• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : المكاسب المحرمة (1433-1434هـ) .
              • الموضوع : 27- تتمة الاستدلال بالمقطع الثاني   ـ الاستدلال بالمقطع الثالث : ( وذلك انما حرم الله الصناعة التي هي حرام كلها...) .

27- تتمة الاستدلال بالمقطع الثاني   ـ الاستدلال بالمقطع الثالث : ( وذلك انما حرم الله الصناعة التي هي حرام كلها...)

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 
كان الحديث حول الاستدلال برواية تحف العقول على حرمة حفظ كتب الضلال ومختلف التقلبات في مسببات الفساد، ووصل الكلام الى الفقرة الثانية فيها
تتمة موجزة: وقلنا ان الفقرة الثانية تتضمن خمس جمل يمكن الاستفادة من كل منها في الاستدلال على المراد وذكرنا الجملة الاولى مع بعض التوقف عندها، هذا ما مضى.
الجمل الخمسة في الفقرة الثانية:
اما الجملة الاولى فقد سبقت وهي: " " كل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله " وقد ذكرنا بعض الحديث عن فقه كلمة (مما)
واما الجملة الثانية فهي: " او يقوى به الكفر والشرك "
واما الجملة الثالثة فهي: " او باب من الأبواب يقوى به باب من ابواب الضلالة "
واما الجملة الرابعة فهي: " او باب من أبواب الباطل"
واما الجملة الخامسة: "او باب يوهن به الحق "
وهذه الجمل الخمسة كل منها كفيل لاثبات المدعى للاستدلال، وفيها مبحث عديدة نتركها لتدبركم وتأملكم.
( الفرق بين الإمساك والملك ) ثم يقول الإمام في الرواية: " فهو حرام محرم، حرام بيعه وشرائه و إمساكه وملكه "، ولكن ما هو الفرق بين الإمساك والملك؟
والجواب: انه في (إمساكه ) يوجد احتمالان:
الاحتمال الاول: ان يكون المراد هو الإمساك المادي بالجوارح، وعلى هذا فان إمساك الإنجيل المحرّف مثلاً سيكون محرما, أي:  ليس فقط حفظ كتب الضلال محرماً, بل ان الحرمة تشمل حتى الامساك لها.
الاحتمال الثاني: ان يكون المراد هو الإمساك المعنوي بالحفظ - وهو مورد الكلام- فلو حفظ الإنسان كتب الضلال فانه وان لم يكن مالكا لها فانه قد امسكها، والرواية - بناءا على هذا الاحتمال – تفيد حرمة ذلك,
و أما (الملك) فان نسبته مع (الإمساك الجوارحي) هي من وجه؛ لانه قد يكون الكتاب مملوكا لك لكنك لست ممسكا له بالجوارح، كما لو كان في محل اخر، وقد تكون ممسكا له بالجارحة ولست مالكا له[1]؛ ولذا ذكر الامام (عليه السلام) كلتا اللفظتين ( امساكه، ملكه) في الرواية.
واما لو اريد بالإمساك الإمساك المعنوي لا المادي، فان النسبة ستكون العموم والخصوص المطلق لان كل مالك لشيء فهو ممسك به معنويا، فتدبر[2].
ثم يقول الإمام (عليه السلام) في نهاية النقطة الثانية: " وهبته و عاريته وجميع التقلب به إلا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك"
هذا هو المقطع الثاني من الرواية ونكتفي بهذا القدر منه
المقطع الثالث من الرواية: وقد اشار اليه صاحب الجواهر والمكاسب وآخرون، وسنتدبر في بعض فقرات هذا المقطع ونترك التوقف طويلا الى محل اخر[3]
حيث يقول الإمام (عليه السلام) فيه: " وذلك إنما حرم الله الصناعة التي حرام هي كلها التي يجيء منها الفساد محضا[4] نظير البرابط[5] والمزامير والشطرنج وكل ملهو به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من وجوه الاشربة الحرام وما يكون منه وفيه الفساد محضا "، وللرواية تتمة ولكن نتوقف ألان عند بعض مفرداتها[6] حيث يقول الإمام عليه السلام: " إنما حرم الله الصناعة التي حرام هي كلها "
التوقف الأول: وهو بلحاظ كلمة ( الصناعة )، فهل إن حفظ كتب الضلال صنعة وصناعة؟ وكيف استدل صاحب الجواهر وكذا صاحب المكاسب والفقه وآخرون على مسألتنا بهذه الجملة؟ فانه لا بد من حل هذه المشكلة من خلال بيان معنى مفردة الصناعة.
