
الفصل الثاني
مقارنات واستنتاجات وخلاصات
بين ولاية الفقيه لدى الإمام الشيرازي والديمقراطية (الاستشارية)
موقع الإمام الشيرازي
إن ولاية الفقيه في فقه الإمام الشيرازي في الوقت الذي تقرّ فيه بولايته في الشؤون العامة إلا أنها لدى استعراض تفاصيلها ومعالمها بدقة نجدها تقترب من قول أولئك الفقهاء الذين ذهبوا إلى عدم ثبوت ولاية للفقيه خارج دائرة الأمور الحسبية، كما انها من جهة أخرى لا تتنافى مع الاستشارية بل هي ركن من أركانها كما أنها لا تتنافى مع الديمقراطية إذا فسرناها بانها آلية من الآليات التي تحدد كيفية حكومة الناس أنفسهم بأنفسهم من غير قسر خارجي. دون ما إذا فسرناها بكون مصدر التشريع هو الناس لا الله تعالى.
وذلك لأن السيد قدس سره اشترط في ولاية الفقيه رضا الناس به، وهذا هو أساس الديمقراطية، فإذا لم يرض به الناس فلا ولاية له.
وبكلمة جامعة: يرى أن ولاية الفقيه متوقفة على رضا الناس حدوثاً وبقاءً: أما الحدوث فلانها منوطة برضا الناس واختيارهم، وأما البقاء فلأنهم لو عزلوه لما جاز له التصدي قسراً.
بل إنه زاد على الديمقراطية أنه اشترط في الولي الحاكم شروطاً مثالية كالعدالة والاجتهاد، فكما ان الديمقراطيات تشترط في انتخاب رئيس الجمهورية شروطاً – ككونه مولوداً في ذلك البلد وان يحمل جنسيته وكونه حاصلاً على شهادة التخرج [1] - ولا يجدون تنافياً وتعارضاً بين هذه الشروط والديمقراطية، كذلك اشتراط مثل العدالة والاجتهاد.
والحاصل: بكلمة جامعة:
إن السيد الشيرازي يرى اشتراط هذه الشروط – الاجتهاد، العدالة، رضا الناس – في ولاية الفقيه فإن فقد أحدها فلا ولاية له.
أما الناس فلا يُكرهون على تقبل هذه الشروط، بل لهم أن يقلدوا فقيهاً آخر.
بل لو أنهم رفضوا التقليد لما كانت للفقيه ولاية عليهم، ولما جاز له جبرهم، بل غاية وظيفته أن يُذكّر للناس بما توصل إليه اجتهاده الفقهي بنحو القضية الحقيقية، وذلك كما صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما أعلن للناس أن صلاة التراويح بدعة محرمة، وعندما خرجت مظاهرة احتجاج معارضة، لم يقمع المتظاهرين، بل قال لمالك الأشتر (دعوهم وما يريدون ليصلّ بهم من شاءوا).
ونص الرواية كما في الحدائق الناضرة عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): (لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة أتاه الناس فقالوا له اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان فقال لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون ابكوا شهر رمضان واشهر رمضاناه!!، فأتى الحارث الأعور في أناس فقال يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك قال فقال عند ذلك دعوهم وما يريدون ليصل بهم من شاءوا. ثم قال: ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) [2].
والحاصل: إن ولاية الفقيه هي ولاية تعليقية وليست تنجيزية، أي هي معلقة – بنظره قدس سره – على شروط كثيرة ومنها: رضا الناس به، فإذا لم يرضوا به فإنه لا ولاية فعلية له، أو بتعبير آخر: ولايته شأنية وليست فعلية، وذلك نظير ما قاله بعض الفقهاء في منصب القضاء إذ قالوا بأن الأئمة (عليهم السلام) قد نصبوا الفقيه الجامع للشرائط للقضاء لكنه لا يحق له جبرهم على الرجوع إليه مع أن أكثر أدلة ولاية الفقيه هي الأدلة في باب القضاء.
