بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(74)
3- كشف سيرة المتشرعة من سيرتهم في اللوازم وشبهها
الطريق الثالث: استكشاف سيرة المتشرعة المعاصرين للمعصومين (عليهم السلام) بالبرهان الإنّي عبر استطلاع سيرتهم في اللوازم أو ما هي كاللوازم، وفي المقام فان ذلك يتم عبر ملاحظة تعاملهم مع الحجج والأصول المترتبة طولياً على الحجج المدعى سيرة المتدينين عليها فانها، سلباً أو إيجاباً، كاشفةٌ عن حال السيرة في الحجج السابقة رتبةً وانها عليها أم لا.
بيان ذلك: ان الظاهر لمن تتبع تعامل أصحاب المعصومين (عليهم السلام) مع قواعد كالاستصحاب واليد والاقرار والطهارة وغيرها يجد انهم لم يكونوا يعملون بها مع وجود الظواهر من عمومات وإطلاقات وشبهها، أفهل ترى انهم لو وجدوا عاماً كأكرم العلماء و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كانوا يتمسكون بالاستصحاب على عدم وجوب إكرام زيد العالم وعدم وجوب الوفاء بالعقد الفلاني لمجرد ظنهم الشخصي بعدم شمول العام له؟ وهل ترى انهم كانوا يتمسكون بقاعدة اليد في مقابل البينة المستجمعة للشرائط على خلافها ([1]) لمجرد عدم ظنهم بوفاقها أو ظنهم الشخصي بخلافها؟ وهل ترى تمسكهم بالبراءة مع وجود الأمر الظاهر في الوجوب؟ وهكذا.
فمن ذلك تستكشف بناءهم سيرتهم على العمل بالعمومات ونظائرها وإلا لما كان وجه لتركهم العمل بالاستصحاب أو البراءة أو شبهها في مقابلها.
4- كشف سيرتهم العملية من الإجماع القولي
الطريق الرابع: استكشاف سيرة المتشرعة من الإجماع المنقول أو المحصل؛ فان الظاهر تمامية ذلك إذ يستكشف من إجماع الفقهاء على أمرٍ، كحجية الإقرار أو البينة أو اليد في الموضوعات أو خبر الثقة أو العمومات وشبهها من الحجج على الأحكام والموضوعات ([2])، جريان سيرة المتدينين بما هم متدينون على العمل بها، بل ان ذلك لعله من المقطوع به.
ويكشف عنه: ملاحظة حال المقلد المتدين مع مرجع تقليده، فانه بما هو متدين ملتزم، عادةً بما يورث الظن النوعي ([3]) إن لم يكن الاطمئنان المتاخم للعلم، بالعمل برأي مقلّده، ولو لم يعمل فانه عادة اما للجهل بفتواه أو إتباعاً للاحتياط وشبه ذلك ([4])، واما تركه عصياناً فنادر أو قليل جداً في المتدين، بل انه خلاف الفرض إذ الفرض ان الفتوى تكشف عن عمل المتدين بما هو متدين فعدم عمله عصياناً ليس بما هو متدين، فإذا كشفت الفتوى للفقيه الواحد عن عمل مقلده، كشف مجموع الفتاوى وهو المعبر عنه بالإجماع عن حال مجموع المقلدين المعبر عنه بسيرة المتدينين أو المتشرعة.
الفائدة في عضد الإجماع بالسيرة
لا يقال: ان ذلك لا يزيد شيئاً ولا يضر ولا ينفع؛ فان كاشفية الإجماع القولي عن السيرة العملية للمتشرعة لا يضيف حجة على حجة إذ السيرة العملية إنما هي إجماع عملي، فأية فائدة من استكشافها منه، فليقتصر عليه؟
وبعبارة أخرى: وجه حجية الإجماع اما اللطف أو الحدس أو الدخول أو التشرف أو شبه ذلك فهو – على القول به – سَنَد حجية الإجماع سواءً ءإنضم إليه الإجماع العملي أم لا؟
أ- القول بالحجية في صورة التعاضد([5]) دون التخالف
إذ يقال: كلا، بل تتأكد الحجية بذلك بل قد يقال بها بعد عدمها؛ إذ قد ينكر البعض اقتضاء اللطف الحيلولة دون انعقاد إجماع الفقهاء النظري على الخطأ في حكم فقهي مع كون عمل الأمة ولو للاحتياط على العمل بما هو صحيح واقعاً كالعمل بجلسة الاستراحة رغم الفتوى بالاستحباب أو تجنب أكل اللقلق أو الجراد – مثلاً - رغم الفتوى بالجواز أيضاً ([6]) – فقد يقال: ان اللطف لا يشمل مثل هذه الصورة، لأنه لُبي وقد تحقق الغرض منه بابتعاد المتدينين عملياً عن الحرام الواقعي الذي انعقد الإجماع فرضاً على جوازه أو بالتزامهم بالواجب عملياً رغم انعقاد الإجماع على استحبابه المسوغ لتركه.
