• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الاخبار .
              • الموضوع : المطالب النقلية والعقلية في تحصيل العلوم التاريخية في فكر المجدد الحسيني الشيرازي .

المطالب النقلية والعقلية في تحصيل العلوم التاريخية في فكر المجدد الحسيني الشيرازي

موقع الامام الشيرازي

الحقيقة الثابتة، أن المفكّر والمرجع المجدّد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده)، لم يكن مبالغاً أو مفرطاً، ولا مترفاً فكرياً، إذ أولى الإهتمام الرصين  بالدراسات التاريخية، بكامل تفرعاتها، سواء في البحث التاريخي العام، أو في المعارف والعلوم الداخلة في حقله وكلياته، حيث يعد ذلك سماحته، من فروض الدراسة الفقهية، التي بيّنها المولى جلّت قدرته، في النص المقدس، والتي وقف المجدد المفكر عليها، في بصائرها واستدلالاتها.

ففي قوله تعالى، في الآية الكريمة، (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)، حيث يستبصر فيها ما يجب على الأمة في مجموعها، أن يكون فيها قوم يبينون سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غيرها من العلوم والمعارف، التي أرشد إليها القرآن الحكيم بالإجمال، وبيّنها العلماء بالتفصيل، عملاً بإرشاده، كعلوم الدين الشاملة من فقه وأصول ودراية ورواية، من حيث إن العلم بسنن الله تعالى، من أهم العلوم وأنفعها.
وفي بيان الأمر لاستبصار المنهج التاريخي، يقول الله عز وجل: (إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس)، كما يقول تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
وعليه فإن الوظيفة البشرية، هي البحث عن هذه الآيات المنتشرة في الآفاق، حتى تتبين حقائق الوجود، وهذه مهمة النخبة ممن أوتي علماً وقدرة، على استنباط الحقائق الكونية، واستقراء العلوم فيها، ولذلك يقول تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
فالعلماء هم أهل الخشية، لعلمهم بهذه السنن المطروحة في الآفاق، ولرؤيتهم حقائق الكون، وتبصرهم فيها، وهو ما يستدل فيه الحكمة الكبيرة، والرؤية الثاقبة الصائبة، في تبني المجتهد المجدد، لهذا الفرض القرآني، في التفصيل والتوسّع والإحكام، في الدراسات والبحوث التاريخية.
وقد يطرح تساؤل مشروع، عن أهمية دراسة التاريخ، في ظل وجود كتاب الله تعالى، وسنة رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم)، وقد يختزن التراث الإسلامي، الفقهي والفكري، ما يغني عن دراسة التاريخ، غير أن الباحثين والمتخصصين في العلوم التاريخية، وفي الفكر الإسلامي، يركنون في الإجابة عن هذا التساؤل، الى حقيقة هامة، مفادها أن العلم في كتاب الله علمان، وهما علم بالكتاب، وعلم أشار اليه الكتاب.
فالعلم الواقع في النصوص المقدسة، سواء في القرآن الكريم أو السنة الشريفة، هو العلم المتعلق بالعبادات وشكلها التفصيلي، والأوامر والنواهي عموماً، ولكن كتاب الله عزّ وعلى، قد أشار الى علم آخر، يمكن أن يطلق عليه بالعلم الذي أشار اليه الكتاب والسنة، وتحتج قامات الفكر الإسلامي بذلك، الى قول الله تعالى (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
فهذا العلم الذي مكان تحصيله واكتشاف قوانينه، يتم عبر السير في الأرض، والنظر في أحوال الأمم، هو العلم الذي يقصده المفكرون الإسلاميون، وفي مقدمهم سماحة المفكر المجدد أعلى الله مقامه، ولتأكيد الاستدلال فيه، يقول تعالى (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
