بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(110)
5- ان يرفع الحاكم موضوع المحكوم، تنزيلاً
وقد سبق انه قد يعدّ قسماً خامساً كما سبق الإشكال على ما مثّل به الميرزا النائيني له.
لكنّ الظاهر تحقق هذا القسم ووقوعه، وذلك كما في الاستصحاب السببي فانه حاكم على الاستصحاب المسببي مطلقاً بحيث لا يبقي له مورداً فليس مضيقاً لدائرة المسببي بل هو رافع له مطلقاً حاكم عليه دوماً.
بيانه: ان الاستصحابين المتعارضين ([1]) قد يكونان عرضيين وقد يكونان طوليين؛ فانه إذا كان الشك فيهما مسبباً عن أمر ثالث كما لو وقعت قطرة دم في احد الانائين فان استصحاب الطهارة في كل منهما معارض باستصحاب الطهارة في الآخر (واما إجراء الاستصحاب في أحدهما دون الآخر فترجيح بلا مرجح) وقد نشأ تعارضها من سقوط القطرة في أحدهما والعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما فانه يصادم طهارة كليهما بالاستصحاب. وبعبارة أخرى: لا يجتمع حكم الشارع بطهارة كليهما مع حكمه بالتنجس بملاقة قطرة الدم.
الاستصحابان الطوليان، مثالاً
واما إذا كان الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر ([2]) فحيث انه متقدم رتبة فانه يجري الاستصحاب فيه بما ينتفي معه موضوع الاستصحاب الذي وقع في رتبة لاحقة في طوله، فان الاستصحاب السابق رتبة يرفع الشك اللاحق ويصنع اليقين التعبدي فلا يبقى مجال للاستصحاب الثاني لعدم تمامية أركانه، وذلك كما لو شك في انها لا تزال زوجته أم لا للشك في ان الطلاق قد وقع أو لا نظراً للشك في عدالة الشهود فانهما إذا كانا عادلين فشككنا في عدالتهما فنستصحبها فيقع الطلاق فلا تكون زوجة، فالشك في كونها زوجة نشأ من الشك في عدالة الشهود على الطلاق (أي من الشك في وقوع الطلاق الناشئ من الشك في عدالتهما) وحيث جرى استصحاب عدالتهما ثبت شرعاً صحة الطلاق ومع ثبوت وقوع الطلاق وصحته شرعاً (وهو يقين تعبدي) لا يبقى مجال للشك في انها زوجة.
وجه تقدم الاستصحاب السببي على المسببي
وبعبارة أخرى: - وعلى حسب احدى الوجوه – فقد قال تعالى: ( يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)([3]) واشترط (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ)([4]) والاستصحاب أوجد صغرى الآية إذ به أحرز كونهما ذوي عدل فيكون وجدان شهادتهما واستصحاب عدالتهما صانعاً لصغرى كبراها قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)([5])([6]) فلا يبقى مجال للشك في كونها زوجة ([7]).
ومن ذلك ظهر ان الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي مطلقاً إذ انه رافع لموضوعه فان موضوع الاستصحاب هو الشك الملحوظ فيه الحالة السابقة والاستصحاب السببي يرفع هذا الشك تنزيلاً فلا مجال لإجراء الاستصحاب فيه – في المسببي -.
نعم، قد يستشكل على ما ذكر بان الحكومة إنما هي بين دليلين لا بين مدلولي دليل واحد أو فردين أو صنفين أو مرتبتين من دليل واحد، وفيه انه لا دليل بل لا وجه لتقييد الحكومة بذلك، وسيتضح ذلك أكثر خلال البحث الآتي بإذن الله تعالى.
تقسيم آخر: نظر الحاكم قد يكون قصدياً وقد يكون قهرياً
وهناك تقسيم آخر للحكومة والدليل الحاكم وهو بحسب تعبير الميرزا النائيني بتصرفٍ: ان الحاكم قد يكون مفسراً للدليل المحكوم وقد لا يكون مفسراً بل تتحقق فيه نتيجة التفسير ([8])، وكلامه (قدس سره) هنا نظير كلامه في الإطلاق والتقييد ونتيجة التقييد والإطلاق.
وأما المحقق اليزدي فقد عبَّر بان نظر الحاكم قد يكون عمدياً وقد يكون قهرياً لازماً للمدلول من دون ان يكون المتكلم ناظراً إلى الشرح والتفسير، قال: (وأيضاً قد يكون نظره عمدياً مقصوداً للمتكلم، وقد يكون قهرياً لازماً للمدلول من غير أن يكون نظر المتكلم إلى الشرح، بل كان نفس المدلول شرحاً وبياناً للدليل الآخر فالأول كما في دليل نفي الحرج بالنسبة إلى أدلة التكاليف، بناء على كون المراد منه نفي وجود الحرج في أحكام الدين، فإن الأحكام الثابتة في الشرع لموضوعاتها – سواء كانت مجعولة سابقاً أو لاحقاً – مرفوعة عن أفرادها الحرجيَّة فإن المتكلم بهذا الكلام لا بد وأن يكون ناظراً عمداً وقصداً إلى أدلة تلك الأحكام) ([9]).
المحتملات في (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
أقول: ويوضحه ويؤكده ان قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) تضمن كلمة (في الدين) وهي صريحة في الناظرية لسائر الأحكام وان الحرج رافع لها بناء على كون المراد من (في الدين) هو: في أحكام الدين التي شرّعت لكم، أو شموله له بعمومه ([10]) بل حتى إذا لم يكن يوجد لفظ (في الدين) فان ظاهر قول المولى مثلاً (ما جعلت من حرج عليكم) هو ناظريته لمجمل أحكامه وانها إذا بلغت مرتبة الحرج فهي مرتفعة، كما هو الظاهر من هذه الجملة عرفاً.
نعم يحتمل – كما قال اليزدي – ان يكون معنى الآية بيان حكم جديد لا انه بيان حال الحرج في سائر الأحكام، بان يكون المراد: (وأما إذا حملناه على إرادة بيان عدم مشروعيَّة تحمل المشق.ة والحرج بأن يكون المعنى ليس الحكم الحرجي داخلاً في جملة أحكام الدين، وأنه لا يجوز تحمل المشقَّة وأن الأفعال الشاقة مثل الصعود على ذروة الجبال العالية والدوران كلَّ يوم ألف مرةٍ مثلاً ونحو ذلك من الأفعال الشاقَّة محرَّمة أو مكروهة مثلاً، فيكون حكماً ابتدائياً كسائر الأحكام الابتدائية، ولا يكون ناظراً ولا حاكماً على أدلَّة التكاليف، بل يكون على هذا معارضاً لها([11])، وعلى المعنى الأول يزيد مورده على مجموع موارد التكاليف، وعلى الثاني يشمل([12]) الأفعال التي ليست مورداً للتكاليف؛ كالصعود على الجبل الشاهق ونحوه)([13]).
أقول: لا مانعة جمع بين المعنيين، واللفظ صالح لهما فالظاهر عمومه لهما، ولعله يأتي مزيد توضيح له.
فتدبر جيداً وللحديثة صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
|