الجواب: تصحيح الاستدلال على مدعانا: ولكي نصحح الاستدلال بهذه الجملة على مسألتنا, فان هناك وجهين في المراد بكلمة ( الصناعة ) والمراد إثباته بها:
الوجه الأول:  أن نقتصر في الاستناد على هذه الرواية لتحريم حفظ كتب الضلال، على ما كان منها بنحو (الصناعة) كالطباعة لها مثلا، فان الطباعة صناعة من الصناعات,
 و عليه: فان الرواية ستفيد معنى أضيق مما ذكره الأعلام، وان كل ما كان صناعة متعلقة بكتب الضلال فهي محرمة، وحيث ان أصل حفظ هذه الكتب بما هو هو، لا ينطبق عليه عنوان (الصناعة) فلا يكون هذا المقطع من الرواية دالا على حرمة الحفظ[7].
الوجه الثاني:  وإما الوجه الثاني: فهو ان ندعي إن (الصناعة) تنطبق أيضا على حفظ كتب الضلال بما هي هي.
توضيحه: انه قد قسّم الإمام (عليه السلام) في رواية تحف العقول المعاملات والمكاسب والمعايش إلى أربعة أقسام وهي: الولايات والتجارات والإجارات والصناعات، وعلى ضوء ذلك فانه:
اشكال على الرواية: القسمة ليست حاصرة قد استشكل البعض على الرواية بما اعتبره موهنا لها، وهو أن هذا التقسيم الرباعي ليس بعلمي ؛ لأنه ليس حاصرا, فان معايش العباد ليست منحصرة بالأربعة المتقدمة بل توجد الزراعات وحيازة المباحات والعمارات وغيرها مما لا تندرج تحتها[8].
إجابة الإشكال: وقد أجيب على هذا الإشكال بوجوه ذكرت متناثرة في كلام الأعلام, - ومنهم اليزدي والوالد -
ومنها: إن مراد الإمام (عليه السلام) من الصناعات هو كل ماعدا تلك الثلاثة المتقدمة، أي: ليس المراد من الصناعة المعنى المصطلح بل الأعم منه - والحال فيها كما هو الحال في كلمة المعاملات والمكاسب حيث إن المراد منهما في الرواية هو المعنى الأعم كذلك - ، ويدل على ما ذكرناه مجموعة من القرائن منها:
إن نفس كلام الإمام (عليه السلام) في متن الرواية صريح في إن الصناعة هي (مثل الكتابة), والكتابة عرفا لا تسمى صناعة، أي: إن الإمام (عليه السلام) في مقام بيان أن مراده من الصناعة هو المعنى اللغوي العام[9] لا المعنى الاصطلاحي.
وكذلك فان الإمام (عليه السلام) قد طبق الصناعة على (الحساب) بصريح عبارته (عليه السلام) وهو ليس بصناعة وكذلك طبّقه (عليه السلام) على (البناء)[10] وهو ليس بصناعة وهكذا.
إذن: المراد من الصناعات هو القسيم المطلق الواقع في قبال تلك الأقسام الثلاث المتقدمة – كما بينا –، ولو قبلنا هذا التفسير والتوجيه[11] فبها، ولكن لو لم نقبل ذلك فإننا سنقتصر على الجواب الأول التنزلي.
فقه (التي يجيء منها الفساد محضاً) ثم يذكر الإمام (عليه السلام) في الرواية: " إنما حرم الله الصناعة التي حرام هي كلها (وهذا هو المقطع الأول )،  التي يجيء منها الفساد محضا ( وهذا هو المقطع الثاني )، فانه وبحسب المقطع الثاني فان حفظ كتب التواريخ المشتملة على الضلال والفساد ليست محرمة، وأما الكتب المتمحضة في الإضلال فهي حرام.
