بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(44)
فصل ثم وصل
قبل ان نكمل البحث نعود لبيان الثمرة في إضافتنا ما اصطلحنا عليه بـ(التخريج) كقسيم للورود والتخصص، استجابة لطلب العديد من الأفاضل ممن لا استسيغ ردهم، على ان موضع الثمرة هو نهاية هذا البحث، فنقول:
الفرق بين التخريج والتخصص تكوينا ولحاظا وأحكاماً
إن الفرق بين التخريج والتخصص هو الفرق بين ما لم يكن داخلاً وما كان داخلاً ثم خرج، والفرق بينهما كبير سواء في التكوينات أم الاعتباريات، وذلك في كل من أبواب الفقه والأحكام الشرعية المختلفة باختلاف الوجهين، وأبواب القواعد الفقهية بل والعديد من المسائل الأصولية؛ فانهما وان كانا غير داخلين الآن مما قد يوهم تساويهما، إلا ان الفرق ينشأ من واقع مجموع حالته الماضية والحالية أو من لحاظ ما هو عليه الآن موصوفاً بلحوقه لحالته السابقة كما بحثناه مفصلاً في مباحث البيع في حلّ عقدة كيفية تأثير المتقدم في المتاخر أو العكس وانه بأحد وجوه سبعة ذكرناها هناك بمناسبة كيفية تعقل تأثير الإيجاب المتقدم في حدوث البيع المتأخر والحاصل عند القبول، والعكس: كيفية مدخلية القبول المتأخر في الإنشاء المتقدم، فراجع.
ومن ذلك الفرق الثبوتي أو اللحاظي ينشأ الفرق في الأحكام العرفية والشرعية والعقلية في شتى الأبواب، ولنستشهد أولاً بمثالين عرفيين ثم بدليل من القواعد الفقهية يلحقه شاهد من الفقه ثم من الأصول:
أ- الفرق بين من لم يكن في الدار وبين من كان فخرج، في ثبوت وجهٍ عقلائي لاتهام من كان داخلاً فخرج بالسرقة الحادثة فيها أو القتل دون من لم يكن داخلاً أصلاً، بل وقبل ذلك: الفرق تكويناً في إمكان وقوع هذا الفعل أو ذاك من الداخل فالخارج دون من لم يكن داخلاً.
ب- الفرق في زائرَين هما الآن على مشارف كربلاء مثلاً مع كون احدهما قد بدأ المشيء من بلد بعيد – كالبصرة مثلاً – وكون الآخر قد بدأ المشيء لتوه لكون منزله مثلاً هناك، فمع وجدانية كونهما سيان بلحاظ الحال الحاضر، إلا ان الماضي له تمام المدخلية في الأجر – كثواب - وفي التعب – كنتيجة تكوينية - وفي غير ذلك.
الفرق بينهما في قاعدة الإلزام
ج- ومما يتجلى فيه الفرق بشكل كبير وواضح هو قاعدة الإلزام والإمضاء فمثلاً لو ان المخالف طلق زوجته من غير إشهاد نظراً لعدم اشتراطهم الاشهاد فيه، فان الطلاق يقع كحكم واقعي ثانوي على المختار ولعله المشهور، اما الشيعي، وهو خارج تخصصاً عن مفاد قاعدة الإلزام إذ القاعدة هي "الزموهم... أي المخالفين، فانه لو طلقها دون شهود فطلاقه باطل وكلا المطلبين واضح والثاني من قبيل غير الداخل.
اما الصورة الثالثة فهي ما لو كان مخالفاً فطلقها بدون اشهاد طلاق رجعياً ثم تشيع وهي في العدة فهل تلاحظ حالته السابقة وان الطلاق حدث وهو مخالف فهو صحيح نافذ وعلى الزوج نفقتها كمعتدة ولو زنا بها الغير حرمت عليه أبداً كفتوى لأنه مورد الرواية، أم تلاحظ الحالة الفعلية وهي انه شيعي وان كان مسبوقاً بالتسنن حيث ان الطلاق لم يكن مما حدث وانتهى بل انه بآثاره مستمر، فيقال ان الطلاق في حقه غير نافذ فهي زوجته فيكون الزنا بها مثلاً زنا بالمتزوجة وهو ملحق بالزنا بالمعتدة احتياطاً وجوبياً حسب رأي وليس فتوى، لكلٍ وجهٌ وإن كان المنصور الأول رغم ان دليل الثاني إنصراف أدلة الإلزام عن مثله وأن موردها هو ما كانت علّته المحدثة والمبقية معاً، إذا عدّا أمراً واحداً، في زمن التزامه بمذهب المخالفين.
وأوضح منه ما لو ذبح إلى غير القبلة أو بغير الحديد (الفلز المعروف) أو بغير التسمية ثم تشيع فهل اللحم الموجودة الآن حلال بلحاظ ماضيه أو حرام بلحاظ حاضره؟
وقد يفصل بين الصورتين الماضيتين بان الملاك في الأول ([1]) الماضي وفي الثاني ([2]) الحاضر، وعلى أية حال فان ذلك دليل على ان من كان داخلاً، في التسنن، فخرج يختلف حكمه – حسب اختلاف الأنظار مطلقاً أو في الجملة عمنّ لم يكن داخلاً أصلاً – وهو بالتبع خارج الآن - والأول هو ما أسميناه التخريج والثاني التخصص.
الفرق بينهما في المسائل الفقهية: في العقود والإيقاعات والحلية والطهارة..