والحاصل ان اللطف هو المقرب للطاعة والمبعد عن المعصية فلو كان العمل على امتثال الطاعة واجتناب المعصية لما دلّ اللطف على لزوم مطابقة الفتاوى للواقع أيضاً.
ب- تأكد الحجية في صورة التعاضد
واما لو قلنا باقتضاء (اللطف) تسديد المجمعين نظرياً والحيلولة عن إجماعهم على الخطأ، فان استكشاف السيرة لا يكون بلا فائدة أيضاً؛ إذ انه ([7]) يكون أكبر وأقوى في اللزوم لو وجدنا الفتاوى على أمر والعمل عليه أيضاً فان تركهم لحالهم على الخطأ فتوى وعملاً خلاف اللطف جداً فيكون الاستدلال باللطف آكد وأقوى وأقرب للقبول وأقوى في الحجية لكونها، على الكاشفية، مشككة، عكس ما لو تُركوا بحالهم عملاً لا فتوى أو العكس فتدبر.
وكذلك الحال تماماً لو كان الاستدلال بالحدس؛ فانه يحدس من استقرار عمل كافة المتدينين ومن إجماع المفتين والفقهاء، نظر المعصوم (عليه السلام) بشكل أقوى من الحدس الحاصل من الإجماع القولي فقط.
مناقشة الطريق الرابع صغرىً: عدم تماميته في الأوامر
لكنّ هذا الطريق وإن تمّ كبرىً إلا انه مناقش فيه صغرىً؛ فان الإجماع القولي في بعض الظواهر متحقق لا في جميعها، فانه ثابت في حجية العمومات والعمل بها دون الأوامر وظهورها في الوجوب لاختلاف الفقهاء على مر التاريخ في كون الأمر للوجوب أو للندب أو للطلب الجامع أو هو مشترك لفظي أو غير ذلك.
الإشكال بانقلاب السيرة في نزح البئر
ثم انه قد يعترض على ما ذكرنا في البحث الماضي من عدم انقلاب السيرة، بان السيرة قد انقلبت، دفعةً أو تدريجاً، في مواطن عديدة، منها نزح البئر إذ كانت على وجوب النزح قبل العلامة الحلي لانعقاد الإجماع على الوجوب ثم انقلبت بعده لانقلاب الإجماع!.
والجواب من وجوه:
الجواب: لا انقلاب للسيرة في الحجج، لا في الأحكام
أولاً: ان المدّعى هو انه لا يوجد ولو مصداق واحد لانقلاب السيرة دفعة ولا تدريجاً في الحجج والطرق (كاليد والإقرار والبينة، وكخبر الثقة والعمومات وشبهها) ولم يكن المدّعى عدم انقلابها في بعض الأحكام الشرعية، ونؤكد مرة أخرى: انه لا يوجد مورد كذلك في الحجج بان تكون السيرة العامة على حجية العمومات - مثلاً فترة ثم تنقلب إلى العكس، وكذا الحال في اليد والإقرار وسائر الحجج والامارات.
انقلاب السيرة هنا معلوم الوجه والكلام في المقام في مجهوله
ثانياً: ان الكلام في السيرة التي جُهِل وجهها، والمقام – في الظواهر – من ذلك، لا المعلومة الاستناد، والنقض منه؛ لمعلومية استناد انقلاب السيرة إلى الفتاوى بعد العلامة، والمشهور ارتأوا – في الإجماع المحصل والمنقول الذي يجري نظيره في المقام – ان الإجماع معلوم الاستناد أو محتمله ليس بحجة بل يجب ان يرجع إلى نفس المستند ويلاحظ حاله كدلالته – مثلاً - على ما استظهره المجمعون منه أولا، اما المجهول المستند فهو الحجة.
والكلام في السيرة المتشرعية من قبيل الأخير كما قررناه لما سبق من ان وجه الاحتجاج هو: ان سيرة المتدينين زمن المعصومين (عليهم السلام) تكشف – حدساً متاخماً لليقين – عن وجود دليل لفظي استندوا إليه أو عن تقرير للمعصوم (عليه السلام) كان هو المنشأ لعملهم كافة على طبق هذا الطريق أو ذاك ([8]) واما في مثال البئر فان من الواضح ان مستند انقلاب السيرة هو انقلاب الفتاوى فهو معلوم الاستناد.
هذا كله إضافة إلى ما سبق في رد دعوى انقلاب السيرة، في الدرس الماضي فراجع.
وللبحث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
|