وللدراسة التاريخية أثر بالغ في السلوك الإنساني، فالسير في الأرض وسيلة لاكتشاف القوانين، والقرآن الكريم، يدل على مجال رحب لاكتشاف الظاهرة البشرية، واستخلاص العبر، فمعرفة هذه القوانين الجامعة، تجعل الإنسان صلباً، في التعامل مع الأوضاع القائمة، فسياق الآيات الشريفة، يدل على أنها أستخدمت في مجال الصراع بين الجماعات، فضلاً عن مسارات الفرد والمجتمع، فهناك أناس مؤمنون، قد يصيبهم القرح، وتدور عليهم الدائرة، والقرآن الكريم بعد أن يأمرهم بالسير في الأرض، يخبرهم أن الآلام متبادلة بين كل البشر، وأن الأيام بين الناس دول.
ويؤكد السيد المجدد هذا التكليف، لبيان الفوائد المعرفية في الدراسات التاريخية، من قول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه): "وسر في ديارهم واعتبر آثارهم"، مبيّناً أن من يسير في الأرض، يتعرف على أسباب سقوط الأمم ونجاحها، وعزّتها وذلّتها، لأن الأسباب تنتهي الى المسببات، فالجامع الواحد، ينتج أثراً واحداً حسناً في الجامع الحسن، وأثراً سيئاً في الجامع السيء، وبذا يستقم العلم، في اختيارات الإنسان وسلوكياته، حيث ينتهي الجامع المعرفي، الى استخلاص القاعدة المشتركة، فيخلص سماحته، إن مثل هذه المعرفة، تفيد في تجنب الأسباب الداعية الى السقوط، والأخذ بأسباب النجاح.
ويقول تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنّه الحق)، فوظيفة المؤمن، هي البحث عن هذه الآيات المنتشرة في الآفاق، حتى يكتشف حقائق الوجود، ولذلك يقول تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فالعلماء هم أهل الخشية، لعلمهم بهذه السنن المطروحة في الآفاق، ولرؤيتهم حقائق الكون، وهي تسير وتتجانس مع ما أشار الله إليه سبحانه وتعالى.
والى ذلك يعبر الإمام أمير البلغاء، في مقاربته الثاقبة، الى قضية النظر الى الدنيا، أنّ "من أبصر بها بصّرته، ومن أبصر اليها أعمته"، ويستدل المفكر المجدد في ذلك، في موضوع "السنن الإلهية"، أنّ من أراد أن يكون عالماً، أصبح متواضعاً، أمّا إذا كان جاهلاً، فقرينه في الجهل التكبّر.
وفضلاً عن أدلّة المطالب النقلية، في تتبع البحث التاريخي، فهنالك المطلب العقلي، الذي يستدل منه الى الضرورة الملحة لهذا العلم وتفرعاته، من خلال دخلية الدراسة والبحث التاريخي، في العلوم الدينية عموماً، وفي التحقيق الفقهي والعلوم العقدية والكلامية والتفسير ضمناً، فضلاً عن كونها موضوعية في الكثير من تفريعاتها المعرفية، مثل علوم الحديث في الرواية والرجال والطبقات والأنساب.
والجانب الآخر في أهمية الدراسة التاريخية والبحث فيها، هو لتعلّقها في سائر العلوم الأخرى، كعلم دخلي فيها، أو فرعي منها، مما يفسّر أن سائر البحوث والدراسات، سواء الإنسانية أو العلمية التطبيقية والصرفة، تبدأ أوراق بحوثها، ورسائلها وأطاريحها الأكاديمية عادة، في المقدّمات التاريخية، المفصّلة أحياناً، أو الموجزة أخرى، وفق المتطلبات العلمية البحثية.
ومن ثم تأتي الحاجة، لعموم طلاب العلم، والمقبلين في مضانه ورحابه، الى كلّيات المعرفة في التاريخ، لأن التاريخ وتفرعاته، يعد الحجم الأساس والعمود الرئيس، في الواحة الثقافية العامة، التي ينشدها الساعون لامتلاك ناصيتها.
عليه فإن الدراسة للتاريخ، والبحث في السنن الكونية، هما مطلب ربّاني، في المدركات الفكرية والعقدية الإسلامية، وهو مطلب عقلي أيضاً، فالتاريخ هو بيت الخبرة الإنسانية، ومن لا يعرف التاريخ، يتعثّر في مطبات كثيرة، أمّا من استفاد واتعظ ممن سبقه، فحري به ألا يجرّب التجارب الفاشلة، وأن يزيد البناء لبنة.
