بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(32)
سائر حلول معضلة الشرط المتأخر
سبق ان مدخلية القبول في العقود ومنها البيع وتأثيره في تحقق البيع الـمُنشأ بالإيجاب السابق، يُعدّ من مصاديق الشرط المتأخر المستحيل عقلاً، وقد سبقت وجوه للجواب:
الوجه الأول: ان الـمُنشأ بالبيع هو قوة البيع ومادته لا فعليته والقبول لا مدخلية له فيه بل القبول شرط الفعلية، أي فعلية التمليك والنقل الانتقال، وهو مقارن لها، وقد صار إليه الميرزا النائيني.
الوجه الثاني: ان الـمُنشأ بالبيع هو الوجود المراعى الضعيف المتزلزل القابل لأن يلغى من حين حدوثه وبلحاظه أو بلحاظ بقائه واستمراره.
الوجه الثالث: ان الـمُنشأ بالبيع هو الوجود التعليقي أي الوجود المعلق على القبول فبالقبول يتحقق البيع، وسبق الجواب عن بعض الإشكالات عليه، لكن يبقى إشكال أن غاية ما ينتجه هذا الوجه هو تحويل الإشكال من الشرط المتأخر (القبول) إلى الشرط المتقدم (الإيجاب) فانه شرط تأثير القبول اللاحق في تحقق البيع عنده ([1]).
4- الشرط هو الوجود الذهني لا العيني
الوجه الرابع: ما ذهب إليه الآخوند في الكفاية من ان الشرط هو الوجود العلمي والذهني لما عُدّ شرطاً أي ان لحاظه وتصوره هو الشرط دون وجوده الخارجي، واللحاظ مقارن وليس متأخراً.
توضيحه: ان (القبول) ([2]) ليس بوجوده العيني الخارجي المتحقق في المستقبل، أي بعد الإيجاب بقليل، شرط تأثير الإيجاب في تحقق البيع بل انه بوجوده التصوري اللحاظي هو الشرط، أي ان المولى يلاحظ وجود القبول اللاحق فيعتبر الملكية عنده، فالشرط مقارن إذ العلة لتحقق البيع والنقل والانتقال ستكون، على هذا، مجموع الإيجاب الحالي مع لحاظ المولى الآن حدوث القبول في ظرفه. وعليه فاطلاق الشرط على نفس القبول مسامحة.
مناقشة الوجه الرابع ثبوتا وإثباتا
وقد يورد عليه: أولاً: انه لا شك في ان العقلاء والشارع سيدهم، يرون ان القبول بوجوده الخارجي الآتي هو المؤثر في حدوث النقل والانتقال ([3]) لا مجرد تصوره ووجوده العلمي في ذهن المولى أو العقلاء؛ ألا ترى انه لو لاحظ وجوده ثم لم يتحقق (أي القبول) لما تحقق البيع والنقل والانتقال مما يكشف عن ان الشرط هو الوجود الثبوتي الحقيقي الواقعي الخارجي للقبول لا الذهني العلمي التصوري، وهذا من دون الحاجة إلى التمسك بان الأسماء، كالشرط والقبول، موضوعة لمسمياتها الثبوتية فانه مما يحتاج إليه الوجه الآتي الاثباتي دون هذا الوجه الثبوتي.
ثانياً: ان ذلك خلاف ظاهر الأدلة؛ ألا ترى ان ظاهر قوله تعالى: (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) هو ان التراضي بوجوده الخارجي شرط صحة التجارة وجوازها وليس مجرد لحاظ التراضي ووجوده العلمي، فالمكرَه لو رضي لاحقاً صح البيع لا لو تصورنا رضاه من دون حصوله خارجاً.
والحاصل: ان الوجود العلمي للقبول والرضى، مرآتي آلي وليس استقلالياً، فالشرط في الحقيقة هو ذوه وليس به، وهو المرُى به والمنكشَف وليس الكاشف والـمُري. فتدبر
وستأتي تتمة لهذا الوجه والإشكال عليه بإذن الله تعالى
5- الشرط في الأحكام اعتباري وهو خفيف المؤونة
الوجه الخامس: ان يقال بان الشرط في الأحكام التكليفية والوضعية هو من الأمور الاعتبارية وهي خفيفة المؤونة، فيمكن ان يكون متقدماً أو متأخراً عكس الشرط في الأمور التكوينية كشرطية المحاذاة لإحراق النار إذ لا بد ان تكون مقارنة لا متأخرة ولا سابقة، والنقل والانتقال والملكية أمور اعتبارية فلا باس بان يكون القبول اللاحق شرط تحققها من حين الإيجاب، كما لا بأس بان يلتزم بالعكس بان يقال بان الإيجاب المتقدم شرط تحقق الملكية عند القبول المتأخر.
والسر في ذلك: ان الأمور الاعتبارية ليست وجودات عينية لتجري عليها أحكامها بل هي أمور ذهنية قائمة بأذهان المعتبرين وهم العقلاء، أو الشارع، أو الحكومة في مثل اعتبار القيمة للعملة الورقية، أو الشخص نفسه، وقيل انها قائمة بالعقل الفعّال ولكن الإشكال فيه مبنى وبناءً، وعلى أي فانها حيث كانت ذهنية كانت أحكامها أهون وأسهل إذ للذهن قدرة واسعة على ان يفعل ما يشاء كيف يشاء ([4]).
