• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : المكاسب المحرمة (1433-1434هـ) .
              • الموضوع : 26- تتمة الاستدلال برواية تحف العقول المقطع الثاني :    ـ والمعاني المحتملة الثلاثة لكلمة (مما) في (مما يتقرب به لغير الله...) .

26- تتمة الاستدلال برواية تحف العقول المقطع الثاني :    ـ والمعاني المحتملة الثلاثة لكلمة (مما) في (مما يتقرب به لغير الله...)

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
 
كان البحث حول حرمة حفظ كتب الضلال، ومطلق التقلبات في مسببات الفساد، وبدأنا من الأدلة بالآيات الشريفة، ثم ثنينا بالروايات الكريمة، ووصلنا إلى رواية تحف العقول، وذكرنا انه يوجد في هذه الرواية بحث سندي سنشير له لاحقا بما يتضمن فائدة جديدة إن شاء الله تعالى، وكذلك يوجد بحث دلالي فيها[1] ابتدأنا به.
الاستدلال بثلاثة مقاطع من الرواية:
وذكرنا أن هذه الرواية يمكن الاستدلال فيها بمقاطع ثلاث على المراد:
المقطع الأول:  
وقد مضى المقطع الأول بوجهه، وبينا أن هذا المقطع لم يذكره صاحب الجواهر أو المكاسب أو غيرهم، ولكن الظاهر أن الاستدلال به – على فرض ثبوت السند – تام.
المقطع الثاني:  
وأما المقطع الثاني من الرواية فقد ذكره صاحب الجواهر وكذا صاحب المكاسب وآخرون، ونحن سنتوقف في هذا المقطع حيث لم يتوقف القوم لنتناول فقه الحديث في بعض الكلمات مما يرتبط بالمقام، وهي كلمة واحدة فقط ولكنها ترتبط ببحثنا بصورة مباشرة،
وهي كلمة (ممّا)، وهذا المقطع من الرواية مندرج في مبحث التجارات من الرواية[2] حيث يقول الإمام (عليه السلام):
"وكذلك كل بيع ملهو به، وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله أو يقوى به الكفر أو الشرك من جميع وجوه المعاصي......"
وهذا المقطع من الرواية - كما سيأتي - يتضمن خمس فقرات يمكن الاستناد إليها[3]،
الفقرة الأولى:
 "كل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله" ، وهذا المقطع من الرواية مع تفسيره الأتي مما يمكن أن يستند إليه – إما في الجملة أو بالجملة – لحرمة حفظ كتب الضلال أو تسويقها أو ترويجها أو طباعتها أو ما أشبه ذلك.
المشكلة في المقام:  الكلام في تحقق الموضوع:
ولكن المشكلة الأساسية في المقام هي أن كلام الإمام عليه السلام حيث يقول:
 "كل منهي عنه" جعل الموضوع هو (المنهي عنه) ولا محرز لدينا حتى الآن، لكون حفظ كتب الضلال منهياً عنه؟ أي: إن الكلام – عند اللجوء إلى هذه الرواية وغيرها – إنما هو في إثبات ان مسألتنا هي صغرى لتلك الكبرى وهذا مما لا يثبت بهذه الفقرة[4]،
فانه – حتى ألان – ليس محرزا إن حفظ كتب الضلال منهي عنه كي نتمسك بدلالة هذه الرواية على حرمة بيعها أو شرائها أو إمساكها او غيرها.
بعبارة أخرى: ان الحكم غير متكفل ببيان موضوعه والرواية رتبت تحريم التجارات على كونه منهيا عنها ونحن لمّا يثبت عندنا حتى الآن ان حفظ كتب الضلال منهي عنه
التدبر في كلمة (مّما):
ولكن الاشكال المتقدم يندفع من خلال التدبر في كلمة (مما)[5] حيث توجد
ثلاث احتمالات في كلمة (من)[6]:
1) ان تكون (من) تبعيضية
2) ان تكون (من) بيانية
3) ان تكون (من) تعليلية
وسيظهر لنا بعد بيان هذه الاحتمالات الثلاث انه سواء كانت (من) تعليلة او بيانية او تبعيضية، فان الإشكال المتقدم مندفع على كل حال، وسيكون هذا المقطع من الرواية دالا على المراد
الاحتمالات الثلاثة وتطبيقها على الرواية
والمعنى التفسيري الأول:
هو ان تكون (من) بيانية، أي لبيان الجنس.
ولتوضيح صغرى البحث نقول:  انه في قوله تعالى: (لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ)، كلمة (من) التي جاءت قبل (زقوم) هي بيانية، ومعناها شجر من جنس الزقوم، او شجر هو الزقوم فيكون الزقوم بياناً للشجر، وكذلك في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ) فان (من) في المقام بيانية والمعنى هو: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان
علامة (من) البيانية:  
واما علامة (من) البيانية فهو احد شيئين – بحسب التدبر -: أما العلامة الأولى فيمكن ان يوضع مكانها (هو) أو (الذي هو) او (التي هي)[7],
و اما العلامة الثانية فهو انه يمكن ان تضع كلمة (جنس) بعد (من)،
ولعل التعويض الأول أوضح واولى[8]  
وفي روايتنا:  "وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله"،
اننا إذا قلنا إن (من) الواردة فيها بيانية, فسيكون المعنى (كل منهي عنه الذي هو ما يتقرب به لغير الله...)، فتكون (من) بيانية تفسيرية، فالمنهي عنه هو نفس ما يتقرب به لغير الله تعالى او يقوى به الكفر او الشرك،
وعليه: فالإشكال المتقدم مندفع؛ لان الإمام (عليه السلام) قد فسر المنهي عنه بما يتقرب به لغير الله، فيكون هو الضابط وعليه المعوّل وإليه المرجع ففي مسألتنا لو ان شخصا حفظ كتب الضلال بقصد الإضلال تقربا لغير الله تعالى، كان مشمولا لهذه الرواية ومصداقا لها، او لو انه حفظها لكي يقوى به الكفر والشرك، فان الإمام (عليه السلام) في المقام – لعلَّه – قد ذكر بديلين:  
الاول: مما يتقرب به لغير الله تعالى وحفظ كتب الضلال تقربا للشيطان او الطواغيت ينطبق عليه البديل الأول،
ولكن أحيانا نجد ان الشخص لا يقصد هكذا تقرب و انما قصده هو تقوية الكفر او الشرك فقط – وهو البديل الثاني - كأن يكون هو إمام باطل يهدي إلى النار فينشر هكذا كتب لأجل غرضه الفاسد.
والحاصل: انه وإن كان الشك في (الموضوع) – وهو صدق عنوان المنهي عنه على حفظ كتب الضلال – إلا أن التفسير الوارد بعدها، يحل الشك، أي ان هذا التفسير ينقح (المنهي عنه) ويوضح المراد به.
2-المعنى التفسيري الثاني لـ (من):
والمعنى الثاني لـ(من) هو ان تكون تعليلية وسببية،
كما في قوله تعالى:  (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً) فان (من) هنا تعليلية ومعنى الاية هو: انه بسبب خطيئاتهم اغرقوا،
ومثال آخر، قوله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ) فان بعض المفسرين رأى ان (من) هنا تعليلية[9]، أي: انهم يريدون ان يخرجوا بسبب الغم، وكذا قد ورد في الشعر المعروف عن الإمام السجاد (عليه السلام):
يغضي حياء و يغضى من مهابته
 
