بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(105)
النائيني: يجب الأخذ بظهور الخاص وإن كان أضعف
سبق ان الميرزا النائيني ذهب إلى (لكن الأقوى: وجوب الأخذ بظهور الخاص وتخصيص العام به ولو كان ظهوره أضعف من ظهور العام فان أصالة الظهور في طرف الخاص تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف العام، لأن الخاص يكون بمنزلة القرينة على التصرف في العام؛ كما يتضح ذلك بفرض وقوع العام والخاص في مجلس واحد من متكلم واحد، فانه لا يكاد يشك في كون الخاص قرينة على التصرف في العام؛ كما لا ينبغي الشك في حكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذي القرينة ولو كان ظهور القرينة أضعف من ظهور ذيها) [1].
العراقي: ليس الخاص حاكماً، فلا يتقدم على العام إلا لو كان أظهر
وقد استشكل عليه المحقق العراقي بان الخاص لا يمكن ان يكون حاكماً على العام أبداً، لأن الحاكم هو الناظر للغير الشارح له وليس الخاص ناظراً للعام ولا شارحاً بل انه لا يفيد إلا مدلوله ومؤداه.
وبعبارة أخرى: الحاكم هو المسوق لبيان حال الغير وليس الخاص كذلك إذ انه مسوق لبيان حال نفسه وحكم مورده.
وبعبارة أخرى: ليس الخاص بقرينة على المراد من العام لأنه لم يسق لبيان حاله وما سيق للقرينية على حال غيره لا بد له من ان يكون مسوقاً لبيان حاله وليس الخاص مسوقاً لبيان حال العام؛ ألا ترى ان قوله (لا تكرم زيداً العالم) يفيد هذا المعنى الظاهر وليس مسوقاً لبيان حال (أكرم العلماء) ولا ناظراً لحاله بل مفاده هو حرمة إكرام زيد العالم الذي يتضاد مع وجوب إكرامه المدلول عليه بالدلالة التضمنية لـ(أكرم العلماء).
وعليه: فالخاص إنما يتقدم على العام إذا كان أظهر لا مطلقاً إذ ليس مسوقاً لبيان حال العام ليتقدم عليه مطلقاً.
قال المحقق العراقي: (أقول: لا إشكال في تقدم ما سيقت للقرينية على التصرف في غيره، ولا يلاحظ فيه الاظهرية. ولكن عمدة الكلام في هذا المعنى، إذ مرجع سوقه قرينة على التصرف في الغير إلى سوقه لبيان حال الغير، ولا يكون إلا بكونه ناظراً إلى شرح الغير، وهو ليس إلا شأن الحاكم. واما المخصّص – حسب اعترافه سابقاً – لا يكون له مثل هذا النظر أبداً، وإنما مفاده حكم آخر مضاد مع حكم غيره في فرد خاص أو مناقض؛ ففي هذه الصورة لا مجال لدعوى سوقه للقرينة على شرح غيره، بل كان معارضاً مع غيره محضا، وفي مثله لا محيص من الترجيح بالأقوى؛ فيجري على الأقوى حكم القرينة، لا انه حقيقة قرينة؛ فاجراء حكم القرينة على الخاص حينئذٍ فرع أقوائيته، وإلا فلو كان العام في دلالته على المورد أقوى – ولو من جهة إبائه عن التخصيص – يجري على العام حكم القرينة على التصرف في الخاص مثلاً. ولعمري! إن ما أفيد في المقام من غرائب الكلام) [2]
دفاعاً عن المحقق النائيني: القرينة أعم مما سيق للقرينية
أقول: لكن إشكال المحقق العراقي على الميرزا غير وارد ظاهراً؛ فان الميرزا لم يدّع بان الخاص قد (سيق قرينة) على التصرف في الغير كما توهمه العراقي من كلامه [3]. بل ادعى بان الخاص حاكم على العام وادعى بانه (بمنزلة القرينة) على العام قال: (لأن الخاص يكون بمنزلة القرينة على التصرف في العام) بل ان قوله: (فانه لا يكاد يشك في كون الخاص قرينة على التصرف في العام) أعم لأن كون الشيء قرينة أعم من كونه قد سيق للقرينية كما سيتضح وكون الشيء حاكماً على أمر آخر أعم من كونه قد سيق للقرينية عليه أو كونه ناظراً إليه، فمدعى الميرزا ان أصالة الظهور في الخاص حاكمة على أصالة الظهور في العام من غير ان يدعى كونها قد سيقت لبيان حال العام ولا كونها ناضرة إلى شرح الغير.
