخصصات المنفصلة، إن لم يكن أكثرها، هي من دائرة الأحكام الوضعية كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية وغيرها في العبادات والمعاملات ككون التنجيز شرطاً أو الترتيب أو الموالاة أو العربية أو البلوغ أو شبه ذلك في البيع مثلاً وهكذا.
فلو فرض دلالة الحديث على بيان العدم لما أفاد إلا في الجملة أي في الأحكام الإلزامية أو حتى مطلق التكليفية ([5]) دون الوضعية، نعم يمكن إرجاعها إليها لكنها على خلاف ظاهر الحديث أو منصرفه اللهم إلا على مبنى الشيخ من انتزاعها منها. فتدبر جيداً.
الاستدلال بآية إكمال الدين على بيان العدم
ويمكن أن يضاف إلى استدلاله بالرواية الاستدلال بـ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)([6]) فانه يسلم عن إشكالنا الثاني عليه.
معنى الآية وعدم تمامية الاستدلال
ولكنه لا بد من توجيهه بأن المراد منه (إكمال الدين) بنصب علي (صلى الله عليه وآله) وإيداعه ثم ذريته عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه بيان سائر الأحكام، لوضوح أنه (صلى الله عليه وآله) لم يبينها بأجمعها – على ما سبق من استبعاد الشيخ بل دعواه الاستحالة عرفاً وأن بيانها جميعاً ثم اختفاء قرائنها جميعاً كلاهما مستعبد أو محال كما قال وإن كنا قد ناقشناه ([7]) – لكن هذا التوجيه يضاد أصل المدعى ([8]). فتدبر. وللبحث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَشَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاه، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ حُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ" الأمالي للصدوق: ص39.
..........................................
|