وبناء على ذلك: سيكون كلامنا دليلا في الجملة لصاحب الجواهر لا بالجملة، بل يكون دليلا للمفصلين في مسالة الحفظ – كصاحب مفتاح الكرامة –[12] والاردبيلي على ما نقله عنه وغيرهما.
هل المراد النوع او الصنف او الشخص؟
وهنا مبحث مهم فهل المراد من (. .......التي يجيء منها الفساد محضا ) النوع؟ أو الأعم من النوع والصنف؟ أو الأعم من النوع والصنف والشخص؟
توضيح ذلك: ونقول في توضيح ذلك: انه تارة تكون الصناعة بما هي هي وكنوعٍ كلّي مما لا يجيء منها الفساد محضا، ولكن الصنف الخاص من ذلك النوع هو الذي يجيء منه الفساد المحض،
وتارة أخرى: لا يكون النوع ولا الصنف بما هو هو علة للفساد، وإنما يكون الشخص والمصداق المحدد هو كذلك ، أي يجيء منه الفساد شخصا،
وعليه فلو عممنا المراد ليشمل (ما يجيء من شخصه ومصداقه الخاص، الفساد) فان ذلك سينطبق على كتب التواريخ إذا كان حفظ شخص لها – بلحاظ خصوصياته الخاصة - موجبا لفساده محضا فلو كان هناك شخص لديه في بيته كتاب تاريخ – وفيه ضلال – وكان ابنه ذا عقائد متزلزلة،  وكان حفظ خصوص هذا الكتاب يؤدي إلى انحراف ابنه، فانه سيكون حفظه محرما وان لم يكن (نوعا) الفسادُ المحض جائيا من (حفظ هذا الكتاب).
وعليه: فهل الرواية تدل على الأعم أو الأخص؟ قد يقال: انه يمكن التمسك بالإطلاق[13]لإثبات الأعم
وقد يجاب: بان الظاهر عرفاً من هذه اللفظة هو الإرجاع للنوع لا الصنف أو الشخص ، وان هذه الصناعة بما هي هي وكموضوع كلي ونوع التي يجيء منها الفساد محرمة، فإن الظاهر عدد الضمير (منها) إلى نفس الصناعة لا إلى أفرادها، إضافة الى أن الظاهر ان (أل) في (الصناعة) هي للجنس، لا الاستغراق.
والإطلاق محكّم لولا هذا الظهور العرفي في الإرجاع إلى النوع، ويؤيد ذلك تمثيل الإمام ع في الرواية بذكر أمثلة كلها نوعية وليست شخصية نظير( البرابط والمزامير والشطرنج والصلبان ) فان ظاهر تمثيل الإمام (عليه السلام) يؤكد ذلك الظهور، وهذا هو المقطع الثاني من الرواية.
المقطع الثالث من الرواية:
وأما المقطع الثالث من الرواية فهو: " وما يكون منه وفيه الفساد محضا "، فما هو المراد من هذه الفقرة؟
و الجواب: الظاهر ان الإمام (عليه السلام) يشير إلى جهتين:
اولا: الجهة الطريقية
ثانيا: الجهة الموضوعية
فان الإمام (عليه السلام) يبين: بان هناك ما يكون منه الفساد، أي ما هو مقدمة للفساد،
وانه سيكون محرما لطريقيته له، وان لم يكن بحد ذاته ونفسه فاسدا، هذه هي الجهة الطريقية،
واما الجهة الموضوعية فهو الشيء الذي يكون بنفسه فاسدا وفيه فساد، وان لم يكن منه فساد، وانه محرم من جهة موضوعيته ونفسه
ومثاله: الخمر فان فيها الفساد، ولكن صناعة السفن لا فساد في حد ذاتها، إلا ان هذه الصناعة لو أريد بها بيعها لأعداء الدين فسيكون مثلاً (منها الفساد)، وتكون حرمة صناعتها طريقية لا موضوعية أي ناشئة من جهة فساد خارجية مترتبة عليه، لا جهة فساد داخلية كامنة فيه.