بل لقد ظهر مما مضى من الشروط أن ولاية الفقيه هي أدنى وأقل من ذلك أيضاً من بعض الجهات، وإن الفقيه أما لا ولاية له بوجه أبداً (كما في ما يخالف المصلحة العامة بل حتى فيما إذا لم تحرز، وكما في ما لا يدخل في إطار أحكام الإسلام أو ما يخالف الحريات التي منحها الله تعالى للناس، فأحكام الإسلام إذاً والمصلحة العامة والحريات الإسلامية الثابتة مقدّمة على ولاية الفقيه وغير ذلك) أو إذا كانت له فولاية شأنية لا فعلية إلا إذا رضي به الناس واختاروه.
وعليه: فلا يكون للفقهاء إذا لم يرض بهم الناس ولم يختاروهم إلا دور توجيهي وترشيدي ورقابي في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس إلّا، ويكون حالهم كحال أي مكلف من الناس حيث عليه التوجيه والرقابة في حدود قدرته كي لا يخالف الحكام العدل والإنصاف وسائر القوانين العقلية والشرعية.
(الولاية) مفهوم مؤسساتي وليس أمراً فردياً
ويظهر من مختلف كتب الإمام الشيرازي، ومن بعض ما ذكرناه هنا، أنه (قدس الله نفسه الزكية) لا يرى مفهوم الولاية مفهوماً فردياً، بل يراه مفهوماً مؤسساتياً يلف نظام الدولة كله، إذ يبدأ من شورى الفقهاء ويمر بالقوى الثلاث وبالمنظمات والأحزاب والعشائر حتى يصل إلى أصغر وحدة من وحدات مؤسسات المجتمع المدني، كما أنه يراه مشروطاً بالاستعانة بالخبراء والمتخصصين ومراكز الدراسات وما إلى ذلك، وهذا ما يستدعي كتابة دراسة خاصة عن ذلك.
ولنكتف ههنا بنقل نص واحد من نصوصه الكثيرة، فقد قال الإمام الشيرازي في كتاب الصياغة الجديدة: (حيث إن الدولة في الإسلام مبنية على الشورى في كل شؤونها، ومن الضروري تحكيم الشورى في الدولة الإسلامية وفي العالم أجمع، فيجب أن تكون كل الأمور ـ من القرية إلى العاصمة ومروراً بالمعمل والمصنع والمطار واتحاد الطلبة والمدارس والجامعات وغيرها ـ مبنية على الشورى، فإنها تظهر الكفاءات، وتقدم الضوابط وتزيل الروابط والرشاوي والمحسوبية والمنسوبية، وما أشبه، بينما الدكتاتورية بالعكس، فالشورى تنتهي بالمجتمع إلى القمة، والدكتاتورية تنزل به إلى الحضيض.
وفي الحديث: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان أكثر الناس استشارة.
كما تقدم أن علياً (عليه السلام) جعل من حق الأمة عليه أن يستشيرهم.
وفي أحاديث كثيرة إن من وظيفة المسلم (النصيحة) ويراد بها إعطاء المشورة والنصح لإمام المسلمين، كما أن من وظيفته النصح لغيره أيضاً ففي رواية عن علي (عليه السلام) أنه قال قال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أنسك الناس نسكاً أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً لجماعة المسلمين) [3].
وفي حديث قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من يضمن لي خمساً أضمن له الجنة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: النصيحة لله عز وجل، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله، والنصيحة لجماعة المسلمين) [4].
وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أعظم الناس منزلة يوم القيامة أفشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه) [5].) - انتهى
مقارنة بين ولاية الفقيه في الفقه الشيرازي وبين منكري ولاية الفقيه
إن ولاية الفقيه في فقه السيد الشيرازي تقترب بعد تقييده لها بتلك القيود الصعبة وربما النادرة التحقق، من رأي أولئك الفقهاء الذين اعتقدوا بعدم ثبوت ولاية للفقيه على أكثر من الأمور الحسيية التي تعني مجرد الولاية على القصّر والغيّب ومن أشبههم لتمشية أمورهم حسب الغبطة والمصلحة.
