بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(157)
الخاصية الثالثة: الحاكم بيان للمحكوم بلفظه والخاص بيان له بحكم العقل
الميّزة الثالثة: مما تمتاز به الحكومة على سائر أنواع الجمع العرفي كالتخصيص، هي حسب ما تبناه الشيخ (والفرق بينه وبين التخصيص: أن كون المخصص بيانا للعام إنما هو بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص، وهذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير) ([1]).
وبعبارة أخرى: أن الإرادة الجدية للخاص تعاند الإرادة الجدية للعام فتتقدم عليها بحكم العقل لاقوائيتها منها، وقد يعلّل ذلك بأن دلالة العام على كون أفراده مرادة بالإرادة الجدية إنما هو بالدلالة التضمنية لكون العام انحلالياً أما دلالة الخاص على كون مورده مراداً بالإرادة الجدية فمطابقية وهي أقوى منها ([2]) فحيث كان هذا اقوى من ذاك وحيث امتنع اجتماعهما حكم العقل بتقدم هذا على ذاك، عكس الحاكم فانه تفسير لفظي للمحكوم فهو بمنزله أعني فلا يحتاج إلى توسط حكومة العقل لرفع التعارض إذ لا تعارض أصلاً ولو بدواً.
المناقشة: هذا المائز أخص من الحكومة وطارد لبعض أنواعها بل لمعظمها
ولكن يرد عليه: أن ذلك المايز أخص من الحكومة وأنه إنما يصح في الحكومة التنزيلية بتضييق الموضوع أو توسعته كـ"لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ رِبا..." ([3]) و"الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاة" ([4]) كما سبق لأنه ظاهر في تفسير الربا والصلاة، عكس الحكومة بالرفع فيما كان مصبه المحمول كـ(لا ضرر) فانه من الواضح أنه ليس مفسراً بلفظه للفظ الصيام في (كتب عليكم الصيام) وإنما هو حاكم على مدلوله ومؤداه ومقدم عرفاً لكونه ناظراً إلى مدلوله أو لأن طبيعة الأحكام الثانوية عرفاً وارتكازاً انها كذلك ([5]) هذا.
وهي دعوى بلا دليل
وقد أنكر الميرزا النائيني هذه الدعوى وهذا الفارق واستدل بـ(فدعوى : أنه يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين مبينا لما أريد من مدلول الآخر وما يكون اللفظ ظاهرا فيه، مما لا شاهد عليها، فإنه ليست الحكومة مدلول دليل لفظي حتى يدعى أن المستفاد من الدليل ذلك) ([6]).
وبعبارة أخرى: إذا كان لفظ الحكومة والحاكم قد ورد في آية أو رواية لأمكن التمسك به أو بإطلاقه لتصحيح كلام الشيخ بأن يقال أن ظاهر الحكومة، والتي تعني الهيمنة والسيطرة والقهارية، أن الحاكم بلفظه مهيمن على لفظ المحكوم (أو على المراد من العام، حسب تعبير الشيخ، وما أخترناه أدق فتدبر) فهو مفسر له بلفظه؛ إذ الإعراض عن ذلك ودعوى أن المراد بحكومته حكومة مراده الجدي أو حكومة العقل بعد أن رأى التصادم والتعارض، خلاف الظاهر جداً.
والمرجع خواص الحكومة الأساسية وهي تفيد الأعم
لكن حيث لم يرد لفظ الحكومة في دليل نقلي فلا بد أن نرجع إلى خواصها ومميزاتها الجوهرية لنكتشف مدى صحة مثل هذه الخاصية الظاهرية الثانوية، ومنها: أنه لا تلاحظ النسبة ومنها أنه لا تلاحظ الأظهرية (على بحث سبق) وهاتان الخاصيتان كنظائرها متحققتان في الأعم من التفسير بلفظه وتشملان مثل (لا ضرر).
تفسير النائيني لكلام الشيخ (التفسير يعني نتيجة التفسير)! خلاف ظاهره بل نصه
ثم إن الميرزا النائيني، حيث استبعد إرادة الشيخ ظاهر كلامه لوضوح ورود الإشكال عليه، فسّره بما نرى أنه خلاف ظاهر كلام الشيخ بل خلاف نصه، قال الميرزا: (والظاهر أن مراد الشيخ قدس سره من التفسير في قوله : «وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير» ليس هو التفسير اللفظي، بل المراد منه نتيجة التفسير وإن لم يكن تفسيرا لفظيا، بداهة أنه لو كان مفاد أحد الدليلين بمدلوله المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق، لكان حاكما على الآخر، مع أنه ليس في تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق ما يوجب شرح اللفظ: فان الخاص والمقيد لم يتعرض لما أريد من لفظ العام والمطلق، بل وظيفة الخاص والمقيد بيان الموضوع النفس الأمري وما تعلقت به الإرادة الواقعية من دون أن يتصرف في لفظ العام والمطلق، بناء على ما هو التحقيق : من أن التخصيص والتقييد لا يوجب التجوز في لفظ العام والمطلق. نعم : بناء على أن التخصيص والتقييد يقتضي المجازية، يكون الدليل الذي كان مفاده المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق شارحا ومبينا لما أريد من لفظ العام والمطلق) ([7]).
لكن هذا التفسير خلاف صريح عبارة الشيخ السابقة ([8]) فراجعها، إضافة إلى أنه مناقض لغاية الشيخ وتصريحه بأن هذا هو الفارق فانه اعتبر هذا فارقاً بين الحكومة والتخصيص وأما على تفسير الميرزا للتفسير بأن المراد به نتيجة التفسير فان هذا سيكون وجه اشتراك لا فارقاً!
واستشهاده بما هو أغرب
ثم استشهد الميرزا بما هو غريب من مثله فقال: (وبالجملة: تحكيم قوله: «لا تكرم النحويين» على قوله: «أكرم العلماء» لا يقتضي أزيد من أن الموضوع النفس الأمري لوجوب الاكرام هو العام الغير النحوي، من دون أن يستلزم ذلك تصرفا في لفظ «العلماء» فلو فرض أنه كان هذا المعنى مدلول دليل آخر لا بلسان التخصيص والتقييد، كما لو قال عقيب قوله «أكرم العلماء»: «العالم هو غير النحوي» أو قال: «النحوي ليس عالما» كان قوله هذا حاكما على قوله: «أكرم العلماء» مع أنه ليس فيه شرح وتفسير لفظي، فتخصيص الحكومة بما يكون فيها شرح اللفظ بلا موجب) ([9]).
مع وضوح الفرق بين مثل (لا ضرر) ومثل "لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ رِبا..." وظهور الثاني في انه تفسير للفظ الربا بتوسعته في المصطلح الشرعي كما سبق، والغريب منه تسويته بين الحاكم والمخصص من حيث اللسان لمجرد أن كليهما في اللب استثناء وتخصيص.
والحاصل: أن اللازم التفرقة بين الحكومة التنزيلية توسعةً وتضييقاً والحكومة برفع الحكم والمحمول كما سبق..
وللبحث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): "تَفَقَّهُوا فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ الْفِقْهَ مِفْتَاحُ الْبَصِيرَةِ وَتَمَامُ الْعِبَادَةِ وَالسَّبَبُ إِلَى الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَالرُّتَبِ الْجَلِيلَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَفَضْلُ الْفَقِيهِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى الْكَوَاكِبِ وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ عَمَلًا"
تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص410.
...........................................
|