بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(73)
الدليل الثالث: سيرة المتشرعة
فان الظاهر ان سيرة المتشرعة منعقدة على اتباع الظواهر الشرعية من عمومات وإطلاقات وأوامر ونواهي وحقائق ([1])، وإنها عامة حتى لو لم يظن بالوفاق بل حتى لو ظن ظناً شخصياً بالخلاف في كافة عمومات الشارع ومطلقاته وأوامره ونواهيه.
لكنّ تمامية الاستدلال بالسيرة المتشرعية موقوف على إحراز الصغرى وعلى تمامية الكبرى:
الإشكال بعدم حجية سيرة المتشرعة سواء أطابقت بناء العقلاء وسيرتهم أم خالفته
اما الكبرى: فقد يقال بعدم حجية سيرة المتشرعة سواء أطابقته سيرة العقلاء أم خالفتها:
أما إذا طابقت سيرة المتشرعة سيرة العقلاء فلأن الحجة حينئذٍ هي سيرة العقلاء لاسبقيتها رتبةً ولعدم الحاجة معها إلى سيرة المتشرعة.
وأما إذا خالفتها فلحكومة سيرة العقلاء عليها.
وجه حجية سيرة المتشرعة إذا طابقت بناء أو سيرة العقلاء
والجواب: أما إذا طابقت:
فأولاً: ان تطابق الحجتين لا يسقط الثانية منهما عن الحجية وإن كانت أسبق رتبة ألا ترى السنة حجة بعد الكتاب ومع ذلك يستدل بالآية ثم الرواية ولا وجه للقول بعدم حجية الرواية لوجود آية تامة الدلالة على المدعى.
وبعبارة أخرى: ليس من شرائط الحجية عدم وجود حجة أقوى أو سابقة رتبةً إلا لو كان بها ينتفي موضوع الحجة اللاحقة كما في خبر الثقة بالنسبة للاستصحاب.
وثانياً: ان سيرة المتشرعة هي الاقوى في الحجية من سيرة العقلاء وبنائهم؛ وذلك لتوقف حجية سيرتهم وبنائهم على إمضاء الشارع أو عدم ردعه الكاشف عن الإمضاء، عكس السيرة المتشرعية غير المتوقفة على الإمضاء لكاشفيتها بالبرهان الإنِّي عن قول الشارع أو تقريره.
وبعبارة أخرى: ان سيرة العقلاء وبنائهم في الطرق الشارعية مما لا يصح الاكتفاء بها؛ إذ ان الشارع حيث أتى بدين جديد وبالجديد في كل الحقول ([2]) فان من المحتمل جداً ان يكون قد أتى بطرق جديدة يعتبرها الحجة على مراداته أو ان يكون قد ألغى حججاً ([3]) أو قيّد الحجة العقلائية بقيود أو ألغى قيوداً، وعليه: كان من اللازم عقلاً على المتشرعة الرجوع إلى الشارع في استكشاف طرقه وحججه المعتمدة، فإذا وجدناهم اعتمدوا طريقةً وحجةً اعتمدها العقلاء كشَفَ ذلك عن تقرير الشارع لذلك أو عن دليل لفظي لم يصلنا فكان تقرير الشارع أو دليله اللفظي هو الحجة فعادت السيرة للسنة ([4]) لا لبناء العقلاء أو سيرتهم.
ومن الواضح ان السنة حجة قائمة بذاتها وإن طابقت العقل أو بناء العقلاء اللهم إلا على دعوى الارشادية. فتأمل ([5])
وجه حجيتها إذا خالفت بناء العقلاء أو سيرتهم
وأما إذا خالفت سيرة المتشرعة سيرة العقلاء فانها تكون هي الحجة لا العكس لوضوح أنها، مادامت على خلاف بناء العقلاء أو سيرتهم ومادام المتشرعة جميعاً قد عملوا بها، لا بد ان تكون مستقاةً من الشارع لا غير إذ لا يعقل في كافة المتشرعة بما هم متشرعة أن يكون عدولهم عن الطريقة المسلمة للعقلاء في حججهم وطرقهم إلى مراداتهم، اتباعاً للأهواء والشهوات أو لعوامل خارجية أخرى؛ إذ كيف يعقل توافق كافة المتشرعة في مختلف بلاد الإسلام وبمختلف مشاربهم من أصولي إلى اخباري ومن انفتاحي إلى انسدادي وغيرهم، وفي مختلف حوزاتهم العلمية من النجف وقم وحلب والحلة ومشهد وكربلاء إلى الهند وباكستان وأفغانستان... الخ، على مخالف قطعي لسيرة العقلاء – كالقول بعدم حجية القياس مثلاً – من دون ان يكون المنشأ الشارع الأقدس نفسه؟
طرق إثبات تحقق سيرة المتشرعة على العمل بالظواهر
واما الصغرى فقد يسأل عن وجه دعوى ثبوتها؟
والجواب: لإثباتها طرق عديدة:
1- استكشاف سيرة المعاصرين للمعصومين (عليهم السلام) من السيرة الحالية
الطريق الأول: ان نستكشف من سيرة المتدينين الآن سيرتهم في زمن المعصومين (عليهم السلام):
اما الملزوم فلوضوح ان كافة المتدينين الآن في كل البلاد يعملون بظواهر عمومات وإطلاقات وأوامر ونواهي المراجع والعلماء في رسائلهم العملية وغيرها ولا يطالب أحد منهم المرجع بالنص في العموم أو الوجوب، كما ان المراجع ووكلائهم يستعملون الظواهر في جل لولا شبه الكل من كلماتهم.
