بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تحقيق مهم في التعارض والتزاحم[1]:
ذكرنا سابقا ان السيدالخوئي ذهب الىٰ ان ادلة الكذب وادلة الاصلاح متعارضة فيما بينها اذ النسبة بينها هي من وجه ففي مادة الاجتماع وهو الكذب الاصلاحي يتعارضان فيتساقط الدليلان فيرجع الى اصالة البراءة , وقد بيّنا اشكالات ثلاثاً مضت , ونذكر اشكالا اخر الان:
الاشكال الرابع : لابد من التفريق بين التعارض والتزاحم حتى لا يحدث الخلط
وهذا الاشكال هو اشكال مهم ؛ اذ يوضح ضمناً الخلط الذي قد يحدث بين التزاحم والتعارض عند التطبيق؛ ذلك ان السيد الخوئي قد ذكر ان الدليلين السابقين ,أي : دليل الاصلاح ودليل الكذب يتساقطان , ولكن لابد اولاً من تعريف التزاحم والتعارض بينهما ثم تحليل ان ادلة الكذب والاصلاح هل هي متزاحمة او متعارضة وتحقيق ذلك ثانياً، ثم ايضاح ورود الاشكال على السيد الخوئي سواءاً ذهب الى ان النسبة هي التعارض – كما هو ظاهر بل صريح كلامه – او هي التزاحم ثالثاً:
تعريف التعارض والتزاحم وفرقهما
الامر الاول : ان التعارض حسب تعريف الاخوند هو تنافي الدليلين او الادلة في مقام الدلالة وعالم الاثبات على وجه التناقض او التضاد، ولكن الشيخ الانصاري عرّف التعارض بتنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض او التضاد، وهنا يوجد فرق دقيق بينهما لاعلينا به الان اذ أن النتيجة في مقام بحثنا واحدة.
وبعبارة موجزة واضحة فان التعارض هو تكاذب الدليلين في مقام الجعل والتشريع , كأن يذكر احد الدليلين ان ( البكر تملك امرها ), واما الدليل الاخر فيفيد ( ان البكر لا تملك امرها وانما هو بيد وليها ) , ومادام التعارض بين هذين الدليلين مستقراً فلابد ان يكون احدهما كاذباً, وكذا الحال لو ورد ( العشر رضعات محرمة ) وورد في مقابله ( الخمس عشرة رضعة محرمة ) فالحال نفسه ذلك .
اذن: في التعارض يكون صدور احد الدليلين ثابتاً وهو الحجة بخلاف الاخر؛ والوظيفة اللازمة هي تمييز الحجة عن غير الحجة, والمرجع هو المرجحات الصدورية كالعرض على الكتاب فما وافقه فهو حجة وثابت الصدور وإلا فليس بصادر ولاحجة , هذا في التعارض .
واما في التزاحم فلا تكاذب بين الدليلين المتزاحمين ؛ إذ ان كليهما صحيح وصادر إلا ان المشكلة هي في عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في عالم الامتثال[2], كما في انقاذ الغريق والغصب فان الإنقاذ واجب وله ملاكه المستقل , والغصب محرم وله ملاكه ايضاً , فلو تزاحما بان توقف انقاذ الغريق على غصب حبل او قارب من اخر لوجب ذلك وقدم لأنه الاهم ملاكا وهي الوظيفة اللازمة, اذن عدم القدرة على امتثال كلا التكليفين مع وجود الملاك في كليهما هو سبب التزاحم فيقدم الاقوى ملاكاً .
ورود الاشكال على التزاحم وعلى التعارض
واما الامر الثالث[3] فنقول : هل السيد الخوئي عندما قال بالتساقط بنى على ان الاصلاح والكذب لهما ملاكان ؛ نظراً لان الاصلاح ملاكه الحسن والكذب ملاكه القبح ثم انهما في مادة الاجتماع يتزاحمان فيكون المورد مورد التزاحم ؟ او لا بل النسبة بين دليل الاصلاح والكذب هي التعارض والتكاذب ولاملاك الا لاحدهما فيكون احد الدليلين صادراً والاخر بخلافه؟ وعلى كلا التقديرين يرد الاشكال على كلامه:
فان ذهب الى ان المسألة داخلة في باب التزاحم فلابد معه ان يراعي اقوى الملاكين فيقدم, ولا يصح القول انهما يتعارضان فيتساقطان فيرجع الى البراءة , اذ المتزاحمان ليسا متكاذبين فلا يتساقطان بل يقدَّم الاهم منهما.