ولهذه الغاية المعرفية، فقد  بحث السيد المجدد في موضوع "السنن الإلهية هي الأسباب الجامعة"، حيث يؤكد في "مسألة" هذا العنوان، أن السنن الإلهية هي القضايا الجامعة، التي جعلها الله تعالى، مطلقة أو مقيدة، في أمور متشابهة، وأن تسمية هذه القواعد، المستنبطة من حركة الأحداث، بالسنن الإلهية، لأنها تعبر عن إرادة الله في خلقه، وطريقته في تصريف الأمور، في هذه الدنيا.
ويصنّف سماحته هذه السنن، الى سنن دنيوية، وهي ما يلتقيه المرء في خطوات حياته، وأنّ كل ما يكتشفه أو يخترعه الإنسان، إنما هو إكتشاف لسنّة من سنن الله، في بعد من أبعاد الحياة، وهي تتوزع على جميع مفردات الحياة ومعطياتها، والمعارف المختلفة فيها، وأخرى سنن أخروية، تتعلق بالثواب والعقاب، نتيجة أعمال الإنسان، وثالثة سنن مشتركة، دنيوية وأخروية، كمثل أن "المؤمن تحت ظلّ صدقته يوم القيامة).
وبالتأكيد فإن للمرجع الديني المجتهد، دور كبير في تعميم الدراسة التاريخية، كونه معني في تلبية هذه الحاجة الثقافية، للسائلين عنها، والساعين للحصول عليها، ليكونوا قد نهلوا الموضوع، من ثقات المصادر وعدولها، وبالتالي يفتح الآفاق لاستكمال المطلب، في التواصل والاستمرار والإشباع، سواء للمؤلف والباحث فيه، أو القارئ المتلقي.
وعليه فإن الإنغلاق عن هذه الدراسات، والسكوت عن البحث فيها، يترك ثلمة في الدراسة الدينية عموماً، وفي البحث والتحقيق الفقهي بشكل خاص، وبذلك يكون المفكر المجدد، قد أنجز هذا الفرض الكفاية، إن لم يكن عيناً، مما يتطلب من المفكرين والدارسين، استكمال المسيرة العلمية، سواء المتخصصين منهم، في العلوم التاريخية، أو من المتخصصين في العلوم الفقهية، على حد سواء، من بين المشتغلين في البحث والتحقيق، أو الدرس والفتوى، أو التبليغ والخطابة، لجهة الضرورة لجميعهم، أن يمتلكوا ناصية هذه المعرفة، بحدودها المعقولة والمجزية.
ولأجل هذه المهمة الكبيرة، والمشروع العلمي الرائد، فقد كتب المفكر المجدّد في التاريخ، وبحث في مفرداته المنهجية، واهتم بدراساته التفصيلية، وكان الى ذلك توثيقياً من الطراز الأول، وذلك قد تبين في في تراثه المكتوب، والذي أظهر فيه قدراته الموسوعية، وتمكنه من مختلف المصادر والمراجع، خاصة من خلال موسوعته الكبرى في الفقه، والتي ناهزت المائة والستين جزءا، والتي يعد البحث التاريخي، إحدى حلقاتها المكمّلة.
لقد أظهر المفكر المجدّد، قدراته التسجيلية والتوثيقية، في مؤلفاته المنجزة في حقل العلوم التاريخية، حيث حضور المعلومة، والبيانات والمعطيات المتعلقة بموضوع البحث، في وقتها ومضانها ومكانها، على اتساع وتنوّع مراجعها ومصادرها، مهما كانت تفرعاتها، مما يؤشر سعة الاطلاع والثقافة الموسوعية الواسعة، وتوسع القراءات واختلاف اهتماماتها، والتي تأكدت من خلال الحقول المعرفية المختلفة، لحلقات موسوعة الفقه.
ولم يتوقف اهتمام المجدّد المفكر بالتاريخ ومباحثه، من خلال التأليف والبحث فيه، بل كان يوجّه ويدعو الآخرين للإهتمام به، والنشاط في درسه وتدريسه وتحصيله، من خلال منهجيته البحثية، المتعلقة بأدوات المنهج في الاستقراء، أو القياس المنطقي أو التمثيل.
وهو في ذلك إنما يعبر عن حاجة علمية مباشرة، لما له علاقة في التحقيق الفقهي بشكل خاص، حيث يقدم المنهج التاريخي، حجّية موضوعية فيه، سواء في دليل العقل أو الإجماع، وربما في الأدلّة النقلية كذلك، لجهة بيان الأحكام واستنباطها، لما يمكن أن يستوفي الحكم، بالدليل القطعي من الحجية "التاريخية"، وهو ما قد يكون العلّة، لاهتمام المجتهد الفقيه والمفكر المجدد، في هذا المجال.

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=1808
  • تاريخ إضافة الموضوع : 22 شوال 1436هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 23