بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(121)
التعريف الرابع للحكومة:
سبق ان بعض المحققين عرّف الحكومة بـ: (كل دليل كان تعقّله في الذهن مستلزماً لتعقل دليل آخر ينافيه، سواء كانت المنافاة بلحاظ نفسه أو بلحاظ دليل اعتباره، ولم يكن تعقل الآخر مستلزماً لتعقل الأول، فهو حاكم عليه، من غير فرقٍ بين أن تكون المنافاة بينهما بالمباينة أو بالعموم المطلق أو من وجه، قال: فإن تعقل عدم الضرر والحرج مستلزمٌ لتعقلِ دينٍ مشتمل على التكاليف، وكذا تعقل وجوب البناء على الحالة السابقة، مستلزم لتعقل أنه لولاه لكان له حكمٌ آخر بخلافه وهو البراءة الثابتة بأدلّتها، وهكذا...) ([1]).
ولا بد أولاً من إيضاح بعض مقاصده ثم المناقشة، فنقول:
توقف تعقّل (الحاكم) على تعقّل المبادئ التصورية والتصديقية لـ(المحكوم)
1- ان مقصوده: توقف تعقّل الدليل (الحاكم) على تعقّل الدليل (المحكوم) فان تعقل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([2]) مثلاً متوقف على تعقل مبادئ تصورية وتصديقية في مرتبة سابقة إذ يتوقف على تعقل وتصور (الدِّين) والتصديق به وعلى تعقّل وتصور وجود أحكام فيه والتصديق بها وعلى تعقّل وتصور ان أحكامه على إطلاقها قد تكون ضررية والتصديق بذلك، وبعد ذلك كله يتعقل انه تعالى (ما جعل الحكم الحرجي في الدين) فنفي جعل الحكم الحرجي متوقف على ذلك كله، نعم المحكوم هو الدليل بلحاظ جهته التصديقية لا التصورية ([3])، فتدبر.
فقوله: (مستلزم لتعقل دين مشتمل على التكاليف) يمكن تفصيله كما مضى.
ثم ان قوله (مستلزم لتعقل دليل آخر) يراد به ان الدليل الآخر هو ملزومه ذهناً لا لازمه، فانه المراد، فلذا فسرنا الاستلزام في كلامه بالتوقف فانه أوضح وأدق.
وذلك على عكس (أكرم العلماء ولا تكرم زيداً العالم) فان الثاني مخصص للأول لكنه لا يتوقف تعقّله على تعقّله، وكذلك ما كان مثل (صل) و(لا تغصب) مما كان لهما مادة اجتماع، فان تعقل أحدهما لا يتوقف على تعقّل الآخر، وأوضح منها مثل (صل) و(أقم الصلاة).
منافاة (الحاكم) بنفسه أو بدليل اعتباره للمحكوم
2- ان قوله: (سواء كانت المنافاة بلحاظ نفسه أو بلحاظ دليل اعتباره) يشير إلى ما سبق تفصيله ([4]) فراجع ما سبق ونكتفي بالإشارة الآن:
فالحاكم بنفسه كدليل لا ضرر ولا حرج بالنسبة لأدلة الأحكام الأولية.
والحاكم بدليل اعتباره كحكومة الدليل الاجتهادي، كقوله العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه حرم أو الغراب حرام، على الأصل العملي، كقوله: كل مشكوك الحلية والحرمة حلال ([5]) فان حرمة العصير بما هو هو ليس شارحاً أو ناظراً إلى حكم صورة الشك أي لا يتوقف على الناظرية له ولا على تعقله في رتبة سابقة ([6]) بل قد يقال: ان الشك من التقسيمات اللاحقة للحكم فيستحيل، حسب البعض، نظر الدليل المثبت للحكم له مع كونه متفرعاً عليه لاحقاً له وجوداً ([7]).
اما دليل اعتبار خبر الثقة، أي دليل الدليل، فانه الحاكم (الناظر والشارح، أو المنافي للمحكوم) بناءً على تفسير الشيخ له بـان مفاده (ألغِ احتمال الخلاف) وقد سبق تفصيله مع ذكر المحتملات الخمسة الأخرى في مفاد حجية خبر الثقة وغيره والتي على بعضها يكون دليل الدليل حاكماً دون البعض الآخر فراجع.
الفرق بين كون ملاك الحكومة توقف التعقّل أو النظر أو اللغوية
3- ان هذا التعريف يختلف جوهرياً عن تعريف الشيخ وغيره، للحكومة؛ إذ قوام الحكومة لدى الشيخ بـ(الناظرية وتعرض احد الدليلين لحال الدليل الآخر) وقوام بعض التعريفات الأخرى والتي بنى الشيخ عليها في بعض كلماته بـ(اللغوية)، أي لغوية الدليل الحاكم لولا المحكوم.
أما قوام الحكومة حسب هذا التعريف فهو بـ(توقف تعقل الدليل ([8]) على الدليل الآخر) ومن الواضح انه متقدم رتبة عليهما، إضافة إلى انه أخص منهما إذ قد يكون الدليل (الحاكم، حسب الشيخ) لغواً لولا المحكوم أو يكون ناظراً إليه لكن لا يتوقف تعقّله عليه: اما توقف التعقل عليه مع كونه ناظراً ولولاه لغواً فكقوله: ((لا ربا بين الوالد وولده))([9]) و ((الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاة))([10]) مما وسع الموضوع أو ضيّقه. فهذه مادة اجتماع التعاريف.
وأما عدم توقف التعقّل عليه مع كونه ناظراً أو لغواً لولاه وكونه حاكماً، فكما لو كان أحد الدليلين بسياقه أو قرينة مقامه ناظراً للدليل الآخر كما لو قال (أكرم العلماء) وقال: (لا تكرم الفساق) لكنه كان بسياقه أو بقرينة المقام أو بإيضاحٍ عامٍ منه بان ما يتلو جملته الأولى من جملات هو موضح وشارح لها مثلاً، ناظراً له وشارحاً له فانه حاكم ولذا لا يلاحظ كون نسبته معه من وجه، لكن تعقّله لا يتوقف على تعقّله كما هو واضح.
بل وكذا الأدلة الاجتهادية بالنسبة للأصول العملية، فان تعقّلها لا يتوقف على تعقّلها، بل ولا هي لغو لولاها على كلام لعله يأتي.
الإشكالات على هذا التعريف:
لكن هذا التعريف يواجه بإشكالات عديدة فقد أشكل المحقق اليزدي عليه بوجوه، وسنضيف لها أخرى بإذن الله، قال:
الأول: (فيه – مع أنّه لا تعتبر المنافاة في الحكومة حسبما عرفتَ سابقاً من حكومة الأصول الموضوعية والبيِّنة على الأدلة المثبتة لأحكام موضوعاتها الثابتة بها، مع عدم المنافاة بينهما) ([11])
وذلك كاستصحاب الزوجية السابق رتبة على استصحاب وجوب النفقة لدى الشك فيهما، وكاستصحاب الخمرية المتقدم رتبة على دليل حرمة الخمر مع موافقته له أو البينة على حرمتها مع دليل حرمتها ([12]).
الثاني: ما ذكره بقوله: (أنَّه لا يتم فيما إذا كانت الحكومة من جهة كونه ناظراً بسياقه إلى الدليل الآخر، لا بمدلوله، إذ حينئذٍ لا يتوقف تعقل مدلوله على تعقل الدليل الآخر) ([13]) وقد مضى إيضاحه. وللبحث صلة بإذن الله تعالى
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
|