تطبيق الكلام على مسألتنا: ونأتي إلى مسألتنا في حفظ كتب الضلال فان حفظها على قسمين، فتارة يكون فيها الفساد كما في الكلام الشركي فان الله يبغضه بنفسه، وتارة أخرى يكون الكلام كلام حق ولكن اريد به باطل كما في شعار ( لا حكم إلا لله ) الذي رفع ضد خليفة الرسول حقاً بقصد ردّ حكمه وكلامه الذي هو في واقعه حكم الله فان فيه مقدمية وطريقية للباطل، وكذلك إعطاء كتاب حق لشخص لا يفهمه جيداً فيزيغ بمطالعته.
وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
 
[1] - كالمستعير والمؤتمن وغيرهما
[2] - أما الإمساك المعنوي فيشمل إضافة للمالك، ذا الحق، كحق الاختصاص وغير ذلك.
[3] - إذ محصل تفصيل ذلك هو أول المكاسب المحرمة.
[4] - وهذا المقطع استدل به على حرمة حفظ كتب الضلال كذلك
[5] - والبرابط جمع بربط , قيل المراد به العود وقيل غير ذلك
[6] - نكتة لطيفة : كان السيد الأستاذ يعطي بحثه في المدرسة الغروية في حضرة امير المؤمنين (عليه السلام), فحدثت خلال الدرس بعض التشويشات على الطلبة وحدثت ضوضاء شديدة من بعض العمّال، فذكر سماحته لطيفة من لطائفه التي ما برح يزودنا بها حيث قال :
"نرجو ان لا تؤثر هذه المشوشات الخارجية على ذهنية الطلبة وعلى تركيزهم، ونذكر بهذه المناسبة نكتة هامة فان الناس على قسمين وعليكم بان تكونوا من القسم الثاني : اما القسم الاول فهم اؤلئك الناس من علماء او اطباء او مهندسين او عامة ممن تشوّش على اذهانهم المؤثرَات الخارجية، فان بعض الناس هكذا بحيث لو حدثت في المنزل ضوضاء لاطفال او غيرهم فانهم لا يستطيعون التركيز والابداع، واما القسم الثاني من الناس فيستطيعون ان يعتكفوا في قلعة داخلهم ويكونوا بمعزل إرادي عن المحيط الخارجي بالمرة وهم الاقلون عددا، ويمكن للانسان بالرياضة وبالتدريج ان يتحول من القسم الاول الى الثاني فيكون نظير " فأووا الى الكهف " وهذا الكلام ينفع خاصة لأولئك الذين يعيشون في منازل فيها ضوضاء واطفال، فعلى الفرد ان يعود نفسه على ان يغرق في المطالعة والدراسة وكأنه قد وضع نفسه في غرفة زجاجية عازلة قد اطبقت على وجوده فعزلته عن الصوت والخارج، ويوجد من الاعلام من هو هكذا، وكان منهم السيد الوالد u فقد دخلت عليه مرة في غرفته وهو مشغول بالتأليف فوجدت عنده خمسة او ستة اطفال صغار من احفاده ومتعلقيه وهم يقفزون ويصرخون ويلعبون على ديدن الأطفال، لكنه أي السيد الوالد لم يتأثر بذلك وكان مستغرقاً بالكتابة وكأنه يعيش في عالم اخر، فلنكن من هذا القسم حتى نتكيف ونبدع في كل حال وبمختلف الظروف "
[7] - هذا هو الوجه الأول التنزلي والتسليمي
[8] - وقد ذكرها المحقق اليزدي في حاشيته، وغيره.
[9] - أي المعنى اللغوي العام للثلاثي المجرد (صَنَع) وانه هو مراده من (الصناعة) وليس حتى المعنى اللغوي لـ(الصناعة) فتدبر.
[10] - تحف العقول ص 364 ط ثانية/ دار القارئ.
[11] - وقد ذكر المحقق اليزدي ما بيناه وقد ذكرناه مع مزيد الإضافة والتوضيح، بل لعل ما ذكرناه أعم مما ذكره.
[12] - على ما نقله عنه في الجواهر ج22 ص58 ط9/ دار الكتب الإسلامية.
[13] - إطلاق (التي يجيء) أي التي يجيء من نوعها أو صنفها أو شخصها.
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2369
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 20 ذي الحجة 1433هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 23