الحكومة نوعان
توضيحه: ان الحكومة – على حسب التحقيق الذي بنى عليه الميرزا النائيني أيضاً – على قسمين:
الحكومة المصطلحة: ما كان بمدلوله اللفظي ناظراً للغير
الأول: ما سيق لبيان حال غيره وكان ناظراً إليه شارحاً له وذلك مثل الطواف بالبيت صلاة، ولا شك لكثير الشك أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو في النافلة، مما أفاد تنزيلاً أو رفعاً كما سيأتي تفصيله في بحث الحكومة، وهذا القسم هو الذي عبر عنه بعض الأعلام بـ(الحكومة المصطلحة) التي عرفت بـ(ان يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظراً للدليل الآخر وشارحاً له) وهذا هو الذي توهم العراقي ان النائيني قد قصده وأراده فأشكل عليه بعدم انطباقه على الخاص، مع ان الميرزا النائيني نفى بصريح عباراته فيما مضى من بحث انحصار الحكومة في هذا القسم، نعم لو كان رأى النائيني حصرها فيه لورد عليه إشكال العراقي بعدم انطباق هذه الحكومة على الخاص.
الحكومة العرفية: ما كان بلحاظ صدورهما معاً في مجلسٍ
الثاني: الأعم من ذلك الشامل لما لم يُسَق لبيان حال الغير ولم يكن بمدلوله اللفظي ناظراً شارحاً بل كان بحيث إذا لاحظ العرف صدورهما في مجلس واحد من متكلم واحد جمع بينهما بجعل احدهما هو القرينة على التصرف في الآخر، وذلك كحكومة الأدلة الثانوية على الأدلة الأولية كلا ضرر ولا حرج بل وكحكومة الامارات على الأصول العملية النقلية كحكومة خبر الثقة على رفع ما لا يعلمون؛ فان خبر الثقة حاكم على رفع ما لا يعلمون لكن لا لكونه من القسم الأول من الحكومة إذ ليس مثل "الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَان"[4] ناظراً بمدلوله اللفظي إلى (رفع ما لا يعلمون) وشارحاً له بل لكونه من الحكومة من قسمها الثاني فان العرف إذا جمعهما رأى هيمنة هذا على ذاك وانه (بمنزلة الشارح) وليس (الشارح لفظاً) وان المراد هو (نتيجة التفسير) وليس (التفسير).
قال السيد الاصفهاني في منتهى الوصول (الحكومة الاصطلاحية؛ وهي عبارة عن كون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظراً لبيان مدلول الدليل الآخر، وناظراً إلى مقدار دلالته وكمية مقداره، توسعة وتضييقا) (الحكومة العرفية المعبر عنها بالتوفيق العرفي، وهي عبارة عن كون الدليلين بحيث إذا عرضا على العرف يوفقون بينهما بالتصرف في احدهما أو كليهما بالحمل على معنى لا ينافي أحدهما الآخر بلا ملاحظة نسبة بينهما، بل يقدمون أحد الدليلين على الآخر ولو كان أضعف دلالة منه وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه، ولمشاكلتها مع الحكومة الاصطلاحية في عدم ملاحظة النسبة والاظهرية بين الدليلين عرفاً عُبِّر عنها بالحكومة العرفية، وذلك كالأدلة النافية للعسر والحرج والضرر ونحوها مما يتكفل لأحكامها الثانوية بالنسبة إلى أدلة الأحكام بعناوينها الأولية، حسبما تقدم في قاعدة لا ضرر على ما هو المختار عند المصنف [5] وعندنا) [6].
