بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(171)
(هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) دليل على الوجود الممتد
وقد يستدل أيضاً على أحد الوجوه الثلاثة الأخيرة بقوله تعالى: (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ)([1]) فان هذا اسم إشارة للحاضر مكاناً وزماناً أما الغائب البعيد زمناً أو مكاناً فيشار إليه بذاك أو بذلك أو ذياك أو ذيالك، فالمشار إليه هو الوجود الحالي للأوامر والنواهي والعمومات والمطلقات القرآنية، فيكون الحاكم المنفصل منفصلاً عن وجودها الماضي، لكنه ليس هو الباعث أو الزاجر بل وجودها الحالي هو الباعث الزاجر والحاكم متصل به حقيقة فيعنونه فتأمل إذ قد يقال: بأن (هذا) بنفسه وجوده ماضوي فالإشارة ماضوية وكذا المشار إليه، وقد يجاب: بأنه خلاف الظاهر المرتكز في الأذهان فان المفهوم عرفاً من اسم الإشارة والإشارة والمشار إليه هو الحاضر، وقد ينقض بأن الخاص يكون حاله كحال الحاكم حينئذٍ فلا بد من القول بانه متصرف رغم انفصاله بظهور العام وإرادته الاستعمالية في وجوده الممتد الحالي. فتأمل ([2]).
وقد يستدل بعدد من الروايات:
و(يَجْرِي كَمَا تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَر) دليل آخر
ومنها: "عَنِ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، مَا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ قَالَ ظَهْرُهُ [تَنْزِيلُهُ] وَبَطْنُهُ تَأْوِيلُهُ وَمِنْهُ مَا قَدْ مَضَى وَمِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ، يَجْرِي كَمَا تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَر"([3]) ومن الواضح أن جريان الشمس والقمر حقيقي متجدد آناً فآناً (والأدق انها حركة مستمرة متصلة واحدة) وليس أن الشمس كانت في الماضي وقد بعثت من نورها للمستقبل، فكذلك المشبه بهما وهو القرآن فهو يجري حقيقة عبر الأزمان.
وحصر الجريان بالمعاني أو الآثار خلاف الظاهر وتخصيص بلا مخصص مغاير لظهور التشبيه بالشمس والقمر الممكن حمل جريانهما على جريان نورهما.
(إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ) دليل أيضاً
و: "عن أبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وَإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَيَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا"([4]).
و(القرآن حي لا يموت) صريح في حياته وظاهر في شموله لظاهره وباطنه وألفاظه ومضامينه، وحمل الحياة على دوام الأثر مجاز لا يصار إليه إلا لدى تعذر الحقيقة وهي ممكنة؛ إذ أي محذور في كون القرآن بألفاظه حيّاً وإن استغربناه لمحدودية عقولنا ومشاعرنا؟.
ألا ترى قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)([5]) والذي لا وجه لحمله على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ولا منشأ للاستغراب إلا الجهل بحقائق الأشياء وعدم الإحساس بالتسبيح بل في شهادة القرآن على قارئيه يوم القيامة دلالة على ذلك أيضاً إذ الظاهر أن القرآن كوجود مقروء يشهد لا كمعاني ومضامين.
بل قد يؤيده أو يدل عليه ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) من "عن الحسين بن خالد قال قلت للرضا يا ابن رسول الله أخبرني عن القرآن أ خالق أو مخلوق فقال ليس بخالق و لا مخلوق و لكنه كلام الله"([6]) إذ عدم كونه خالقاً واضح وأما عدم كونه مخلوقاً فان المراد به عدم كونه مخلوقاً كسائر المخلوقات وذلك لأنه حيٌّ عكسها؛ لوضوح بطلان دعوى عدم كونه مخلوقاً وإلا لكان شريك الباري فالقرينة العقلية تسوق إلى أن المنفي مقيّد والظاهر أن مجموع المقيد وقيده هو هكذا: (ليس مخلوقاً كسائر المخلوقات) فإنه أقرب المجازات أو أظهرها، وكونه مخلوقاً لا كسائر المخلوقات أظهر أنواعه أنه مخلوق حي لا كسائر الجمادات التي هي مخلوقات غير حيّة. فتأمل.
لا يقال: المراد من (حي لا يموت) بمعانيه ومضامينه ومفاهيمه.
إذ يقال: إضافة إلى أنه خلاف الإطلاق، فانه – على هذا – لا يعد ميّزة إذ كثير من الكتب أو الحكم حيّة بمضامينها لا تموت، بل حتى مثل الانجيل المحرف فانه لو كان المقياس المحتوى فإنه حيّ في نفوس مئات الملايين بل قد يكون من هذه الجهة أقوى حياةً من القرآن الكريم بل حتى تعاليم الطغاة والضالين ككتاب (الأمير) فانه حي منذ مئات السنين في أفكار ونفوس غالب المستبدين، ولا يدفع ما ذكر كونه الوحيد الحق والحي فانه الجامع للصنفين إذ قد ينقض بمثل نهج البلاغة والصحيفة السجادية، والمشككية لا تدفع النقض، ويحلّ بأن الكلام عن الحياة والمطابقة أجنبية عن هذه الجهة.
