بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(183)
مناقشة دليل الإجزاء: مفاد الفتوى قضية حقيقية فتنفي الفتوى السابقة
ولكن قد يجاب عن دليل الإجزاء السابق بأن الحجة الجديدة (وهي فتوى المقلَّد الحالي) وإن كان ظرفها – أي ظرف وجودها – الآن إلا أنها حيث كانت بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية كانت دالَّة على ثبوت الحكم للموضوع بنفسه أعم من كونه في الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل فيكون مفاد الفتوى الجديدة نفي مفاد الفتوى القديمة فليست لا بشرط بالنسبة لها بل هي بشرط لا، وحيث كانت الفتوى الجديدة هي الحجة الفعلية نفت السابقة.
قال في مصباح الأصول: (وفيه: أنّ مقتضى الحجة الثانية الثابتة حجّيتها فعلاً كون العمل فاقداً للشرط وعدم كونه مأموراً به، فلا بدّ من الحكم بعدم الإجزاء، ومجرّد كونه مطابقاً للامارة السابقة الساقطة عن الحجية فعلاً لا يوجب كونه مجزياً) ([1]) و(وأما إن كانت من القسم الثاني، فالصحيح أيضاً عدم الإجزاء، لأنها وإن كانت حادثة في الزمان الثاني إلا أنّ مدلولها هو ثبوت الحكم من الأول، فلا يقاس المقام بنسخ الأحكام، فبعد كشف الخلاف بمقتضى الحجة الثانية تجب عليه الإعادة، خروجاً عن عهدة التكليف الفعلي، ولا يكون معذوراً في ترك امتثاله.
وأمّا ما ذكره من احتمال كون الحجة الثانية مخالفة للواقع، فهو وإن كان صحيحاً إلا أنّ مجرّد الاحتمال لا يضرّ بعد إلغاء الشارع إياه، كما أنّ احتمال مطابقة الامارة الأولى للواقع ممّا لا يفيد بعد إلغائه بحسب الحجة الفعلية) ([2]).
الصحيح هو التفصيل
أقول: لكن الأصح هو التفصيل:
1- بين صورة بطلان الفتوى السابقة وبين غيرها
أولاً: بين بطلان الفتوى الأولى واضمحلالها كما لو تغيّر رأي المقلَّد إلى الضد مثلاً أو تغيّر رأيه هو إن كان مجتهداً، وبين غير ذلك كما لو عدل إلى تقليد المساوي أو المفضول بناء على جوازه أو انتقل إلى تقليد الحي بناء على المنصور غير المشهور من صحة تقليد الميت حتى ابتداءً.
فلو صح الكلام ([3]) لصحّ في الصورة الأولى فقط دون الثانية؛ لوضوح أن المعدول إليه – مثلاً – لجوازه لكونه مساوياً مثلاً وإن كان حجة فعلية لكنه لا بشرط بالنسبة للمعدول عنه إذ الحكم التخيير بينهما اللهم إلا بناء على كون التخيير ابتدائياً لا استمرارياً وهو خلاف القاعدة، فالقول بكون الامارة السابقة (ساقطة عن الحجية فعلاً) مصادرة، كما أن دعوى (إلغاء الشارع إياه) كذلك.
وحيث كانت الحجة الثانية بنحو القضية الحقيقية وكانت الحجة الأولى كذلك كان مقتضى القاعدة إما التساقط كأصل أولي، أو التخيير كأصل أولي على المنصور أو ثانوي بناء على تنقيح مناط التخيير الثابت بين الاخبار بأدلتها، لا حجية الثانية دون الأولى.
2- وبين العقود المستجدة والسابقة ذات الأثر اللاحق
والتفصيل ثانياً: بين كون الفتوى السابقة ذات أثر ماضوي أو حتى فعلي كما لو عقد بالفارسية أو باع معاطاة أو طلق بشاهدين أحدهما الوكيل في إجراء الصيغة أو تزوج المرتضعة معه عشراً ([4]) بناء على فتوى محرمية الـ15، وبين العقود والإيقاعات والأعمال المستجدة التي يراد إيقاعها بعد تقليد المجتهد الجديد.
