بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
الاصول
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(9)
توجيه الميرزا الشيرازي لكلام الطرفين
وقد انصف الميرزا الشيرازي كلا الطرفين حيث ذكر وجهين للإفراد (الترجيح) ووجهين للجمع (التراجيح) فقال : (والظاهر أنّ مراد من أفرده إنّما هو إطلاقه الشائع في باب الأدلّة، وهو الذي عرفته، ويحتمل بعيداً إرادة جنس المزيّة القائمة بأحد الدليلين المتعارضين بعلاقة السببيّة) [1].
وجهان للإفراد (الترجيح) والمناقشة
اقول: فوجه الافراد هو :
أ- اما ان يراد بـ(الترجيح) تقديم المستنبِط احدَ الدليلين المتعارضين على الاخر وهو المعنى المصطلح الشائع استعماله في باب الادلة، ووجه الافراد هو: ان (التقديم هو فعل المستنبط وهو واحد في حد ذاته لا تعدد فيه) كما صرح لاحقاً .
ولكن قد يتأمل فيه لان وحدته نوعية لا شخصية فكما صح ان يراد المرجحات الجزئية – كما ارتضاه في توجيه الجمع– صحّ ان يراد التقديمات الجزئية بلحاظ مواردها او المضاف اليه، كما سيأتي منه v بيانه فصح الجمع.
ب- واما ان يراد بالترجيح المرجّح – فان المرجِّح سبب وجود الترجيح فالعلاقة المصححة للتجوز هي السببية – ويراد بالمرجّح جنسه فـ(التعادل والترجيح) أي (التعادل والمرجح) أي جنس المرجح فهو كقولك (الامارة) أو (الاصل) أو (الحمد) [2].
وجهان للجمع (التراجيح) والمناقشة
وقال: (وامّا الذي عَبّر عنه هنا بلفظ الجمع فالظاهر أنّه اراد به المزايا الجزئية؛ لمنافاة الجمعيّة لإِرادة جنسها – كما لا يخفى – ولإِرادة إطلاقة الشائع أيضاً؛ إذ لا يخفى أنّه فعل المستنبط، وهو في حدّ ذاته واحد لا تعدّد فيه.
نعم يمكن اعتبار تعدّده باعتبار تكثّر موارده ، فإنّ كلِّ تقديم وترجيح – في موردٍ لمزيّة – شخصٌ مغاير لتقديم في مورد آخر لمزيّةٍ اُخرى او بتلك المزيّة أيضاً، فيرتفع به منافاة الجمعيّة، فيكون احتماله أقرب؛ لكونه على تقديره إطلاقاً حقيقيّاً، بخلافه على جنس المزيّة أو جزئيّاتها) [3].
اقول: فوجه جمع التراجيح هو:
أ- اما انه قد اريد من (التراجيح) المرجحات الجزئية – بعلاقة السببية ايضاً - ولا يعقل على الجمع ارادة جنس المرجح (أي المرجح الجنسي مقابل المرجحات الجزئية) اذ الجنس لا جمع له والا لما كان جنساً بل نوعاً أو فرداً هذا خلف، فمثلاً قوله تعالى (( إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ))[4] هذا يراد به جنس الانسان فلا يصح القول ( ان الاناسي لفي خسر ) الا لو رفع اليد عن ارادة الجنس واريد الفرد – أي كل انسان انسان – فانه يصح الجمع حينئذٍ، وكذا الحال في (( الْحَمْدُ لِلَّهِ[5])) فانه حيث اريد به الجنس لم تصح تثنيته ولاجمعه.
ولكن قد يورد عليه: ان الأولى ان يريد من عبّر بالجمع المزايا النوعية – لا الجزئية كما ارتضاه ولا الجنسية لعدم صحتها – وذلك لان المقصود بالبحث في باب التعارض - والذي هو مورد الروايات ايضاً - هو المزايا النوعية كالشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة .. الى غير ذلك.