 
فلا يُكلَّم إلا حين يبتسم
 
أي: يغضى عنه بسبب مهابته
وفي موردنا: فان (من) التعليلية محتملة أيضا ، ففي رواية " كل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله تعالى..." يحتمل ان (من) هنا تعليلية؛ أي ان النهي عنه بسبب وبعلة انه يتقرب به لغير الله،
وعلامة (من) هذه انه يمكن ان تضع السبب مكانها،
ولو كان الأمر كذلك, فان الرواية ستكون واضحة أيضا في الاستدلال بها على المراد؛ لان الإمام على هذا يكون قد ذكر العلة وهي معممة ومخصصة، وبها سيظهر وجه التحريم ؛ فان كتب الضلال بقصد الإضلال تنطبق عليها هذه العلة – بهذا التفسير – مما يندفع به الإشكال المتقدم.
3-المعنى التفسيري الثالث لـ (من):
وهو ان تكون (من) تبعيضية،
 كما في قوله تعالى: ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) و(حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)
وعلامتها: هو صحة ان تسد كلمة (بعض) مسدها، وعليه سيكون معنى الآية (بعضهم من كلم الله)، و(حتى تنفقوا بعض ما تحبون)
وبناءا على هذا التفسير سيكون معنى (كل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله) هو: ان المنهي عنه هو بعض ما يتقرب به لغير الله تعالى، وهذا يعني إن الإمام (عليه السلام) ذكر أولا الموضوع وهو (المنهي عنه) ثم بين ان هذا الموضوع هو بعض ما يتقرب به لغير الله تعالى أي هو صغرى كبرى عليها المدار، وأما البعض الآخر فهو مطلق ما يتقرب به إلى غير الله تعالى (من غير التجارات، كعبادة الصنم مثلاً).
ولو ثبت هذا المعنى لـ(من), فان الإشكال المتقدم مندفع كذلك وسيكون الاستدلال بالرواية تاماً كذلك.
بيان ذلك:
الظاهر ان الإمام (عليه السلام) قد ذكر صغرى وكبرى في المقام، فان ما قبل (مما) هي الصغرى، وما بعدها هي الكبرى وقد طبق ع الكبرى على الصغرى فحرم المعاملات والتجارات على الصغرى ببركة الانطباق للكبرى عليها.
والنتيجة: ان الإمام جعل الكبرى هي المحور في المقام وسيكون الاستدلال بها تاماً.
مزيد توضيح وتأكيد:
وللمزيد والتوضيح نقول:
ان الإمام حكم بان كل منهي عنه حرام ان تقع متعلقات للتجارات، بيّن الكبرى – والتي هي بمنزلة العلة أيضاً - وهي (كل ما يتقرب به لغير الله هو حرام) ومتعلق التجارات المنهي عنه هو صغرى لهذه الكبرى.
صغرى البحث:
وفي مسألتنا نتمسك بالكبرى المذكورة لإثبات حرمة حفظ كتب الضلال، فانه حتى وان لم يثبت ان هناك نهيا عن هذا الحفظ ولم يكن (الحفظ) في دائرة التجارات، إلا ان الامام (عليه السلام) أعطانا ضابطة وكبرى كلية منطبقة على مورد البحث, وهي كل ما يتقرب به لغير الله تعالى[10]
الفقرات الأخرى من الرواية:
واما العبارات اللاحقة في الرواية فهي واضحة الدلالة على المقصود، ولذا فاننا لا نتوقف عندها كثيرا،
الفقرة الثانية (أو يقوى به الكفر والشرك)
وأما الفقرة الثالثة[11] فهي: (او باب من الأبواب يقوى به باب من ابواب الضلالة)
ثم ان (باب) الاولى معطوفة على (منهي عنه) وهذا المقطع واضح الدلالة على المراد، فان حفظ كتب الضلال باب من هذه الابواب،
واما (باب) الثالثة فانها يمكن ان تقرأ بالرفع او الجر بناءا على تحديد المعطوف عليه وانه (باب) الأولى أو الثانية فيكون في المقام احتمالان[12]
النسبة بين الضلالة والباطل[13]:  
الاحتمال الاول ان الباطل هو اعم من الضلال والضلالة، والإمام قد عطف العام على الخاص لمزيد الفائدة.
وأما الاحتمال الآخر فهو ان الباطل مرادف للضلال، وعليه فقد ذكر الإمام ع عنوانين في الرواية ليكون تطبيق الكبرى على الصغرى أسهل وأيسر للمكلف
وللحديث تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
 
[1] - وعلى خلاف الترتيب الطبيعي، لسبب سنذكره لاحقا ان شاء الله تعالى
[2] - حيث ان الرواية قد قسمت المكاسب والمعايش الى اربعة اقسام: وهي الولايات والتجارات والاجارات والصناعات. والفقرة الثانية والثالثة والمستند اليهما في المقام مقتبستان من مبحث عنوان التجارات
[3] - والأعلام لم يشيروا إلى هذه الفقرات الخمسة باعتبار ان كلا منها صالح للاستدلال به، بل اطلقوا الكلام. فتدبر
[4] - وبتعبير آخر: ثبّت العرش ثم انقش
[5] - ومن هنا تظهر أهمية التدبر في كل كلمة كلمة في فقه الحديث
[6] - حيث انه ذكروا لـ (من) خمسة عشر معنى، ثلاثة منها محتملة ههنا.
[7] - ويوجد بديل آخر سيأتي في الهامش الآتي.
[8] - فائدة:  كثيرا ما تأتي (من) البيانية، بعد (مهما) أو بعد (ما) وهنا يوجد بديل اخر كما في قوله تعالى: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ) والبديل هو ان يجعل مدخول (من) البيانية محل (مهما)، فيكون معنى الاية:  كل اية تأتينا بها، وكذا في قوله تعالى: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) سيكون المعنى:  الرحمة التي يفتحها الله للناس لا ممسك لها وعلى كل فان الكلام ليس في (ما) او (مهما) وان كانا هما الاكثر مجيئا مع من البيانية
[9] - ويحتمل كون (من) هنا ابتدائية
[10] - ولا يهمنا في المقام استظهار أي معنى من المعاني هو المراد لان الاستدلال تام على كل الوجوه
[11] - وهذه الجملة موجودة في كتاب تحف العقول ولكنها ليست بموجودة في الوسائل والذي ينقل عن كتاب تحف العقول، وقد ذكرنا انه عند حصول التعارض بين النقيصة والزيادة ما هو الحل فراجع
[12] - والعطف على أي منهما لا يهم لان النتيجة ستكون واحدة من حيث الاستدلال
[13] - ومزيد التحقيق يترك الى الطلبة الأفاضل، وكلامنا ليس في تحقيق هذه الرواية بالرغم اننا لم نجد من وقف عندها حتى من اولئك الفقهاء الذين يعتقدون بصحتها ويعتبرونها، وهم كُثّر وقد ذكرنا بعضهم.
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2368
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 19 ذي الحجة 1433هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 23