وذلك لأنه ارتأى أن ولاية الفقيه:
أولاً: لا تشمل سائر الفقهاء فلا ولاية له على سائر الفقهاء.
ثانياً: إنها لا تشمل مقلدي سائر الفقهاء.
ثالثاً: إنها مقيدة بموافقة أكثرية الفقهاء معه (في إطار شورى الفقهاء).
رابعاً: إنها مقيدة بمراعاة المصلحة العامة.
خامساً: إنها غير شاملة للشؤون الشخصية.
سادساً: إنها خاصة بدائرة الأحكام الثانوية.
سابعاً: إنها تخييرية لا تعيينة.
ثامناً: إنها خاصة بما إذا لم يستبدّ بالأمر.
تاسعاً: إنها خاصة بمقدار الضرورة.
عاشراً: إنها غير شاملة لما إذا لم يُراعِ الاحتياط الوجوبي.
حادي عشر: إنها لا تثبت له إذا لم يرض الناس به.
ثاني عشر: إنها لا تثبت له إذا خرج عن مهمة الحاكم والحكومة وهي (إدارة البلاد والعباد، إدارة تؤدي إلى عمران البلاد وازدهارها).
ولعل الشرط – الحادي عشر - هو بيت القصيد في التقاء فقهه في ولاية الفقيه مع فقه الذين يرفضون ولاية الفقيه، والظاهر إن الذين يرفضون ولاية الفقيه يرفضون ثبوتها بالأدلة العامة، كمنصب أو كحكم شرعي ابتدائي والأول حكم وضعي، والثاني يراد به الحكم التكليفي، أما إذا جعل الناس الفقيه وكيلاً لهم في إدارة شؤونهم أو أذنوا له في ذلك فمن المستبعد أن يرفض أولئك الفقهاء صحة هذه الوكالة أو الاذن.
نعم يبقى الفرق أنهم يرفضون ظاهراً صحة نصب الناس له ولياً، فيما يبدو من فقه الإمام الشيرازي أنه يرى الولاية منصباً له لكنه مقيّد برضاهم فلو رضوا تمّ نصبه وإلا فلا حق له في تسنم هذا المنصب بل تبقى ولايته شأنية.
والظاهر إن الفرق على هذا اعتباري فقط، إذ لا أثر عملي له أبداً مع تقييد السيد الشيرازي لولايته بسائر الشروط التي عددنا اثني عشر شرطاً منها هنا، فانه مثلاً ما دام يحق لهم ان يعزلوا ويختاروا غيره فأي فرق عملي بين ان نقول بكونه وكيلاً عنهم أو ولياً عليهم باختيارهم؟
وكذلك: ما دامت ولايته مقيدة بمراعاة المصلحة العامة والاحتياط الواجب وفي دائرة الأحكام الثانوية فقط، فأي فرق بين كونه منصوبا بشرط رضا الناس أو مأذونا من قبلهم؟ فتأمل [6]
خاصة وإن السيد الشيرازي يرى أنه لا فرق بين الاذن والوكالة والنصب من حيث الظهور العرفي، كما صرح بذلك في موضع من الفقه.
والخلاصة: إن الذي ظهر لنا من تتبع مختلف كلمات الإمام الشيرازي أنه يقول بالولاية التعليقية للفقيه لا الولاية التنجيزية، أي إنها معلقة على شروط ومنها رضا الناس بولايته، وبتعبير آخر أنه يقول بالولاية الشأنية لا الولاية الفعلية، أي أن له صلاحية الولاية شرعاً لكن ولايته لا تكون فعلية إلا بعد تحقق كل تلك الشروط.
ولا ينافي ذلك قوله (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) فإنه:
أولاً هذه الرواية ترتبط بالقاضي لا الفقيه الحاكم.
وثانياً: على فرض التعميم فإن (الجعل) أعم من الجعل التنجيزي والتعليقي أو الشأني والفعلي.