وان ذهب الى ان المسألة ليست من باب التزاحم وانما هي من باب التعارض – كما هو صريح عبارته – فان اشكال السيد القمي محكم عليه من استلزام ذلك تالياً فاسداً وهو: ان كل المحرمات من زنا وقتل وغيره لو تعارضت مع الاصلاح لجازت وحلت بعد التساقط والرجوع الى البراءة , وهذا مما لا يظن ان يلتزم به, بل اننا نقطع بعدم التزامه به اذ لايصح القول بتقديم حرمة القتل او الزنا او القمار على وجوب الاصلاح لانه اقوى ملاكاً ، بعد ان قلنا انه من باب التعارض والتكاذب.
الاصلاح والكذب متزاحمان
الامر الثاني : وهو تحقيق صغرى المقام فنقول : الظاهر ان الكذب في الاصلاح هو من موارد التزاحم ؛ اذ قبح الكذب هو من المستقلات العقلية لمفسده فيه يدركها العقل وكذلك الاصلاح فانه من المستقلات العقلية ايضا اذ يدرك حسنه والمصلحة فيه ، بحيث لو لم يكن دليل نقلي عليهما لكفى العقل في الحكم بحسن هذا وقبح ذاك.
وعليه : فهما متزاحمان في مورد الاجتماع ؛ اذ كل منهما متوافران على ملاكه فلو اجتمعا كما في صغرانا فانه يقدم الاقوى ملاكاً,
والحاصل : ان الكذب والاصلاح هما من المستقلات العقلية والمستقلات العقلية لاتعارض ولا تكاذب بينها بل بينها التزاحم فقط.
ثم لا يخفى ان الاصلاح هو حقيقة تشكيكية ذات درجات وكذلك مفسدة الكذب , وعليه فلابد من الموازنة بينهما حتى يتم تقديم الاهم منها كل في مورده , فتارة لدينا اصلاح مهم بين طائفتين لكنه يتوقف على كذبة بسيطة فههنا يتقدم حسن الاصلاح على قبح الكذب ويندك ويضمحل ملاك الكذب في قبال ملاك الاصلاح , ولكن تارة اخرى تكون الكذبة كبيرة والقبح شديداً كما هو الحال في الكذب على الله ورسله واوليائه من اجل اصلاح نزاع بسيط بين متخاصمين فهنا يقدم ملاك الحرمة والقبح والمنع فلا يجوز الكذب .
الفرق بين القول بوجوب الاصلاح او استحبابه، على التزاحم
تتمة مهمة وهي: اننا لو بنينا على ان الكذب والاصلاح متزاحمان ,فاما ان نذهب الى انه يجوز الكذب في الاصلاح الواجب ؟ او ان نذهب الى ان الاصلاح المستحب كذلك يجوز الكذب فيه ؟
فان قلنا ان الكذب جائز في الاصلاح الواجب فقط فلا يرد الاشكال بان اللااقتضائي لا يزاحم الاقتضائي ؛ اذ الاصلاح واجب حسب الفرض والكذب حرام وكلاهما اقتضائيان فيقدم الاقوى ملاكاً .
وان قلنا بما ذكره الوالد من ان الاصلاح المستحب كذلك يجوز الكذب فيه فان هذا الاشكال ( انه كيف يقدم اللا اقتضائي وهو الاصلاح على الأقتضائي وهو الكذب ), إلا اننا قد دفعنا ذلك بوجوه ثلاث لإثبات ان المستحب قد يكون اقوى ملاكاً من الواجب, الا انه لم يوجَب لوجود مانع، فيمكن اذاً – على كونه من باب التزاحم – ان يغلب ملاكه ملاك الواجب . فتأمل. وللكلام تتمة ..
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1] - وهذا بحث دقيق وهو تحليل الضابط العام للتعارض وفرقه عن التزاحم، وهذا ينفع في المئات بل الالاف من المسائل التي هي موضوع لذلك.
- [2] والكلام في التزاحم الامتثالي لا التزاحم الملاكي ، والحاصل : ان المشكلة ليست في اقتضاء الدليل وملاكه بل في مانعية العجز من الامتثال.
[3] - وقد قدّمناه على الامر الثاني لجهة فنية فلاحظ. |