المناقشة: المحال محال في كل الاصقاع والانحاء
ولكن يرد عليه: ان ذلك وإن صح إلا انه لا يجدي في حل إشكال دعوى الاستحالة، فان المحال محال في كل الاصقاع ولا يعقل تحقق المحال في أي عالم من العوالم؛ ألا ترى ان الدور، أي ما هو دور بالحمل الشائع الصناعي، محال في الخارج وفي الذهن وفي أي عالم آخر فرض؟ وكذا التسلسل وشريك الباري وغيرهما؟ وما يفرضه الذهن تسلسلاً أو شريكاً للباري فانه ليس تسلسلاً أو شريكاً بالحمل الشائع بل بالحمل الذاتي فقط أي انه مفهوم التسلسل وليس مصداقه الذهني ولا الخارجي، ومفهوم شريك الباري وليس مصداقه وحقيقته ذهناً ولا خارجاً.
والإشكال في الشرط المتأخر هو انه من المستحيل ذاتاً ان يؤثر المتأخر في المتقدم، ولا فرق في ذلك بين المتأخر الخارجي والمتأخر الذهني، بل الأمر في الذهني أوضح إذ اذا كان الوجود القوي القادر على إيجاد الأمور العينية غير قادر على إيجاد المستحيل فكيف يكون الوجود الضعيف، كالممكن، غير القادر إلا على إيجاد (الحركة) و(الاعتباريات) قادراً على إيجاد المستحيل في عالم من العوالم؟ فتدبر
المقدور لنا مقولة الفعل وتوابعها
إلفات: نحن البشر ليس بمقدورنا إلا مقولة الفعل ([5]) وعليه نثاب أو نعاقب فالصلاة فعل والكذب والضرب فعل وهكذا اما غير مقولة الفعل وما يتبعها، فلا قدرة لنا عليها كإيجاد الأعيان الخارجية والجواهر غاية الأمر انه يمكننا إيجادها في عالم الذهن فقط.
نعم يستثنى من ذلك من اعطاهم الله تعالى قدرة إيجاد الأعيان الخارجية كالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ولهذا البحث مجال آخر.
6- ثبوت العلة المعدة دليل امكان الشرط المتقدم([6])
الوجه السادس: وهو خاص بالشرط المتقدم، إلا انه إذا أمكن رفع الاستحالة عن تقدم الشرط بانَ ان تأخرّه أيضاً ليس بمحال وان احتاج إلى تصوير آخر، وبذلك يمكن الجواب على صاحب الكفاية إذ رأى تعميم الإشكال للشرط المتقدم أيضاً ([7])، وهو:
ان الشرط المتقدم مما لا ضير فيه بل هو وجداني ضرورة ان كثيراً من الأمور تعد من العلة المعدة وهي التي يلزم من وجودها وعدمها ووجودها وعدمها الوجود كالمشي للوصول للمقصد والطبع لانضاج اللحم، وهكذا.
ومن الواضح ان العلة المعلة، وهي الشرط المتقدم، سابقة بذاتها على المعلول؛ ألا ترى الغليان مثلاً فان علته المعدة هي تصاعد درجة حرارة الماءة درجةً درجةً فكل درجة فهي علة معدة وشرط متقدم لحصول الغليان لاحقاً.
قال في المحاضرات: (ولنأخذ بالنقد عليه: وهو أنّ ما جاء به المحقق صاحب الكفاية قدسسره من تعميم الاشكال إلى الشرط المتقدم خاطئ جداً، فان تقدّم الشرط على المشروط في التكوينيات غير عزيز فما ظنك في التشريعيات، والسبب في ذلك: هو أنّ مردّ الشرط في طرف الفاعل إلى مصحح فاعليته، كما أن مردّه في طرف القابل إلى متمم قابليته، ومن الطبيعي أنّه لا مانع من تقدّم مثله على المشروط زماناً.
وبكلمة اخرى: أنّ شأن الشرط إنّما هو إعطاء استعداد التأثير للمقتضي في مقتضاه، وليس شأنه التأثير الفعلي فيه حتّى لا يمكن تقدمه عليه زماناً. ومن البديهي أنّه لا مانع من تقدّم ما هو معدّ ومقرّب للمعلول إلى حيث يمكن صدوره عن العلة زمناً عليه، ولا تعتبر المقارنة في مثله. نعم، الذي لا يمكن تقدمه على المعلول زماناً هو الجزء الأخير للعلة التامة، وأمّا سائر أجزائها فلا مانع من ذلك أصلاً، ونأخذ لتوضيح ذلك مثالين:
أحدهما : أنّ غليان الماء خارجاً يتوقف على إحراق النار وإيجاد الحرارة فيه على التدريج إلى أن تبلغ درجة خاصة فإذا وصلت إلى هذه الدرجة تحقق الغليان، فالإحراق شرط له وهو متقدم عليه زماناً.
ثانيهما: أنّ القتل يتوقف على فري الأوداج ، ثمّ رفض العروق الدم الموجود فيها إلى الخارج، ثمّ توقف القلب عن الحركة وبعده يتحقق القتل، ففري الأوداج مع أنّه شرط متقدم عليه. فالنتيجة أنّه لا مانع من تقدّم سائر أجزاء العلة التامة على المعلول زماناً، فان ما لا يمكن تقدمه عليه كذلك هو الجزء الأخير لها.
ومن هنا يظهر أنّ التعاصر إنّما هو بين العلة التامة ومعلولها لا بين كل جزء جزء منها وبينه، فإذا جاز تقدّم الشرط على المشروط في التكوينيات جاز في الشرعيات أيضاً، بداهة أنّه لا مانع من اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف مشروطاً بشيء متدرج الوجود خارجاً على نحو يكون ثبوته في ذمته معاصراً لجزئه الأخير بحيث يستحيل الانفكاك بينهما زماناً، أو يعتبر الوضع كالملكية والزوجية وما شاكلهما كذلك، يعني مشروطاً بشيء متدرج الوجود كالعقد ونحوه) ([8]). وستأتي المناقشة بإذن الله تعالى
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
========================
|