بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(176)
عدم معهودية القسم الخامس بل وعدم عقلائيته
ولكن الظاهر أن القسم الخامس وهو أن يؤخذ الموضوع ككلي طبيعي متغيّر مفهوماً موضوعاً للأحكام، وإن كان ممكناً إلا أنه غير معهود بل وغير عقلائي في الجملة؛ إذ موضوع الحكم هو موضوع الحكم وليس غيره سواء أكان المباين له وإن سمي بنفس اسمه، أم الأوسع الأعم أو الأضيق الأخص، والإمكان أعم من الوقوع.
نعم لو كان التغير قبل صدور النص بأن نُقل اللفظ لمعنى مباين أو أوسع أو أضيق، لكان المعنى المتغير إليه، إن نُقل إليه وهُجر المعنى الأول، هو الموضوع لكنه ليس حينئذٍ من صغريات القسم الخامس كما لا يخفى، وسيأتي تفصيل صور التغيُّر قبل صدور النص.
والحاصل: أن القسم الخامس نظرية هرمينوطيقية لا يستقر معها حجر على حجر ولا يبقى للأديان أساس بل ولا للقوانين البشرية إذا قيل بأن كافة أو أكثر الأحكام والقوانين هي من هذا القبيل.
نعم لو حصر ذلك في عدد محدود لما ورد إشكال الهدم وكونه غير عقلائي بالمرة وأمكن ذلك في موارد محدودة لِحِكَم خاصة لكن تبقى خلاف الظاهر الذي يحتاج معه إلى دليل، ومعه فإن الموضوع في الواقع متعدد وإن كان ظاهره أنه الموضوع القديم المتجدد بمفهومه. فتدبر.
تحقيق الحال في (التبيّن) في حساب الاحتمالات
وأما الاستدلال بحساب الاحتمالات وأن تبيّن كل شيء بحسبه وأنه يعدّ تبيّناً علمياً وفي العرف أيضاً، فيرد عليه:
أقسام التبيّن الأربعة
إن التبيّن، بالمعنى الأعم ([1])، على أربعة أقسام:
1- التبيّن بعلم اليقين أو حقه أو عينه
الأول: التبيّن بالعلم، وهو على أقسام ثلاثة ذات مراتب ثلاثة:
أ- علم اليقين، ب- حق اليقين، ج- عين اليقين.
فأما (علم اليقين) فهو حضور صورة الشيء المطابقة له تمام المطابقة لدى العالم جازماً به فإنه على يقيني حتمي.
وأما (حق اليقين) فهو حضور الشيء بنفسه لدى العالم كحضور الصور العلمية بذاتها لدينا وحضور قوانا وآلات القوى لدى النفس، فإن حضور الشيء بنفسه لدى العالم أقوى من حضور صورته لديه، وحضوره لديه بكونه بنفسه في حيطته. ومن الواضح أن علمنا بعلومنا وصورنا الذهنية ليس صورة عنها وإلا للزم التسلسل بل هو بحضورها بنفسها لدى الذهن.
وأما (عين اليقين) فهو حضور نفس العالم لديه أي علم الشيء بنفسه فانه بعينية العالم للمعلوم، وهو أقوى من سابقه؛ للاثنينة في السابق بين العالم والمعلوم والعينية ههنا ([2]).
ولا يخفى أننا حققنا في موضع آخر ([3]) أن العلم لا بالحصول ولا بالحضور فليراجع.
2- التبيّن بالعلمي
الثاني: التبيّن بالعلمي ([4]) والمراد به ما قام على حجيته دليل معتبر بالخصوص وهو الظن المعتبر فهو علمي أي منزّل منزلة العلم.
3- التبيّن الانسدادي
الثالث: التبيّن الانسدادي والمراد به الظن المطلق الذي يكون، على مسلك انسداد باب العلم والعلمي، حجةً لا من باب الدليل الخاص، سواء على الكشف أم الحكومة.
والانسداد قد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً فالصغير ما اقتصر على باب من الأبواب كباب الطهارة مثلاً والكبير ما عمّ أبواب الفقه كلها، كما أن الانسداد قد يكون في مبادئ الاستنباط كعلم الرجال مثلاً فقد ينتج انسداد باب العلم في الفقه كله وقد ينتج انسداد بعضه.
4- التبيّن في مرحلة الانسداد الأكبر
الرابع: التبيّن في مرحلة الانسداد الأكبر، وهو ما استحدثناه ([5])، وهو التبيّن الاحتمالي أو الموهوم وهو الذي استند إليه في مبحث حساب الاحتمالات كما يستند إليه في مبحث منجزية الاحتمال وإن كان ضعيفاً كواحد بالمائة إذا كان المحتمل خطيراً.
فهذا ليس حتى من دائرة الظن المطلق بل هو من دائرة الوهم أو الاحتمال المرجوح لكنه مع ذلك يراه العقلاء لازم الاتباع، لكنه لدى الدقة ليس من التبيّن في شيء بل أطلق عليه التبيّن مجازاً ومسامحة؛ إذ التبيّن من بانَ وظهرَ والاحتمالات دون الخمسين بالمائة لا يتبين بها الواقع ولا يظهر، ومنشأ الخلط أنه (احتمال معتبر أو لازم الاتباع) وليس (تبيّناً معتبراً).
وبعبارة أخرى: هو حجة بمعنى أنه لازم الإتباع لا بمعنى الكاشفية إذ ليس بكاشف بل هو مجرد احتمال للواقع ومحتمل الكاشفية وكونه لازم الاتباع ناشئ من الانسداد واللابدية، لا من كاشفيته وحجيته الذاتية أو هو ناشئ من الخطر المتوجّه من احتمال الإصابة فليس الاحتمال هو المنجر بل الخطر المحتمل ولولاه لما كان لازم الإتباع ([6]).
معنى التبيّن لغةً وعرفاً
والحاصل: أن التبيّن لغةً وعرفاً ودقة لا يطلق إلا على التبيّن بالعلم أو التبيّن بالعلمي، أما التبيّن الانسدادي بالانسداد الصغير أو الكبير فمجاز فإنه مادام لم يدل عليه على حجيته دليل خاص وما دام لم تُتَمَّم كاشفيتُه فليس بتبين، سلمنا لكنه منصرف عنه.
وأما إطلاق التبيّن على الاحتمال المرجوح لدى الانسداد الأكبر فغلط أو مسامحة بينة، دليلنا صحة السلب إذ يقال: لم أتبين ولكن احتمل، هذا أولاً.
وثانياً: أن هذا التبيّن لو كان حجة فهو تبيّن على الوظيفة وليس تبيّناً للحكم أو للمخبر عنه، والفرق بينها كبير، فانه ليس بكاشف عن الواقع ولكنه يجب العمل على طبقه ولذا لا يعمل به في غير صورة الانسداد الأكبر. وللبحث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ، أَلَا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ، إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ وَضَمِنَهُ وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ" الكافي: ج1 ص30.
...............................................
|