ب – واما انه قد اريد من التراجيح الترجيحات – لا المرجحات وهو الوجه السابق – وتعدد الترجيح وان لم يمكن بنظره لأنه (فعل المستنبط وهو في حد ذاته لا تعدد فيه) الا انه يتعدد بتعدد موارده او المضاف اليه.
وقد مضى ان ارادة التعدد بلحاظ النوع اولى من قصد التعدد بلحاظ الشخص ، ونضيف: ان التعدد بلحاظ الشخص (أي ترجيح خصوص هذا الحديث على ذاك .. وهكذا) مبحث فقهي يبحث عنه في الفقه فيما لو كانت الروايتان في مسألة فقهية (وفي غيره في غيرها) اما الترجيح بلحاظ النوع فهو مسألة أصولية.
معنى (الترجيح)
بعد الفراغ عن وجوه ارجحية العنونة بـ(التعارض) بدل (التعادل والترجيح) لابد من البحث عن مبدأ تصوري آخر وهو تعريف الترجيح ومعناه فنقول : المحتملات بل الاقوال فيه خمسة [6] وقد جمعها المولى النراقي في انيس المجتهدين [7] فقال : ( والترجيح لغةً: جعل الشيء راجحاً [8]. ويقال مجازاً لاعتقاد الرجحان.
وعرفاً: تقديم اقوى الامارتين على الاُخرى في العمل بمؤادّه.
وقيل: تقوية إحدى الأمارتين على الاُخرى ليعمل بها [9].
وقيل : اقتران الأمارة بما يقوى به على معارضها [10].
والأوّلان [11] أظهران: لأنّ حقيقة الترجيح هو فعل المجتهد فهو إمّا التقديم أو التقوية، والاقتران سبب لهما ، فالتعريف به تعريف به تعريف الشيء بسببه) [12].
تقييم المعاني الخمسة للترجيح
اقول: اما المعنى الاول فهو امر تكويني كما لو ضغط على احدى كفتي الميزان فرجحت على الاخرى، ويوضحه: قوله تعالى (( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ))[13] فانه يراد به المعنى التكويني أي يجعلكم تكويناً طاهرين منذ بدأ خلقتكم، وليس هذا المعنى مراداً في هذا الباب اذ لايراد بالترجيح جعله راجحاً اذ ليس ذلك – ثبوتاً – بمقدور لنا بل ان احد الخبرين بنفسه – وفي مرتبة وزمنٍ سابق [14] على بحث المجتهد عنه واجتهاده فيه – راجح على الاخر بمطابقته للكتاب او للشهرة او مخالفته للعامة او غير ذلك.
واما الثاني فواضح انه مجاز.
واما الثالث [15]، فهو ما ذهب اليه الشيخ البهائي في الزبدة وهو الاقرب ان رفعنا اليد عما ذكرناه من ان الاصح الترجح لا الترجيح اذ البحث في هذا الباب عن ترجح احد الخبرين بمطابقته للكتاب ونظائره، وقد مضى الاشكال في هذا التعريف بان التقديم فعل المجتهد والكلام في هذا الباب عن صفة الروايتين.
واما الرابع: فهو كسابقه اشكالاً ووجهاً لكن سابقه اقرب منه (وان كان لكل منهما وجه) فانه ان رفعنا اليد عن كون المقصود (الترجح) فان المقصود في هذا الباب هو التقديم لا التقوية وان كان التقديم متأخراً رتبة عن التقوية فتدبر.
واما الخامس ، فهو ما ذهب اليه صاحب القوانين اذ قال (وهو المناسب للتعارض والتعادل اللذين يستعملان معه في هذا الباب فانهما صفتان للامارة لا فعلان للمجتهد، وكذلك الترجيح).
اقول كلامه وان صح لبّاً لكنه لايصح فنياً اذ ما هو صفة للامارة هو الترجح لا الترجيح.
والحاصل: ان (اقتران..) وهو امر ثبوتي، صحيح، لكنه تعريف للترجّح الذي هو امر ثبوتي غير قصدي لا للترجيح الذي هو امر اثباتي قصدي [16].
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
================================
|