بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(126)
التعريف الخامس: تعرض الدليل لما لا يتعرض له الدليل الآخر
وقد عرّف بعض الأصوليين الحكومة بتعريف آخر يختلف عن سائر التعاريف
فقال ([1]): إن الضابط في الحكومة هو أن يتعرض أحد الدليلين بمدلوله لبعض جهات الدليل الآخر، بنحوٍ من التعرض ولو بالدلالة الالتزامية العقلية أو العرفية، على أن لا تكون تلك الجهة والحيثية مما تعرض لها الدليل الآخر (المحكوم).
وعلى ذلك فالحاكم بلحاظ أنواع تعرضه لحيثيات المحكوم على أقسام:
التعرض لمصاديق الموضوع
الأول: ما يتعرض لحال مصاديق موضوعه بأن يُدخل فرداً في دائرة موضوعه أو يخرجه منه، وذلك لوضوح أن القضية الحملية ([2]) بما فيها من النسبة الحكمية لا تتعرض إلا لثبوت الحكم للموضوع، واما إن مصاديق هذا الموضوع ما هي فذلك خارج عن حقيقتها، نعم هو حيثية من حيثياتها وجهة من جهاتها إذ يقال هذا الموضوع من مصاديقه كذا أو لا.
التعرض لمصاديق المحمول
الثاني: أن يتعرض لحال مصاديق محموله، كذلك بإدخال أو إخراج، وذلك نظير ما مضى أن القضية لا تتكفل بحال الأفراد وانها مصاديق لهذا المحمول أو لا.
وذلك كقوله: (أكرم العلماء) فانه لا يتعرض إلى من هو العالم ومن هو غير العالم ولا ما هو الإكرام وما هي أفراده الداخلة والخارج عنه، فلو دلّ دليل على ان زيداً عالم أو ليس بعالم أو ان القيام للزائر أو تقبيل أنفه مثلاً إكرام أو لا فانه متعرض لما لم يتعرض له (أكرم العلماء) فهو حاكم عليه.
التعرض لحال المتعلَّق
الثالث: ان يتعرض لحال متعلّقه كقوله في المثال السابق: (أكرم العلماء بالشريعة) فلو جاء دليل وأخرج العالم بالطريقة أو الفلسفة، مثلاً، عن كونه عالماً بالشريعة، أو أدخل العالم ببعض الفقه أو العالم بالأخلاق فقط فيه.
التعرض للأجزاء
الرابع والخامس([3]): ان يتعرض لأجزاء الموضوع أو المحمول إذا كان من المركبات، والفرق بين الجزء والمصداق واضح فإن المصداق جزئي في مقابل الكلي والجزء يقع في مقابل الكل وليس مصداقاً له.
وكذلك: كقوله: إن جلسة الاستراحة جزء من الصلاة أو ليست بجزء أو المادة الكذائية جزء من الدواء المعين أو لا.
التعرض للجهات السابقة على الحكم
السادس: ان يتعرض لحال الجهات السابقة على الحكم، سواء أكانت مقتضيات أو عللاً معدة أو غير ذلك، وذلك كالإرادة والجعل والإنشاء والحب والبغض.
كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم قال: ما أردت أو ما أريد إكرام الفساق أو ما حكمت أو ما أحكم بإكرام الفساق، أو ما أحب أو غير ذلك، فان نسبة الفساق للعلماء هي من وجه ومع ذلك يتقدم ما أريد إكرام الفساق على أكرم العلماء لكونه متعرضاً بمدلوله لما يتقدم عليه من الإرادة والطلب وغيرهما، مما لم يتعرض له أكرم العلماء بمدلوله وإن تعرض له بحكم العقل لإدراكه ان كل حكم فان له مراتب متقدمة عليه من الطلب والإرادة والإنشاء وشبهها.
قال: (وكذا قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([4]) حاكم على أدلة الأحكام؛ لتعرّضه بمدلوله للجعل الذي لا تتعرّض له الأدلة وإن كانت مجعولة بالضرورة؛ لأنّها لـمّا لم تتعرّض لمجعوليتها فإذا تعرّض دليل بأنّ الجعل لم يتعلّق بأمرٍ حرجي يقدم عرفاً على تلك الأدلة، لا لأقوائية ظهوره، بل هذا نحو آخر من التقدّم في مقابل التقدّم الظهوري، ولهذا لا تلاحظ النسبة بين الدليلين، فيقدّم العامّ من وجه على معارضه، فأدنى الظواهر يقدّم على أقواها)([5]).
وقال: (وليس هذا إلا لتعرّض الحاكم لما لا يتعرّض له الآخر؛ فإنّ الدليل المحكوم ليس بمدلوله متعرّضاً لكون إكرامهم مراداً أو مجعولاً أو محكوماً به، فإنّها معلومة من الخارج، أو لأجل الأصل العقلائي) ([6]).
التعرض للجهات اللاحقة للحكم
السابع: أن يتعرض لحال بعض الجهات اللاحقة للحكم.
أقول: من الجهات اللاحقة: إجزاء الإتيان به المأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي.
ومنها: قاعدة الفراغ والتجاوز.
ومنها: إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، ومنه ما لو قلد من أفتى بأمر ثم ظهر له بتقليد آخر عدل إليه لوفاة الأول أو لكونه أعلم مثلاً، كونه غير مطابق للواقع، في مثل ما لو ذبح الشاة غير مستجمعة لشروط التذكية بنظر الثاني وقد بقي من لحمها شيء أو باع أو أشترى معاطاة مما يراه الفقيه المتأخر باطلاً وهكذا.
ومنها: ما ذكره بقوله: (ومن هذا القبيل تقديم "لا تعاد" على أدلة الأجزاء والشرائط؛ لأنها لا تتعرّض للحيثيات اللاحقة، أي الإعادة واللاإعادة، وإنما يحكم العقل بأنّ التارك للجزء أو الشرط يعيد) ([7]).
لا يقال: أدلة الأجزاء بإطلاقها تتعرض للإعادة إذ مفاد: (القراءة جزء) مثلاً بلحاظ إطلاقها انها جزء سواء أنسي وغفل وسهى أم لا، فكيف لو تعمد، فإذا نسيها مثلاً فأتى بالصلاة بدونها فانه لم يمتثل أمر الصلاة إذ لم يطابق المأتي به مع المأمور به فعليه الامتثال انبعاثاً من الأمر الذي لا يزال قائماً، ولا يكون إلا بالإعادة، فقد تعرض دليل الجزئية للإعادة بما يضاد مفاد حديث لا تعاد؟
إذ يقال: ذلك وإن صح إلا ان دليل الجزئية لم يتعرض بمدلوله للإعادة، بل كان ذلك هو المستفاد من إطلاقه، بواسطة أو وسائط، أو فقل بحكم العقل بملاحظة ذلك كله، وقد سبق ان الحاكم هو ما يتعرض بمدلوله وليس مطلقاً.
لكنه سيأتي ان هذا الإشكال وارد على حسب بيان ذلك الأصولي وإن اندفع مع تغييرنا للتعريف قليلاً بإضافة قيد بمدلوله، وإن كان قد ذكره لاحقاً في مطاوي كلامه وكان الحق ان يدرجه في التعريف. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
....................................
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "لَا يَصْلُحُ الْمُؤْمِنُ إِلَّا عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَحُسْنِ التَّقْدِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى النَّائِبَةِ"
تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص358.
==================
|