بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(73)
المحاكمة بين الوجوه السبعة
مناقشة الوجه الأول:
ولكن يرد على الوجه الأول: انه لا إطلاق لكون الآيات الناهية عن العمل بالظن أو بغير العلم يراد بها شؤون العقائد للانصراف أو غيره [1] وان السياق بذلك إضافة إلى شأن النزول شاهد... الخ، وذلك لورود آيات ناهية عن العمل بالظن وهي صريحة في كون متعلقها هو فعل المكلف وحكم المسألة الفرعية الفقهية ومنها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)[2] فان الافك كان هو إتهام مارية القبطية بالزنا، والقذف فعل من أفعال الجوارح وحكمه حكم فقهي وهو الحد وليس من مسائل أصول الدين كما هو واضح.
ظهور بعض الآيات في عموم النهي عن اتباع الظن
هذا إضافة إلى ان بعض الآيات ظاهرة في العموم إن لم تكن منصرفة للعمليات ولا يمكن القول فيها بانصرافها إلى الاعتقاديات [3] بل لا يوجد به قائل ويستبعد ان يتوهم فيها [4] متوهم ذلك [5] ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[6]
فان الخطاب للمؤمنين لا للكفار كي يتوهم اختصاص النهي أو انصرافه لشؤون العقائد بزعم ان معركة الأنبياء كانت مع الكفار على اتباعهم الظن في شؤون العقائد – ومنه تقليدهم آباءهم -؛ إذ الخطاب في هذه الآية للمؤمنين صراحة إضافة إلى سبقها بآيات الاحكام ولحوقها بها فلاحظ ما سبقها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ولاحظ ما لحقها (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً...)[7]
مؤيد لانصراف الآيات الناهية للعقائديات وجوابان
نعم قد يؤيَّد انصراف الآيات الناهية عن الظن الموجهة للكفار، إلى العقائديات، بانه حيث كان الخطاب لهم أطلق النهي عن العمل بالظن وحيث توجه الخطاب للمؤمنين أجمل أو أهمل وسوّر بسور (بعض الظن) كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فيفيد ضم الطائفتين إلى بعضهما اختصاص [8] أو انصراف تلك إلى العقائديات وإلا لكن ينبغي ان يفصل ويجمل ويسور بالبعض كما صنع ههنا.
وفيه: أولاً: ان الآيات الناهية الموجه فيها الخطاب للمؤمنين ليس كلها مهملة أو مسوّرة بسور بعض وشبهه بل بعضها مطلق ويكفي شاهداً على ذلك الاستناد إلى قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فان الخطاب للنبي والحكم عام للأمة، وليس للكفار كما هو واضح.
ثانياً: ان ضم الطائفتين لا يدل على ما ذكر بل غاية الأمر الاستشعار أو التأييد وليسا بحجة بل ان ذلك الاستدلال اسوأ حالاً من الاستدلال بتقييد أحد المثبتين بضمه للآخر. فتدبر
تأسيس (ان بعض الظن إثم) لأصل حجية بعض الظنون
ثم ان ههنا نكتة هامة جداً: وهي ان قوله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) التي تمسك بها بعض الاخباريين دليلاً على كون الأصل في الظن عدم الحجية وأيضاً التي قد يتمسك بها للاستدلال على ان الأصل في الظن عدم الحجية، هي على العكس أدلّ، إذ انها بعقد السلب فيها تدل على حجية الظن في الجملة فان ظاهر قوله تعالى (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) بل صريحه ان كثيراً من الظن وان بعض الظن إثم وهو يفيد عرفاً، بل هو بيّن واضح صريح أو كالصريح لديهم، ان غير الكثير ليس بواجب اجتنابه وان بعض الظن الآخر ليس بإثم وليس الاستناد إلى مفهوم اللقب، وإن كنا نرى حجيته في الجملة على تفصيل، بل بالظهور العرفي القطعي وبظهور التعليل في ذلك [9].