ولكن: هناك وجوه من التأمل في ما سبق كله. فتأمل
العنونة بناء على الوجود المتجدد أو الممتد
ثم انه إذا ذهبنا إلى الوجود المتجدد للعمومات والأوامر والنواهي أو إلى الوجود الممتد حقيقةً أو اعتباراً، وأن الانبعاث والانزجار إنما هو عن هذا الوجود الحالي (بأحد أنواعه الثلاثة) فانه لا إشكال من حيث عنونة الحاكم في مرحلة الظهور والإرادة الاستعمالية للمحكوم فانه – على المباني الثلاثة – متصل حقيقة إذ الفرض انه لا يُعنوِن العمومات بوجودها الماضوي ليكون متأخراً عنها زمناً بل انه يعنون الوجود الحالي فهو مقارن حقيقةً وحيث كان اللسان لسان التنزيل والحكومة عَنَونَه عكس ما لو كان لسان التخصيص. فتأمل
العنونة بناء على الوجود الماضوي
وأما إذا ذهبنا إلى الوجود الماضوي، فانه يمكن عليه أيضاً أن يقال بالعنونة، ولا يتوهم استحالته لأن الماضي لا ينقلب عما وقع عليه إذ حيث صدر الأمر أو العام في الماضي وانفصل عنه حاكمه فقد انعقد ظهوره فكيف ينقلب الظهور إلى ضيق بعد ورود الحاكم بعد أن انعقد في الماضي واسعاً؟
وذلك ([7]) لأن من الممكن دفع توهم الاستحالة على المسالك الثلاثة: التعهد والقرينية الاشتراطية الاعتبارية والقرينية الذاتية.
العنونة بناء على مسلك التعهد
أما على الأول فواضح: إذ عليه يكون المستعمِل متعهداً بأن يستعمل العام في المعنى العام الموضوع له لكن معلقاً على عدم مجيئه بحاكم ولو منفصل في متأخر الأزمان، فظهوره مراعى ومعلق، وعدم الوجود اللاحق شرط متأخر لانعقاد الظهور من حين الصدور.
نعم، غاية الأمر انه إذا جاء بالعام ثم لم يطرق الحاكمُ سمعَ المكلف فانه يتوهم الظهور لكن توهم الظهور أمر وانعقاده أمر آخر ولذا إذا جاء الحاكم، بناء على أن التعهد كان كما ذُكر، انكشف له فساد توهمه وانه لم يكن هنالك ظهور ثبوتاً أبداً.
وبناء على القرينية الاشتراطية أو الذاتية
وأما على القول بالقرينية الاشتراطية الاعتبارية: فبأن يقال بأن انعقاد الظهور معلق على عدم وجود حاكم لاحق أي أن انعقاده قد أخذ فيه عدم لحوق حاكم تنزيلي ولو في الأزمان المتأخرة حتى وقت العمل والحاجة، وذلك كما أخذ في انعقاد الإرادة الجدية عدم وجود المخصص اللاحق على قول ([8]) وإن كان المشهور غلبة الإرادة اللاحقة على الإرادة السابقة.
والأولى التمثيل لذلك بمقام التعليم فانه كذلك فتدبر.
والأمر في القرينية الذاتية أوضح، والمراد بها أن يكون لسان الحاكم بذاته مُعنوِنا حقيقةً للمحكوم.
الدليل في عالم الإثبات
وهذا كله في مقام الثبوت لدفع توهم الاستحالة، وأما في مقام الإثبات فإن اتيانه بالمخصص بلسان الحاكم هو الدليل على أنه أراد عندئذٍ الموضوع بإخراج بعض أفراده عنه عنوانياً ولولا ذلك لما كان وجه للسان الحاكم بل كان يكفي التخصيص المعهود وحده، فتأمل
والحاصل: انه كما لو كانت هنالك قرينة متصلة فخفيت علينا ثم ظهرت لنا بعد فترة، فانه يكون انعقد الظهور ثبوتاً ضيقاً ولم يكن منا إلا توهم انعقاده واسعاً ولذا إذا علمنا بوجود قرينة متصلة ظهر لنا فساد ذلك التوهم، فكذلك المقام إذا جاء الحاكم التنزيلي لاحقاً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "طَلَبْتُ الْقَدْرَ وَالْمَنْزِلَةَ فَمَا وَجَدْتُ([9]) إِلَّا بِالْعِلْمِ، تَعَلَّمُوا يَعْظُمْ قَدْرُكُمْ فِي الدَّارَيْنِ.
وَطَلَبْتُ الْكَرَامَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، اتَّقُوا لِتَكْرُمُوا.
وَطَلَبْتُ السَّلَامَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، أَطِيعُوا اللَّهَ تَسْلَمُوا.
وَطَلَبْتُ الْعَيْشَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِتَرْكِ الْهَوَى، فَاتْرُكُوا الْهَوَى لِيَطِيبَ عَيْشُكُمْ"
جامع الأخبار: ص123.
..................................................
|