واما الملازمة فلوضوح انه لا مجال لحدوث هذه السيرة العامة التامة إلا بتلقيهم إيُاها يداً بيد وصولاً إلى عصر المعصومين (عليهم السلام).
الإشكال بإمكان التحول البطيء في السيرة من غير إلتفات
لا يقال: (ولكن الصحيح عدم صحة هذا الاستدلال، إذ لا صعوبة في تصور تحول السيرة بصورة تدريجية وبطيئة إلى ان تتمثل في السلوك المقابل بعد فترة طويلة من الزمن، وما هو صعب الافتراض التحول الفجائي العفوي، كما ان السلوك العقلائي ليس منبثقاً دائماً عن نكات فطرية مشتركة، بل يتاثر بالظروف والبيئة والمرتكزات الثقافية إلى غير ذلك من العوامل المتغيرة، فلا يمكن ان يعتبر الواقع المعاصر للسيرة دليلاً على ماضيها البعيد) ([6]) وكلامه (قدس سره) وإن كان في السيرة العقلائية لكنه يجري، في شقه الأول، في السيرة المتشرعية.
إذ يقال: التحول البطيء في السيرة المتشرعية بل والعقلائية وإن أمكن عقلاً، إلا ان الظاهر:
الجواب: أ- لا مورد لذلك في السيرة على الطرق
أولاً: انه لا مصداق له أو ان له مصاديق نادرة جداً لا تُخِلّ بالظن النوعي بل الاطمئنان الحاصل للعقلاء بأصالة ثبات السيرة، والعجب ممن يعتمد أصالة ثبات اللغة مع كثرة التحولات في اللغة ويستشكل على أصالة ثبات السيرة رغم ندرة تحولها وتغيرها في عامة المتدينين إلى سيرة على الخلاف عند عامة المتدينين كذلك، والمقصود سيرة المتدينين بما هم متدينون لا سيرتهم في العادات والتقاليد العرفية وشبهها.
ب- لو كان لبان
ثانياً: ان الظاهر ان التحول وإن كان بطيئاً تدريجياً خلال ألف سنة مثلاً إلا انه لا يكاد يخفى، بل يستحيل عادة ان يخفى، على كافة الأصوليين والفقهاء – وهم الذين همهم هذه البحوث، وعلى كافة المفسرين والمؤرخين وغيرهم. وكيف يعقل تحول سيرة عامة تامة في مسألة عامة هامة هي الطرق إلى مرادات الشارع، وهي محدودة لا تتجاوز العشرات في الأحكام والموضوعات، ثم لا يلتفت إلى ذلك مفسّر ولا مؤرّخ ولا فقيه ولا أصولي خاصة في مثل حجة الظواهر التي تعد الطريق لأكثر أحكام الشارع؟
2- استكشاف سيرتهم من كتب التاريخ والروايات
الطريق الثاني: مراجعة كتب التاريخ والروايات والسير وغيرها إذ يمكن الاستدلال بها بنحوين:
أ- الاستدلال بالإيجاب. ب- الاستدلال بالسلب.
أما الأول: فلأننا تتبعنا فوجدنا أصحاب المعصومين (عليهم السلام) في العشرات بل المئات من الموارد اعتمدوا على الظواهر من غير نكير ولا عدول عنها لمجرد ظن شخصي بالخلاف، وهذا الاستقراء وإن كان ناقصاً لكنه حيث انه معلّل ([7]) فهو حجة.
واما الثاني: فلأننا لم نجد مورداً، أعرض فيه الأصحاب عن عام أو مطلق أو شبههما مستنداً إلى ظنه الشخصي بالخلاف، ومنه نستكشف الإيجاب وان بناءهم على حجية الظواهر مطلقاً.
وهناك طرق أخرى لإثبات سيرة المتشرعة قد نتطرق لها لاحقاً.
ثم ان الوجه في الاستدلال بذلك كله على رد ما اعتبره الاصفهاني مقتضى التحقيق واضح، ومع ذلك فسيأتي بيانه أيضاً بإذن الله تعالى. وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
|