وبعبارة أخرى: لو أراد جل اسمه تأسيس أصل في الظن لكان ينبغي ان يقال (اجتنبوا كل الظنون) أو (اجتنبوا الظن) و (ان كل الظن أو ان الظن إثم) كما قال: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) وهو مطلق ولم يقل أحل الله بعض البيع ولو قال كذلك لما استفيد منه ان الأصل في البيع الحلية، وكذلك قال (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [10] وليس (اوفوا ببعض العقود) وفي الروايات ((كُلُّ شَيْءٍ مُطْلَقٌ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ نَهْي)) [11] ((كُلُّ شَيْءٍ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى يَجِيئَكَ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عِنْدَكَ أَنَّ فِيهِ مَيْتَة)) [12] و((لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً)) [13]
والحاصل: ان التسوير بسور كل أو جميع أو استخدام صيغة الجمع المحلى بأل أو على أقل التقادير المطلق هو الذي يفيد تأسيس القاعدة أو امضاءها، اما استخدام المهملة والمسورة ببعض فلا يفيد إلا الجزئية والإهمال.
وعليه فالآية تفيد: ان الظن على قسمين: ما هو إثم (وهو الظنون المطلقة) وما ليس بإثم (وهو الظنون الخاصة) ويستفاد كونه ظناً مطلقاً أو خاصاً من دليل خارج.
بعبارة أخرى: ان مفاد الآية هو ان بعض الظن إثم، اما هو مصداق الإثم من الظن فيجب التماسه من دليل آخر ليعلم انه منه أو من قسيمه.
احتياج الاستدلال بالآية إلى متمم
نعم يبقى ان وجه الاستدلال بهذه الآية على عدم حجية الظنون، هو بمتمم وقد ذكرنا في بعض كتبنا وجوها ومنها: اندراجه في دائرة العلم الإجمالي في ضمن شبهة الكثير في الكثير ومنها: ان ما كان بعضه غير حجة احتاج إثبات ما هو حجة منه إلى الحجة فان الشك في الحجية موضوع عدمها، ومنها غير ذلك فتدبر.
مناقشة الوجه الثاني
ويرد على الوجه الثاني (ان العلم أريد به الأعم من العلمي): ان المجاز خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بالدليل.
لا يقال: قرينة المجاز هي الأدلة الدالة على حجية الظنون الخاصة؟.
إذ يقال: تلك أعم من كون المراد من العلم العلمي مجازا ومن سائر الوجوه، كالتنزيل أو التخصيص وما أشبه، والأعم لا يكون دليل الأخص، والحاصل: انه في عالم الإثبات لا بد من ملاحظة لسان الأدلة الدالة على حجية الظنون الخاصة.
مناقشة الوجه الثالث
ويرد على الوجه الثالث (ان المراد من العلم العلم العرفي): انه يستلزم تالياً فاسداً لا يمكن الالتزام به وهو ان لا تكون الظنون النوعية (كخبر الثقة والظواهر وغيرها) حجة إلا لو اورثت الظن الشخصي المتاخم للعلم المسمى بالاطمئنان، إذ هذا هو العلم العرفي، واما الظن النوعي إذا لم يورث الاطمئنان فانه لا يطلق عليه انه علم عرفاً خاصة مع وضوح ان العناوين ظاهرة في الشخصية لا النوعية كما حقق في قاعدة لا حرج ويؤكده في المقام قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فالملاك هو (لَكَ بِهِ عِلْمٌ) و(لك) نص في الشخصية وليس ظاهراً فيها فقط.
مناقشة الوجه الخامس
ويرد على الوجه الخامس: ان التنزيل وإن أمكن إلا انه خلاف ظواهر الأدلة فلاحظ قوله ( عليه السلام ) ((الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَان...)) [14] فان ظاهره الطريقية عرفاً لا التنزيل فانه بحاجة إلى عناية زائدة.
بل وكذا قوله تعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فان التعليل ظاهر في ان ما لا يكون جهالة ولا يستتبع ندماً لا يحتاج إلى التبين، وخبر الثقة عرفاً ليس جهالة لا انه جهالة نزّلت منزلة العلم، وليست مما يستتبع ندماً لا انه يستتبعه لكنه نُزّل منزلة ما لا يستتبع، خاصة مع لحاظ ان طرق الشارع هي نفس الطرق العقلائية وان تصرفه في بعضها بالزيادة والنقص لا يجعل أصله – أي الطريق - تنزيلياً بل ان كان فان ما نفاه منزّل منزلة العدم وما أضافه فانه منزل منزل الوجود هذا إن لم يكن كاشفاً عن خطأ العرف فتأمل وتدبر جيداً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
===================================
|