د- ومما يتجلى فيه الفرق بشكل أوضح الكثير من المسائل الفقهية، فمثلاً لو كان مقلداً لمن يرى صحة عقدٍ أو إيقاعٍ كالعقد بالفارسية أو البيع المعاطاتي فأجرى العقد كذلك ثم قلد من يرى بطلانه فما الحكم؟ هل تقليده السابق هو المعيار أو الحالي؟
ولو ذبح بغير الحديد – الفلز – بل بالحديد – أي الحاد كالحجر الحاد أو الزجاج – على رأي من يرى الصحة ثم قلد من يرى البطلان؟ فما حكم اللحم الموجود الآن.
ولو أصابته الغسالة وهو مقلد من يرى طهارتها ثم قلد من يرى نجاستها فهل ثوبه الآن طاهر أو نجس؟
اختلفت آراء الأعلام بين من يرى في مثل ذلك – وهو مما كان داخلاً فخرج ([3]) - ان المقياس هو الحالة السابقة مطلقا ([4]) ومن يرى المقياس هو الحالة الفعلية مطلقاً فتوى كالميرزا النائيني أو احتياطاً كالسيد الكلبايكاني ومن فصّل بين العقود والايقاعات من جهة وبين مثل النجاسة والحرمة من جهة أخرى كصاحب العروة.
قال في العروة ((مسألة 53): إذا قلد من يكتفي بالمرة مثلا في التسبيحات الأربع، واكتفى بها، أو قلد من يكتفي في التيمم بضربة واحدة، ثم مات ذلك المجتهد فقلد من يقول بوجوب التعدد، لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.
وكذا لو أوقع عقدا أو إيقاعا بتقليد مجتهد يحكم بالصحة ثم مات وقلد من يقول بالبطلان، يجوز له البناء على الصحة نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني.
وأما إذا قلد من يقول بطهارة شئ كالغسالة ثم مات وقلد من يقول بنجاسته، فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحة، وإن كانت مع استعمال ذلك الشئ، وأما نفس ذلك الشئ إذا كان باقيا فلا يحكم بعد ذلك بطهارته.
وكذا في الحلية والحرمة، فإذا أفتى المجتهد الأول بجواز الذبح بغير الحديد مثلا، فذبح حيوانا كذلك، فمات المجتهد وقلد من يقول بحرمته، فإن باعه أو أكله حكم بصحة البيع وإباحة الأكل، وأما إذا كان الحيوان المذبوح موجودا فلا يجوز بيعه ولا أكله وهكذا) ([5]).
وقال الميرزا النائيني: (لو أدى التقليد اللاحق إلى فساد عقد أو إيقاع، وكذا نجاسة شئ أو حرمته أو عدم ملكية مال ونحو ذلك، فمع فعلية الابتلاء بمورده يقوى لزوم رعايته) ([6]).
وقال كاشف الغطاء تعليقاً على (عدم جواز بيعه وأكله) (لا يبعد الجواز فإنه من آثار الفتوى السابقة، فهو كجواز وطئ المرأة المعقودة بالفارسية بفتوى المجتهد السابق، نعم لو أفتى المجتهد اللاحق بحرمة لحم حيوان كان حلالا بفتوى السابق حرم أكله فإنه نظير ماء الغسالة الباقي إلى أن تبدلت الفتوى) ([7]).
وموطن الشاهد هو ان كونه مقلداً لشخص ثم تقليده لآخر كان هو – أي مجموع الماضي والحاضر واختلافهما - السبب في هذا الاختلاف الكبير في الفتاوى مع وحدة كلمتهم في من كان مقلداً للآخر أو للأول فان له حكمه دون كلام، فقد اختلف الحال بلحاظ ماضي التقليد منسوبا لحاضره.
هـ- واما المسألة الأصولية: فسيأتي الكلام عنها بإذن الله تعالى.
إشكال: التخريج نوع من التخصص
لا يقال: مع كل ذلك فان (التخريج) يعد نوعاً من أنواع التخصص، فلنعتبر التخصص على صنفين: ما لم يكن داخلاً أصلاً فهو تخصص في العلة المحدثة فالمبقية تبعاً، وما كان داخلاً فخرج فهو تخصص بلحاظ الحال والعلة المبقية فقط.
الجواب: والورود نوع منه، والوجه اختلاف الاثار
إذ يقال: ذلك كالقول بان الورود نوع من التخصص، كما هو كذلك، والحكومة هي نوع من التخصيص في نوعيها الأخيرين (المحموليين) بل حتى في نوعيها الأولين (الموضوعيين) بوجهٍ ([8]) فما يجاب به هناك يجاب به هنا.
والوجه هو ان التقسيم ثم التسمية هي بلحاظ الأحكام والآثار والخواص فلو كانت مختلفة رجحت التسمية باسم آخر منعاً للتداخل والوهم، وإن كان الواقع انه نوع من هذا الجنس أو صنف من هذا النوع.
وعلى أية حال فلا مشاحة في الاصطلاح وكما يمكن تسمية الورود بالتخصص النوع الثاني يمكن تسمية التخريج بالتخصص النوع الثالث مثلاً، إلا ان بيت القصيد هو ان التخصص حقيقة على أنواع لكل نوع حكم فكان الأولى إفراد النوع الأول باسم التخصص والثاني باسم الورود – وقد فعلوا – والثالث – كما أضفناه - باسم التخريج.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
======================
|