فإن كانت ذا أثر فعلي وكانت الفتوى الأولى قد اضمحلت كموارد الشق الأول من التفصيل الأول ([5]) فإنه وإن صح حينئذٍ ما ذكره ([6]) إلا أن الإجزاء حينئذٍ لا يستند إلى مجرد وجود أمارة أو فتوى في ظرفها بل يستند إلى:
الاستدلال ببناء العقلاء والسيرة على المدعى
بناء العقلاء وسيرتهم ([7]) فانها في الأعمال المستندة إلى الفتوى أو الحكم السابق ذي الآثار الفعلية كذلك.
وبعبارة أخرى: إن العقلاء يعتبرون الوجود الماضوي لما استند ([8]) إلى حجة فعلية في ظرفها موضوعاً للآثار المستقبلية أيضاً، فههنا تظهر مدخلية وثمرة البحث المبنوي السابق فانه بناء على أن الوجود الممتد للفتوى السابقة هو موضوع الصحة والآثار فانه لا إجزاء إذ الفرض أن الفتوى انعدمت بتغير رأيه وأما بناء على أن مجرد الوجود الماضوي للفتوى السابقة علة محدثة ومبقية لآثار كافة ما جرى على طبقها فلا مناص من الإجزاء حينئذٍ.
وليس المستند في ذلك لزوم الهرج والمرج واختلال النظام وسلب وثوق الناس بالشريعة إذا بنينا على الإجزاء فانها وإن صحت لكنّها أخص من المدعى فتأمل بل المستند – كما سبق – بناء العقلاء من كافة الملل والنحل على ذلك إلا فيما نصوا على خلافه؛ ألا تراهم إذا وضعوا قانوناً في الضرائب أو كيفية البناء أو إسقاط العملة الورقية عن الاعتبار وغيرها، اعتبروه نافذاً من الآن في خصوص ما يستجد دون ما سبق وانهم إذا أرادوا الأثر الرجعي نصوا عليه؟
وسيرة المتشرعة كذلك
وكذلك سيرة المتشرعة المتصلة بل الثابتة في زمن المعصوم (عليهم السلام)، فإننا لم نجد بتتبع ناقص ([9]) مورداً واحداً أمر فيه الإمام (عليه السلام) الشيعة بالعمل على طبق الرأي الجديد حتى في الآثار المترتبة على ما جرى في وقته مستنداً إلى الرأي القديم، مع وضوح أن الفقهاء في زمنهم كانوا يفتون وكانت فتاواهم كثيراً ما تكون متخالفة، ووضوح أن الأئمة (عليهم السلام) أرجعوا الناس إلى فتاوى الفقهاء في زمنهم كما مضى تفصيله في بحث الاجتهاد والتقليد وتكفي الإشارة هنا إلى روايتين "عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ وَعَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ" ([10]) و"اجْلِسْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَأَفْتِ النَّاسَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ" ([11]).
بل إن الإمام (عليه السلام) كان هو الملقي للخلاف بينهم لحِكَم ومصالح (أنا خالفت بينهم) ([12]) بل كان يختلف جوابه (عليه السلام) ولذا أمرونا الأخذ بالأحدث، ولم نجد إشارة إلى لزوم عدم ترتيب آثار العقود والإيقاعات الماضية مع أنه مما يغفل عنه الناس عادة، ولا تجدي دعوى الإطلاق في ردعهم عن سيرتهم العقلائية المستمرة في البيع والشراء والنكاح والطلاق وغيرها. فتأمل وعلى أي فتمام البحث في مبحث الإجزاء. والله العالم.
الثمرة الثانية ومناقشتها
كما سبقت ثمرة أخرى للبحث المبنوي السابق من كون الوجود الماضوي هو الموضوع أو الوجود الممتد وهي:
(شمول موضوعات الأحكام للمتجدد منها
ومنها: أن ذلك المبحث الرباعي المحتملات يوضح بشكل أدق وأعمق سر ما ذهب إليه المشهور من أن الأحكام تابعة للصدق العرفي للموضوع ففي أي زمن صدق الموضوع عرفاً لَحِقه الحكم، فقد يحكم على الأمر الواحد بالحرمة فالوجوب أو الصحة فالبطلان أو العكس؛ لتغيّر الموضوع، بحسب الأزمان، عرفاً، فإن (الأمر) و(الحكم) إذا صب على الموضوع بوجوده المتجدد أو الممتد حقيقة أو اعتباراً كان ذلك كذلك دون ما لو صبّ على الموضوع بوجوده الماضوي.