بعض عبارات النائيني الصريحة في أعمية الحكومة
بل ان الميرزا النائيني صرح بان الحكومة أعم من القسم الأول في كلمات له سابقة فقال (فقيل: إنّ ضابط الحكومة هو أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا و مفسّرا لما أريد من الدليل الآخر) [7] ثم قال:
(والتحقيق: أنّه لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسّرا لمدلول الآخر و شارحا له بحيث يكون مصدّرا بأحد أدوات التفسير أو ما يلحق بذلك، فانّ غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط، بل لم يوجد فيها ما يكون مصدّرا بأحد أدوات التفسير) [8] وقال: (والظاهر أنّ مراد الشيخ - قدّس سرّه - من التفسير في قوله: «وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير» ليس هو التفسير اللفظي، بل المراد منه نتيجة التفسير وإن لم يكن تفسيرا لفظيّا، بداهة أنّه لو كان مفاد أحد الدليلين بمدلوله المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاصّ والمقيّد على العامّ والمطلق، لكان حاكما على الآخر، مع أنّه ليس في تحكيم الخاصّ والمقيّد على العامّ والمطلق ما يوجب شرح اللفظ فانّ الخاصّ والمقيّد لم يتعرّض لما أريد من لفظ العامّ والمطلق، بل وظيفة الخاصّ والمقيّد بيان الموضوع النّفس الأمري وما تعلّقت به الإرادة الواقعيّة من دون أن يتصرّف في لفظ العامّ والمطلق، بناء على ما هو التحقيق: من أنّ التخصيص والتقييد لا يوجب التجوّز في لفظ العامّ والمطلق. نعم: بناء على أنّ التخصيص والتقييد يقتضي المجازيّة، يكون الدليل الّذي كان مفاده المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاصّ والمقيّد على العامّ والمطلق، شارحا ومبيّنا لما أريد من لفظ العامّ والمطلق) [9].
وقال: (فالتحقيق: أنّه لا يعتبر في الحكومة أزيد من أن يرجع مفاد أحد الدليلين إلى تصرّف في عقد وضع الآخر بنحوٍ من التصرّف إمّا بأن يكون مفاد أحدهما رافعا لموضوع الآخر في عالم التشريع، كما في حكومة الأمارات على الأصول العمليّة وحكومة الأصول بعضها على بعض - على ما تقدّم بيانه في خاتمة الاستصحاب - وإمّا بأن يكون مفاد أحدهما إدخال ما يكون خارجا عن موضوع الآخر أو إخراج ما يكون داخلا فيه. وقد يرجع مفاد أحد الدليلين إلى التصرّف في عقد حمل الآخر لا في عقد وضعه، كأدلّة نفي الضرر والعسر والحرج، فانّها تكون حاكمة على الأحكام الأوليّة، مع أنّه لا يرجع مفادها إلى التصرّف في موضوعات الأحكام، بل يرجع تصرّفها إلى نفس الأحكام، كما أوضحناه في «رسالة لا ضرر») [10].
ولذا كله قال الميرزا هنا: (لأن الخاص يكون بمنزلة القرينة على التصرف بالعام) [11] ولم يقل (انه قرينة) بل (بمنزلة القرينة).
لا يقال: انه صرح بعد ذلك بانه (قرينة)؟.
إذ يقال: أراد – بقرينة كافة كلماته – أنه ببركة فرض وقوعهما في مجلس واحد كان كذلك لا بالذات فلاحظ قوله (؛ كما يتضح ذلك بفرض وقوع العام والخاص في مجلس واحد من متكلم واحد، فانه لا يكاد يشك في كون الخاص قرينة على التصرف في العام)
وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
|