سلمنا لكنه ظاهر في التنجيزي الفعلي وأدلة الشروط نص فتتقدم عليه.
وبعبارة أخرى: (جعلته) ظاهر بإطلاقه في أنه لا يشترط في فعليته أمر، فإذا دل دليل على شرط في الفعلية تقدم عليه كما هو مقتضى الصناعة.
الفوارق بين ولاية الفقيه وولاية المعصومين (عليهم السلام)
وبذلك ظهرت سلسلة من الفوارق الجوهرية بين ولاية الفقيه في فقه الإمام الشيرازي وولاية المعصومين عليهم صلوات المصلين، وهذه عناوينها:
1- إن للإمام (عليه السلام) ولاية تكوينية وليست للفقيه أي ولاية تكوينية.
2- إن للإمام (عليه السلام) ولاية تشريعية في الجملة اما الفقيه فلا ولاية تشريعية له أبداً.
3- إن للمعصوم ولاية في كافة الشؤون الشخصية للناس، ولا ولاية للفقيه على ذلك أبداً.
4- إن للمعصوم ولاية على كافة الخلق وليس للفقيه ولاية إلا على مقلديه ومن انتخبه وبحدود خاصة.
5- إن للمعصوم ولاية على جميع الفقهاء وليس للفقيه ولاية على سائر الفقهاء.
6- إن للمعصوم ولاية على مقلدي جميع الفقهاء وليس للفقيه ولاية على مقلدي سائر الفقهاء.
7- إن للمعصوم ولاية في غير الشؤون الثانوية أيضاً اما الفقيه فولايته منحصرة بالشؤون الثانوية.
8- إن للمعصوم ولاية في الأعم من دائرة المصلحة اما الفقيه فولايته منحصرة فيما لو اقتضت المصلحة فقط.
وليس معنى ذلك أن المعصوم يعمل عملاً بلا مصلحة أو بالضد من المصلحة، بل بمعنى له أن يفعل لأنه مولى لكنه لا يفعل لأنه حكيم، فهو كالمالك الذي له ان يفعل بممتلكاته ما شاء – كحقٍ، لكنه لا يفعل ذلك إذا لم ير فيه المصلحة.
9- إن المعصوم منصوب بشخصه اما الفقيه فمنصوب بالنصب العام لا الخاص.
10- إن المعصوم منصوب من قبل الله تعالى بواسطة رسوله اما الفقيه فمنصوب أو مأذون من قبل الإمام (عليه السلام).
11- إن ولاية المعصوم التي هي بنصب إلهي لا تتوقف على رضا أحد وذلك كما ان ولاية الأنبياء (عليهم السلام) هي بنصب إلهي فلا تتوقف على رضا الناس، أما ولاية الفقيه فمشروطة برضا الناس.
12- إن ولاية المعصوم دائمية أما ولاية الفقيه فمؤقتة ومنوطة بحياته وبعدم عزل الناس له.
13- إن ولاية المعصوم فعلية منجزة أما ولاية الفقيه فشأنية معلّقة على اجتماع كافة الشروط الآنفة.
14- إن ولاية المعصوم تعيينية أما ولاية الفقيه فتخييرية.
15- إن ولاية المعصوم ليست متوقفة على الشورى أما ولاية الفقيه فهي متوقفة على انعقاد رأي أكثرية الفقهاء على ما صار إليه في الشؤون العامة.
16- إن ولاية المعصوم هي أصل اعتقادي، أما ولاية الفقيه فليست من الأصول الاعتقادية، بل ولا حتى من فروع الدين، بل إنها من الأحكام الاجتهادية المختلف فيها كسائر الأحكام الاجتهادية .. إلى غير ذلك من الفوارق
والحمد لله كثيراً وصلواته وتحياته على السراج المنير والبشير النذير وأهل بيته الأطيبين الأكرمين
(مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث)
كما ويمكنكم الاطلاع على الجزء الاول من حدود ولاية الفقيه من خلال النقر هنا
------------------------------------------------------------
|