ويوضحه ما ذهب إليه مشهور المتأخرين من شمول (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)([13]) للعقود المستأنفة كعقد التأمين، إذ من الواضح أنه لم يكن يعد عقداً في الأزمنة الغابرة لكنه يعد عقداً عُرفاً الآن فإذا كان الموضوع وهو (العقود) قد أخذ بوجوده الماضوي موضوعاً لـ(أَوْفُوا )لما شملها، لكنه حيث أخذ بوجوده الممتد شملها.
وكذا (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)([14]) فإن الدم مثلاً حيث لم تكن له فائدة محللة عقلائية لم يكونوا يرون المعاوضة عليه بيعاً ([15]) فلو أجري عليه العقد كان صورة بيعٍ وعقدٍ لديهم لا واقعه، لكنه حيث أصبح ذا فائدة الآن صدق عليه البيع فشمله (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، دون ما لو قلنا بأن (البيع) بوجوده الماضوي أخذ موضوعاً لـ(أَحَلَّ) فانه، عليه، لا يحل الآن أيضاً، وكذا الحال في بيع الهواء الممكن الآن بضغطه في جهاز الأوكسجين وغيره، عكس السابق.. وهكذا.
وسيأتي في الفائدة الثالثة ما يعمق ما ذُكر ومناقشته مع ذكر توجيه آخر) ([16]).
المناقشة: الموضوع الماضوي مرآة للأفراد المحققة والمقدرة فيشمل الموضوعات المتجددة
وقد حان الآن حين المناقشة الموعود بها وهي:
إنه اتضح من التقسيم السداسي اللاحق ([17]) أن الموضوع قد يؤخذ مرآة للأفراد الخارجية الموجودة على أن يكون الزمان قيداً وهو القسم الأول، وقد يؤخذ كمرآة للأفراد الحقيقية والمقدرة جميعاً وهذا هو القسم الثالث، ومنه يظهر أن عدم صحة التمسك بـ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بناء على أنه بوجوده الماضوي هو الموضوع إنما يتم إذا كان من القسم الأول دون ما إذا كان من القسم الثالث والقضايا الحقيقية كلها من القسم الثالث ([18]) والشريعة قد ابتنيت عليها دون القسم الأول فانه نادر فتدبر تعرف.
فظهر أن شمول موضوعات الأحكام للمتجدد منها يتم على كلا مبنيي كون الموضوع هو الكلي الطبيعي الثابت مفهوماً وهو الرابع والممتد حقيقة أو اعتباراً، ومبنى كون الموضوع قد أخذ مرآة للأفراد الأعم من المحققة والمقدرة أي الآتية لاحقاً. فتدبر جيداً والله الهادي.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي غَداً وَأَوْجَبَكُمْ عَلَيَّ شَفَاعَةً، أَصْدَقُكُمْ لِلْحَدِيثِ، وَآدَّاكُمْ لِلْأَمَانَةِ وَأَحْسَنُكُمْ خُلُقاً وَأَقْرَبُكُمْ مِنَ النَّاسِ" وسائل الشيعة: ج12 ص163.
............................................
أقول: ولكن بعد البحث وجدنا نصوص مقاربة (كما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "إِنَّ هَذَا خَيْرٌ لَنَا وَ أَبْقَى لَنَا وَ لَكُمْ وَ لَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَصَدَّقَكُمُ النَّاسُ عَلَيْنَا وَ لَكَانَ أَقَلَّ لِبَقَائِنَا وَ بَقَائِكُ" (الكافي: ج1 ص65) في جواب من قال له: "إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا قَالَ (عليه السلام) ذَلِكَ مِنْ قِبَلِي" (بحار الأنوار: ج2 ص236).
|